بعدما شهد العقدان الأخيران مبادرات برلمانية عديدة لإعلاء قيمة يهودية دولة إسرائيل، كمعيار في التعامل السياسي والحقوقي فوق قيمة الديمقراطية، جاءت مبادرة حكومية لجمع هذه الاقتراحات مع ما تناثر من بنود في تشريعات قائمة في قانون واحد، هو "قانون القومية". وهو "قانون أساس"، كما يطلق عليه بالعبرية، أي قانون دستوري بلغة الشعوب الأخرى. وينص بنده الأول أن إسرائيل "دولةٌ قوميةٌ للشعب اليهودي". وفي الفقرة الثالثة من البند الثاني من الاقتراح، يقصرها صفتها كدولة قومية عليه، إذ ينص على أن حق تقرير المصير في الدولة خاصٌ ينفرد به "الشعب اليهودي".
ومع أنه ورد في ما يسمى "إعلان الاستقلال"، جاء حذف لفظ المساواة من الاقتراح، تأكيداً للتناقض بين هذه القيمة، من جهة، والطبيعة الاستعمارية للكيان هذا وتحديده كدولة يهودية، من جهة أخرى. ولذلك، يتجاهل القانون فكرة المساواة التي أسسنا نظرياً لتأكيد التناقض بينها وبين بنية هذه الدولة، وعملنا طويلاً على تأكيد ذلك في الممارسة، ويُحِلّ مطرحها تعبيراً جديداً هو "ضمان الحقوق الشخصية". يؤكد اقتراح القانون أنه لا توجد حقوق قومية لغير اليهود في إسرائيل، وهو الذي عبّرنا عنه في شرحنا مطالب العرب في الداخل بحقوق قومية، وليس مدنية فقط. كما يعترف ضمناً باستحالة المساواة، وذلك بتغييبها من اقتراح القانون. وهي القيمة التي تشدقت بها وثيقة الاستقلال، حينما كانت إسرائيل، في بداياتها، تبحث عن قبول دولي بعد احتلال الأرض، وتشريد أغلبية سكانها الأصليين، وهو ما اصطلح عليه الفلسطينيون بالنكبة.
لم تعد ثمة حاجة إلى فضح التناقض بين إسرائيل وديمقراطياته، ولا تعارضها مع المساواة، فكراً وممارسة، إذ إنها تصرح بذلك بلا مواربة، بل تتبناه دستورياً.
لقد واجهنا إسرائيل بهذا التناقض. وها هي "تحلّه"، بتأكيدها على ما تسميه القومية اليهودية، وإخضاع كل القيم الأخرى لها. ويتمثل إنجاز الائتلاف الحكومي الحالي في أنه، بعد هذا القانون، سيكون على الليبرالية الإسرائيلية "المزعومة"، المتمثلة بنظر السياسيين الإسرائيليين الشعبويين، في المحكمة العليا الإسرائيلية، أن لا تتردد، حين ينشأ صراع بين ديمقراطية إسرائيل ويهوديتها، أو حين يضعها عرب الداخل أمام مثل هذا التناقض. وسوف يكون على العالم أن يعرف، حسب هؤلاء الساسة أنفسهم، أن حق العودة، بموجب القانون الإسرائيلي، هو حق لليهود فقط، أما حق العودة للفلسطينيين الذي نصت عليه القرارات الدولية، فلا تكتفي إسرائيل برفضه كسياسة خارجية فقط، بل تعرّف نفسها دستورياً كنقيض له. وبمجرد اعتراف العرب والعالم بها، بتعريفها هذا لنفسها، تنتفي حقوق أخرى، تتناقض مع هذا التعريف، مثل حق العودة.
على هذين الرجلين، يقف هذا القانون. وروحه هي التأكيد على تطابق قومية الدولة ويهوديتها. ولا تكترث إسرائيل كثيراً لكونها تُقَوْمِنُ ديناً، وما كان يوماً طوائفَ دينية في الواقع. لأن هذا، بالنسبة لها، نقاش نظري، لا يسمن دولة ولا يغنيها عن جوع، فالقومية عندها تُعرَّف بالممارسة، وليس بالكلام، وما يحسم وجود، أو عدم وجود، شعب هو سلوكه كشعب. وهذه الممارسة تُبنى بالمؤسسات والقوانين، وباللغة وكتابة التاريخ كتاريخ قومي، وبالجيش الوطني وغيره. إنه يُبنى ويعاد إنتاجه.
فثمة دول وقيادات ورثت شعباً، ومحاولات متفاوتة الجدية لمشاريع قومية، وحولتها إلى طوائف سياسية. وثمة قيادات ورثت طوائف، وحولتها إلى شعب ببناء الدولة والمؤسسات. وهذا هو الفرق بين قومنة اليهودية وتطييف العروبة. وفي الوقت الذي تؤكد فيه إسرائيل على القومية كشرط الديمقراطية، كديمقراطية لليهود، نشهد التمزق الطائفي والهوياتي الحالي عربياً كأحد أهم العوائق أمام التحول الديمقراطي.
تقوم إسرائيل ببناء مؤسسات الدولة القائمة على حساب الحقوق الفلسطينية. ولكن، هذه المقولة ذاتها قد تتحول إلى مجرد شعارات. فإذا لم تمارس هذه الحقوق بالنضال وببناء الشعب، يبقى التعبير احتجاجاً في محله، في أفضل حالاته. كما أنه لا يكفي التأكيد على الغبن والظلم في القوانين التي تسن، بل يجب أن يكون ثمة نضال ديمقراطي ضد ما هو غير ديمقراطي، ووطني ضد ما هو استعماري، تقوده قوى وطنية، ذات صدقية في حديثها عن الديمقراطية والمساواة.