شهدت السنوات الأخيرة في اليمن تغيرات كثيرة متسارعة، رافقها صعود سريع وهبوط أسرع لقوى سياسية كثيرة. وعلى اختلاف خطابات هذه القوى ومرجعياتها، إلا أنها متشابهة، من حيث التناقض بين الخطاب والممارسة وتضليل اليمنيين والنهوض على ضعف الأطراف السياسية الأخرى، وهي كذلك متطابقة في الفشل الذريع في الموضوع الوطني. لقد اختبر اليمنيون قوى سياسية متعددة، كالمؤتمر الشعبي العام، وحزب الإصلاح، والحوثيين في الوقت الراهن؛ وجميعها تتساوى في قدرتها على إرباك المشهد السياسي اليمني، وتغذية العجز الوطني. وفي سرد لحالة الحوثيين، نموذجاً للقوى السياسية، نجد هذه الجماعة، كسابقتها، تمضي، بدأبٍ، نحو تحقيق الفشل نفسه وزيادة أسبابه.
حتى مطلع 2011، منحت مظلومية قضية صعدة للحوثيون وضعاً سياسياً فارقاً وتعاطفاً شعبياً، وأسهمت مشاركتهم في الثورة بمنح موقفهم من النظام غطاءً وطنياً.؛ إلا أن مشاركة علي محسن الأحمر، وهو الذراع العسكري للرئيس السابق علي عبد الله صالح حينها، وللإصلاح لاحقاً، في الثورة وتسيّد الإصلاح كان سبباً لامتعاض الحوثيين والحراك الجنوبي، فبينما غير الحراك الجنوبي موقفه من الثورة، وعاد إلى خطاب فك الارتباط، لم يهدر الحوثيون الرافعة السياسية التي منحتهم إياها الثورة، ونقلوا صراعهم ضد صالح إلى محسن والإخوان المسلمين؛ وبدأ بذلك تشكل هوية سياسية للحوثيين، تتجاوز "مظلومية صعدة" إلى تغذية وجودهم نقيضاً لمحسن و"الإخوان".
وعندما عمدت أطراف السلطة الانتقالية إلى خنق العملية السياسية بِ"إجماع سياسي" و"محاصصة" على الوظيفة العامة، لم يتبق صوت معارض يمثل الشارع خارج مصالح أطراف الإجماع، إلا أصوات مدنية محدودة التأثير سياسياً، ومعهم الحوثيون الذين جرى استيعابهم في "الحوار الوطني"، وانتقلوا إلى العمل السياسي، مع استمرار المعارك التي يخوضونها على الأرض.
إضافة إلى المال السياسي والقوة المسلحة، تنامت قوة الحوثيين بالاعتماد على ثلاثة مقومات هي: مظلومية صعدة، مطلب التغيير الذي تبنته الثورة، وفراغ موقع المعارضة السياسية؛ وقدم فشل السلطة الانتقالية والفساد الناتج عن المحاصصة وفراغ موقع المعارضة في المقام الرئيسي، فرصة للحوثيين لإعادة صياغة مواقفهم من محسن و"الإخوان" الذين كانوا يتسيّدون المشهد السياسي حينها، ومنحهم ذريعة للجوء لخيارات عسكرية ضد الدولة، من إسقاط عمران إلى دخول صنعاء من ميليشاتهم، وامتداد معارك السيطرة نحو المناطق الوسطى والغربية.
وعلى الرغم من أن هذه العوامل سهلت للحوثيين فرض سيطرتهم المسلحة على الدولة، إلا أنهم لم يكونوا قادرين على تحقيق ذلك، من دون دعم تحالفات داخلية وخارجية، وكان في مقدمتها التحالف مع صالح الذي راهن (كما يبدو) على حداثة التجربة السياسية للحوثيين، في حين راهن هؤلاء على كون صالح ورقة سياسية محروقة. لكن، يبدو أن رهانات الطرفين لم تكن ذكية كفاية، فسقط صالح في مربع الدعم الدولي للسلطة الانتقالية، وسقط الحوثيون في حالة تراجع سياسي سريع، يوازي سرعة صعودهم إلى تصدر المشهد.
كان انتقال الحوثيين إلى التعبير المسلح، وفرض تقديراتهم السياسية، وسيطرتهم العسكرية على مؤسسات الدولة، ورقة التوت الأخيرة التي عرّتهم، وكشفتهم سياسياً أمام المجتمع، خصوصاً المتعاطفين مع مظلوميتهم، إلا أن الخطأ القاتل الذي ضرب التنامي المتسارع للحركة داخل المجتمع وجعله يتجه عكسياً هو تحالفها مع صالح، واستخدام أساليبه في التعاطي مع الخصوم السياسيين، ما مكّن الحوثيين من تنفيذ مخططهم للسيطرة المسلحة، وشل حركة بقية الأطراف السياسية، إلا أن نتائجه كانت وخيمة سياسياً واجتماعياً، ولاتزال تتفاقم.
على الرغم من هشاشة الواقع اليمني، إلا أنه يمثل مختبراً حقيقياً كاشفاً للقوى السياسية عموماً، والذي لم ينجُ منه الحوثيون الذين حاولوا مداراة سوأتهم التي ظهرت جلياً منذ 21 سبتمبر/أيلول الماضي، فإن هذه القوى، وكما ترتفع في فترة ما، ما تلبث أن تتقزم وتسقط؛ فالحوثية التي نشأت كمظلومية سابقاً، باتت، اليوم، تمارس الاستبداد، مستندة إلى قوة السلاح، وإلى ضعف الدولة، وتآكل القوى المدنية، وانقسام المؤسسة العسكرية، وهي، بذلك، لا تختلف عن نظام صالح الذي ضربت بكل دواعي العداء له، لتتحالف معه، وعلى الأغلب، سيكون لها مصيره نفسها، ما لم تتحلى الحركة بالجرأة للاعتراف بأخطائها، والاعتذار عنها، وإعادة تقديم نفسها للمجتمع، كجزء منه، وليس متسلطاً عليه.
لم ينته عام 2014 الذي كان عام صعود الحوثيين بامتياز، حتى ظهرت مؤشرات سقوطهم واضحة، وربما من أهمها أن حضورهم القوي في الساحة السياسية لم يكن لأسباب قوة ذاتية، أو امتلاكهم مشروعاً وطنياً، وإنما استثمار أخطاء الأطراف السياسية، بالإضافة إلى تناقض الخطاب العام للحوثيين عن ممارساتهم الفعليه في الواقع، والتحايل لسد الهوة بين الخطاب والممارسة بمنطق معارك سياسية مختلقة؛ حيث يأتي مشروع الدولة المدنية ومكافحة الفساد ترويسة رئيسية للخطاب السياسي، وتقديم نقيضها (اللجوء للسلاح واستخدام القوة) وسيلة حتمية لتحقيق هذه الأهداف، وسد هذا التناقض بعدوّ سياسي، هو من يفرض خيار السلاح والعنف، وليس الطرف السياسي نفسه، كما يزعم قادة هذه القوة أو تلك ونُخبها.
كغيرها من القوى السياسية اليمنية، عملت جماعة الحوثيين على تعميم صورة لما يجب أن يكون عليه المواطن اليمني، وفرض هذه الشخصية محدداً لمنح حقوق وحريات اليمنيين أو مصادرتها، وهو ما نتج عنه إلغاء الصوت المختلف ومصادرة حقوقه كمواطن، والتبرير لحالات الانتهاكات والفساد، تحت مظلة الصورة النمطية التي يفرضها. بالإضافة إلى ضعف البناء المؤسسي للحركة، وغياب الديمقراطية ومعايير الحكم الرشيد في البناء التنظيمي، وما نتج عن ذلك من تكريس لمراكز القوى داخلها على حساب مصالح جمهور المنتسبين للجماعة. كما أن مظاهر الفساد المالي والتنظيمي يضرب خطاب الجماعة السياسي، المنادي بالدولة المدنية والديمقراطية في العمق، داخلها وخارجها، حيث صاحب صعودها سياسياً نشوب معارك، ضاربة داخلها على السلطة، والتمثيل السياسي للطائفة الزيدية، والزج بها في معاركها. كما أن أشكال الولاء والمناصرة داخل تكوين الجماعة يقوم على معايير دون الوطنية، وتطغى العقائدية "المذهبية" على قيمة المواطنة.
وفي حين نادت جماعة الحوثي بدولة المؤسسات، وبالمواطنة المتساوية، وسيادة القانون، فإن أداءها، في المحصلة، لم يفض سوى إلى تدمير الدولة وانتهاك المواطنة وتعطيل القانون. وبحسب تقرير المرصد الأرومتوسطي لحقوق الإنسان، بلغت انتهاكات الحوثيين منذ 21 سبتمبر/أيلول وحتى أكتوبر/تشرين الأول 4531 حالة انتهاك متنوعة، من اعتقال وقتل واحتجاز للحريات السياسية والإعلامية، وانتهاكات للممتلكات الخاصة والعامة.
وفي ضوء كل ممارسات جماعة الحوثيين التي يبدو أنها فقدت أسباب مظلوميتها وتعاطف المجتمع اليمني، ربما تكون الأيام المقبلة مقدمة دراماتيكية لسقوطها، وعودتها إلى مربعها المنغلق، كونها قوى فشلت في الاختبار الأصعب، فلم تستفد من أخطاء القوى السياسية الأخرى، ولم تعمل على تخليق مشروع وطني جامع، وإنما جاءت قوة راديكالية، سعت إلى تصفية خصومها السياسيين من الإخوان المسلمين إلى أي صوت مدني يرفض أساليبها القمعية، وهكذا تحولت المظلومية الحوثية حالة ثأرية، تضرب بمصالح المجتمع اليمني عرض الحائط.
إن مسلسل صعود القوى السياسية اليمنية وهبوطها في مرحلة زمنية وجيزة، وهي لم تأخذ دورتها التاريخية الكاملة، ولم نصح بعد من ضجيجها وأخطائها، يحتاج إلى تحليل كثير في جذور هذه الظاهرة السياسية اليمنية الفريدة، فكما شاهد اليمنيون بصبر، وربما بخفة، متوالية سقوط قوى سياسية سابقة، استنزفت حياتهم اليومية، سيكونون شاهداً محايداً للسقوط المدوي للحوثيين، سقوط سيكون أشبه ببناية متآكلة الأساسات.