من الأرشيف

نقد "نظرية المؤامرة" لا يعني عدم وجود مؤامرات

الفعل الإنساني الواعي فعل إرادي، وتقاطع الإرادات والأفعال البشرية ينتج أوضاعاً لم يخطّطها أحد، فتبدو مثل ظواهر الطبيعة أحياناً، أو من صنع يد خفية أحياناً أخرى: قوى الخير والشر، القضاء والقدر، قوانين التاريخ، قوى السوق، وغيرها. وفي الحالتين، تنتفي إرادة الفاعلين وذواتهم ومصالحهم ومستوى إدراكهم وتقديراتهم وسوء تقديراتهم.

والفعل السياسي، مثل غيره، يهدف إلى الوصول إلى غاية، انطلاقاً من وضع قائم، بما فيه ذلك الناتج عن تقاطع الإرادات وتشابك تأثيرات الأفعال الإنسانية الأخرى. ومع ذلك، هو بلا شك يفترض إمكانية زيادة وزن الفعل الإرادي، وتأثيره، في الوصول إلى الغاية المنشودة. وقلما يفعل إنسان وحده، فغالباً ما يخطّط عدة فاعلين سوية (يتآمرون) للوصول إلى هدف مشترك. وهو يبقى مشتركاً فعلاً إذا قام على وعي بمصلحة مشتركة، أو إذا كانوا مدفوعين إليه بإيمان مشترك.

نقد ما يسمى "نظرية المؤامرة" لا ينفي مثل هذه الأمور (المؤامرات، إن شئتم). فليس المقصود من هذا النقد نفي الفعل الإرادي والتخطيط المشترك، في محاولة تحقيق الأهداف، أو جزء منها. ومثالاً على ذلك، يدرك أي مؤرخ أن الإسرائيليين خططوا لحرب 1967، مستغلين أخطاء القيادة المصرية التي نجم بعضها عن سوء تقدير لقدرات العدو، وعدم إدراك خططه، وعدم رؤية إمكانية استغلال العدو الانزلاق المصري في سلسلة من الأخطاء. فلم يكن هدف مصر من طلب سحب قوات الطوارئ التورط في حرب، بل الانتصار في مزاودة بين الدول العربية، والتخلص من آثار عدوان 1956 أيضاً. تمثّل هذا الخطأ باتخاذ خطوات هدفها غير ذلك المعلن.

ونجمت أخطاء أخرى عن الخلافات بين عبد الناصر وعامر، وعدم خضوع المستوى العسكري للمستوى السياسي، وغير ذلك.

وحين رغبت القيادة المصرية أن تصحّح الانطباع السائد أنها تتسبب في حرب، لم يتجاوب الأميركان، ولا أمين عام الأمم المتحدة، مع تبريراتها. كان ثمّة تآمر إسرائيلي، وربما أميركي-إسرائيلي، لاستغلال سبب الحرب المباشر، وهو إغلاق مضائق تيران لضرب النظام في مصر، أو خوف إسرائيلي أن تبدأ مصر الحرب.

وفي الحالتين، كان ثمة تخطيط إسرائيلي ينطلق من المصالح الذاتية بدون حلول وسط، ولإلحاق الهزيمة بالخصم من دون رحمة. وكانت إسرائيل مقتنعة أن حرب 1948 لم تكن كافية لانتزاع اعتراف عربي بإسرائيل وبنتائج النكبة، وأنه لا بد من حرب أخرى واحتلالات أخرى لمقايضتها بالاعتراف.

وكان ثمّة تخطيط مصري فاشل، ينطلق من معطيات خاطئة عن الوضع القائم في إسرائيل وفي القوات المسلحة المصرية، كما ينطلق من صورة القيادة أكثر مما ينطلق من مصلحة البلد، ولم توضع له أهداف واضحة. كان التخطيط أشبه بالتدهور في منزلق. نجد في حرب 1967 تآمراً ناجحاً في مقابل تآمر فاشل، يخلط الأماني بالوقائع، وسوء تدبير في الحرب وقلة حيلة.

لن يجرؤ باحث جدي على الزعم أنه لم توجد مؤامرات قبل حرب 1967، وخلالها وبعدها. وفي مثل هذه الأحداث الكبرى، ينتظر المؤرخون الجديون نشر وثائق جديدة لاكتشاف وقائع لم تُؤخد بالحسبان.

في المقابل، ليست "نظرية المؤامرة" نظرية فعلاً، وهي لا تتعرض لنقد عقلاني، لكونها كذلك. إنها أسطورة، والأسطورة عكس النظرية. فبنية الأخيرة المنطقية تتيح إثبات صحتها، مثلما تتيح دحضها؛ أما الأسطورة، فلا تمكّننا ذلك، لأنها إما تأويلية تجسّد معنى الأشياء، أو هي حكاية خلفية، سردية مخفية، تجري خلف ستار الوقائع.

والمؤمن بها يرى الوقائع مجرد صورة، أو ظل للحكاية الأصلية "الحقيقية" الجارية خلفها. وكل ظرف وتوقيت ومتضرر ومستفيد هو إثبات لها.

وعملياً، تنفي أسطورةُ كمون مؤامرة خلف كل ما يجري التفكيرَ النظريَّ الذي يكتشف المؤامرات الفعلية، وتُغني عن البحث في الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، بدوافعهم وأهدافهم ومصالحهم. إنها تفترض أن كل هذا نافل تماماً، وأن الناس جميعاً مسلوبو الإرادات والغايات والمصالح، فما هم إلا أدوات تحركها مؤامرة خفية.

وتبدأ هذه المؤامرة بقوى الخير والشر، وتنتهي بافتراض القدرة الكلية لدى عدو شيطاني: أميركا، إسرائيل، "الإسلام المتطرف" كائناً قائماً بذاته. وهي تنفي عن الناس حتى العقائد والخرافات ومشاعر الثأر والانتقام والبحث عن معنى في الموت الذي يدفع بعضهم للفعل. فعملية 11 أيلول في نيويورك هي من هذا المنظور مؤامرة حركتها أياد خفية لتوريط العرب والمسلمين ولتخطيط غزو أفغانستان والعراق، أو هي مؤامرة "الإسلام المتطرف" بذاته ضد نمط الحياة الغربي والديمقراطية، من زاوية نوع آخر من "نظرية مؤامرة" عند المحافظين الجدد. وخلف داعش تقف أميركا، وكأنه ما من سبب يدفع أحداً أن ينقم على الاحتلال الأميركي والمالكي وغيرهما من الأخيار الذين تعاقبوا على التنكيل بالعراق والعراقيين، وكأنه لا ظروف اجتماعية وعقائد في مجتمعاتنا تنتج أمثال من يتدفقون للبحث عن معنى لحياتهم خلف تنظيم الدولة.

المقصود ب"نظرية المؤامرة" تفكير أسطوري يرى خلف كل فعل إنساني مؤامرة خفية، يحيكها عدو شيطاني قادر على كل شيء.

وهي تقي من النقد الذاتي، مثلما تحجب الواقع والدوافع والأهداف القائمة عند الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، من دول وأفراد وجماعات، بما في ذلك الافتراضات الخاطئة والأيديولوجيات والعقائد التي تحرك فعل البشر.

وهي نفسها التي تمنع اكتشاف المؤامرات، أي التخطيط المنطلق من مصالح ودوافع محددة، من أجل غايات حقيقية. يدعو نقد "نظرية المؤامرة" إلى الالتفات إلى الواقع، بما فيه المؤامرات الحقيقية، وقابلية التعرض لها.

زر الذهاب إلى الأعلى