حين تشتغل السياسات الإيرانية وفق استراتيجية متدرجة الأهداف منضبطة الإيقاعات، لا نرى على الطرف الآخر استراتيجية خليجية متماسكة تساعد اليمنيين على تعزيز جبهتهم الداخلية
على الرغم من كل ما قيل وسيقال حتما عن حكومة الأستاذ خالد بحاح، إلا أن معظم الطروحات المثارة بهذا الشأن تنبع من قواعد الاشتباك التي يضخها الماضي بأطرافه المتشاكسة ونزاعاته الموروثة، ولا تعبر بالضرورة عن منطق موضوعي يعكس مصالح الوطن، أو يترجم الحالة الاجتماعية المسكونة بالقلق من هستيريا السلاح ومزالق السباق نحو النقطة الأشد ظلاما في مجاهيل النفق.
إثر صدور قرار رئاسي بتشكيل الحكومة كتبت على صفحتي: رغم تعدد وتنوع واتساع مظاهر الإخفاق في حياة اليمنيين، إلا أن التشكيل الحكومي بهذا القدر من الشراكة، وذلك المستوى من الكفاءة، يدعونا للتفاؤل والمؤازرة.. ولا ريب أن تحميل رئيسي الجمهورية والوزراء مسؤولية الاختيار أفضى إلى الشعور بالرهبة من تبعات الفشل، وتوخي أعلى درجات الاحتراس والتحوط والمواءمة بين الكفاءة والشراكة، وتغليب عنصر القدرة على عامل التمثيل الحزبي، مما جعل المحاصصة الحزبية تبدو على قدر من الخجل، ويُتلى على أطرافها قوله تعالى: "إنما نطعمكم لوجه الله".
تعترض حكومة بحاح تحديات جمة، وتواجهها ملفات شائكة لكنها وإن أحنى الإرث السيئ كاهلها محظوظة بخروج الأوضاع عن دائرة الحسابات الضيقة على الصعيدين المحلي والخارجي.
هناك ما يشبه الحاجة المتبادلة لدى قوى الصراع إلى استشعار قيم العيش المشترك، وضرورة البحث عن مخارج إنقاذية غير التي أنجزتها خنادق الخصومة ولغة الإقصاء والتخوين والنبذ.
السلاح وزهو القوة استنفدا داعيهما، ويكاد الاعتماد عليهما بالنسبة لحركة أنصار الله يتحول إلى مأزق يهدد علاقتها بالمجتمع، فكلما تنامى زخم السلاح الغوغائي كلما تصاعدت الحساسية الشعبية ضد الحركة، وتنامت فرص التعبئة المضادة أمام الآخرين، سواء كانوا خصومها التقليديين، أم شرائح المجتمع التي تستدعيها همجية السلاح إلى دائرة الخصومة.
زد عليه أن مثقفي الحركة يدركون بعمق سر انتصاراتهم التي حيرت المبعوث الأممي إلى اليمن جمال بن عمر، غداة اقتحام العاصمة صنعاء، بينما يعرف هؤلاء أن مردها أخطاء الإخوان المسلمين، وجنايات الرئيس السابق على وظائف الدولة، وترهل القيادات العسكرية الموصومة بالثراء غير المشروع، ودوغمائية الانغماس في ترع التخلف القائم على علاقات ما قبل الدولة الوطنية، والانحراف بموجة السخط الجماهيري 2011 عن رسالة التغيير بالأفضل ومن أجل الأفضل.
الحوثيون ليسوا قسيسين ورهبانا ينبذون مغانم السلطة، وامتناعهم عن المشاركة في الحكومة ليس زهدا خالصا، لكنه الاحتراس من مغبة السقوط الذي ذهبت ضحيته حكومة الوفاق الوطني.
ومن حسن حظ الحكومة اليمنية الجديدة، ولادتها في آخر محطات الرئيس السابق وقراراته الانتقامية باسم المؤتمر الشعبي العام، التي تتغذى على الأمل في العودة إلى السلطة، وحالة الانتشاء النفسي بما أمكن بلوغه من تماثل آلام واقتسام أتراح مع ألد ندمائه وأعمدة سلطته الذاوية.
قل إن مجرى الأحداث في المحافظات الشمالية يرجح ميزان الحكومة، ويجعل احتمالات نجاحها في التغلب على تعقيدات الواقع واردا، لكن ذلك سيحدث فوق جزء من جغرافيا الوطن، ومن غير أدنى تأثير على نذر الخطر الذي يلوح من المحافظات الجنوبية وملعبها المفتوح على الضاحية الجنوبية اللبنانية، وهو الخطر المشكل رصد تفاعلاته الحقيقية في مضمار الصراع الدولي والإقليمي متعدد المحاور والأطراف والمصالح.
وحقيقة الأمر، أن ثمة خللا واضحا في معطيات الصراع الإقليمي على الساحة اليمنية، فحين تشتغل السياسات الإيرانية وفق استراتيجية متدرجة الأهداف منضبطة الإيقاعات، لا نرى على الطرف الآخر استراتيجية خليجية متماسكة، ذات أهداف موحدة تساعد اليمنيين على تعزيز جبهتهم الداخلية، وتقف إلى جانب بناء مؤسسات الدولة، التي كشفت الأحداث الأخيرة أن ضعفها يتعارض كلية مع مقتضيات الأمن القومي العربي، ويغري القوى المتربصة على التوسع في بناء قواعد نفوذ وممرات عبور، يمهدان سبل العمل في العمق الخليجي المفترض وضعه وأمن اليمن على قائمة أولويات دول مجلس التعاون، وبالأخص منها حكومتي الرياض ومسقط.
نثق في حكومة المهندس أو لا نثق، نتفق معها أو نختلف، المشكلة ليست هنا قدر وجودها في ساحة أخرى تتوقف على معظم القراءات التحليلية المتفائلة على تفهمها طبيعة المنعطف التاريخي الذي تمر به اليمن.
والسؤال الملح.. إذا كان لدى الأشقاء الخليجيين وفي صدارتهم المملكة العربية السعودية أولويات استراتيجية فاعلة، فما موقع اليمن على جداولها؟ وأين يأتي ترتيبه؟ وعلى أي شاكلة سيحدد الأشقاء موقفهم العملي من تحديات الحفاظ على الوحدة اليمنية، واستعادة هيبة الدولة وتأمين الاقتصاد من الانهيار؟
القضية هنا.. من قبيل الجهد الاستباقي الذي تدخره الدول تحسبا لكوارث الطبيعة ووقاية من صروف الدهر.
أما إذا ترك الرئيس هادي وحكومته الجديدة وحيدين في مواجهة إيران ودبابير الرئيس السابق ومكائد الإخوان، فلا طائل من بيانات التأييد الدولي الموجه لأغراض الاستهلاك، ولا نتيجة ترجى من الحديث عن كفاءة ونزاهة فريق العمل الحكومي، ولن يكون بمقدور الخليج العربي عمل شيء إذا تأخر أو تعثر.. وسنغدو وإياه على مرمى خطر لا يستهدف أحدنا إلا بمقدار تحفزه تاليا نحو الآخر.