في طرحه اقتراح "قانون القومية" الذي يعرّف إسرائيل دولةً قومية للشعب اليهودي، ويجعل هذا التعريف قيمةً دستورية تعلو على غيرها، قال نتنياهو يوم 27 نوفمبر/تشرين الثاني في جلسة البرلمان، إن كل من يؤيد حل "دولتين لشعبين" يجب أن يدعم هذا القانون، فكل ما في الأمر أن القانون يؤكد على يهودية الدولة وكونها دولة الشعب اليهودي. وهذا، برأيه، يجب أن يكون مقبولاً لدى مؤيدي حل الدولتين. وأشار إلى حيث يجلس نواب التجمع الوطني الديمقراطي قائلاً: فقط هؤلاء يفترض أن يعارضوا القانون. وإشارته هذه تؤكد أن القانون طرح في مواجهة مشروع "دولة المواطنين" أو "الدولة لجميع مواطنيها"، وهي الفكرة التي طرحناها في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وتحوّلت إلى مشروع سياسي مناقض للصهيونية.
ومنذ ذلك الحين، يستحوذ هذا الموضوع على قادة الفكر والدولة في إسرائيل، لأنه كشف فجأة عن مصيبة حقيقية بالنسبة لهم، فهم غير قادرين على الدفاع عن الصهيونية بلغة المواطنة والدولة الحديثة. إنهم يعتبرون أنفسهم دولة ديمقراطية، في حين أن بنية هذه الدولة القائمة على خرائب شعب آخر، تتعارض مع فكرة المواطنة الكاملة، وتعتبر نفسها دولة ملايين البشر من غير المواطنين، والذين مهما تحايلت الصهيونية على تسمية الرابط بينهم وبين إسرائيل، إلا أنه يبقى رابطاً دينياً.
قلنا، من ناحية أخرى، إن العرب الذي بقوا في فلسطين في حدود عام 1948 هم سكان البلاد الأصليون، الأكثرية التي تحولت بفعل احتلال إلى أقلية على الأرض. وهم ليسوا مهاجرين، ليتخلّوا عن هويتهم، ويندمجوا في شعب جديد، كأنهم اختاروا الهجرة إليه. إن لهم، بالتالي، بالإضافة إلى الحقوق الفردية كمواطنين، حقوقاً جماعية كسكان أصليين. وهذه تبدأ بالحفاظ على هويّتهم وتطويرها، وتمتد إلى علاقتهم مع الأرض، ومع بقية العرب.
يأتي القانون الجديد لينفي هاتين الفكرتين: دولة المواطنة وحقوق الفلسطينيين القومية. وليثبت أنه إذا سلمنا بتخلي العرب عن خيار الحرب، في مرحلة التسويات السياسية والمفاوضات التي انطلقت على الجبهات العربية كافة منذ نهاية السبعينيات، فإن هذا المشروع هو النقيض الجوهري للصهيونية. وهو نقيض ديمقراطي سلمي في ظروف المواطنة، ويمكن أن يصلح في كل نضال ديمقراطي في أي دولة، وفي التجسير بين القومية أو تعدد القوميات، وبين المواطنة الديمقراطية. ولهذا أصبح ديمقراطيون عرب كثيرون يتبنون فكرة الدولة لجميع مواطنيها.
وصدق نتنياهو، وقلما يصدق، حين قال إن حل "دولتين لشعبين" لا يتعارض مع القانون. فبموجب هذا الشعار، يفترض أن يكون لكل دولة من الدولتين الحق في تعريف نفسها كتعبير عن حق تقرير المصير لشعبها. والحقيقة إن استخدام تعبير "دولتين لشعبين" في وصف التسوية السياسية في دولتين ليس صحيحاً تاريخياً، حتى بمنطق التسويات. وهو، أيضاً، لا يأخذ بعين الاعتبار حق العودة وحقوق الفلسطينيين داخل إسرائيل.
يحوّل هذا الشعار، "دولتان لشعبين"، التسويةَ إلى قبولٍ بالصهيونية كفكرة، في حين أن قبول حل الدولتين تضمّن قبول واقع قائم، شرط أن يشمل الحل إقامة دولة فلسطينية وحق العودة. وهو ما بدأ كتسوية سياسية قبلت بها م.ت.ف، ولا يفترض أن تتنازل عن فهم التاريخ، ولا عن التناقض مع الصهيونية كفكرة، وإلا فإنها تفرّط بحق العودة وبحقوق فلسطينيي الداخل.
وعلى كل حال، فإن الممارسة السياسية ومسار التطور منذ عقدين ينسفان، يومياً، قواعد هذا الحل وأسسه بتكثيف الاستيطان في المناطق المحتلة عام 1967 من جهة وترسيخ نظام "أبارتهايد" عنصري شامل، وبانتقال السياسة الفلسطينية ليس فقط من التحرير إلى الدولة، وهو التحول الذي أحدثته م.ت.ف. في الثمانينيات، بل من فكرة الدولة إلى التمسك بالسلطة (وأخيراً السلطتين) كبديل ألهتهم به اتفاقيات أوسلو عن الدولة.
ما نسي نتنياهو أن يقوله، ويفترض أن يذكّره أحد به، أنه هو نفسه يعارض حل الدولتين، وتعريفه ليهودية إسرائيل ليس جزءاً من تسوية أقل من عادلة يقبل بها، بل تأكيداً على الطبيعة الصهيونية لإسرائيل، في أوج ممارساتها الاستعمارية والعنصرية ضد الشعب الفلسطيني الأصيل.