[esi views ttl="1"]
أرشيف الرأي

رسالةُ الخروج

مِن مكانٍ ما _شَرقَ الأَرضِ_ أَنظُرُ إليكَ الآن. كم تبدو مُثيرًا للشَّفقةِ و التّوَجُّس مِن بعيدٍ أيها اليمنُ السَّعير! كم هو مؤذٍ و باعِثٌ للقَرَفِ مَشهَدُ أبنائك الذين يتنازعونك من كلِّ الجهات, كم هو مُخجلٌ إلى حَدِّ الوجع ذلك الصراعُ المَحمومُ و المُتجذِّرُ على ما تبقَّى مِن لِحافِك و أسنانِك المعدنيةِ و خاتَمِكَ العَقِيق "خاتمِ الأبوَّة". إنهم يتقاذَفونَ بالكلامِ و بالجُثَثِ أمامَكَ و مِن خَلفِك, إنهم يتشاتمون.. و وَحدَكَ مُلتقى الشتائمِ و النَّكَد. . مِن مكانٍ ما _شَرق الأرضِ_ أَكتبُ إليكَ الآن: تنهّدتُ كثيرًا و غَشِيَتنِي الرّجفة و أنا أغادِرُ عنك, لم أكن أتخيَّلُ أني أحبك إلى هذا الحَد, الحَدِّ الذي جعلني ألتَفِت إلى الوراء و أتساءل كالولد الوحيدِ لِأبيه: كيف لي أن أترُكَ هذا المسكين هنا و عليه كل هذه الحروق و هذه الأكوام من العُقُوقِ و الجَفَاء.. و أُغَادِر؟! كيف لي أن أتخلّى عنه في هذا الظرف و هو يَتَرَنَّحُ و يُرجِعُ البصر كَرَّتَينِ إلى كل الجهات دون أن يَلُوحُ في الأفق البعيد أحدٌ لِيَمنَعَ عنه ما يلقاه أو يُلقِيَ عليه السلامَ, و لو من باب الأجر؟! كم أنتَ حبيبٌ و كبيرٌ و كثير يا وطني.. و لكن في نفوسنا نحن معشر المسحوقين الذين رفضنا أن نكون في صف هذا أو ذاك في حرب استنزافك و نضوبك, و بقينا مكتوفيّ الأيدي مُكتَفِين بشمعة أمل و دمعة خذلان.

نحبك و لا ندري لماذا نحبك, ربما لأننا مشاريعُ صراعٍ جديدٍ سيأتي على ما تبقى منك "كما زعم و يزعم عاشقوك" أو لأننا _و أنت توزّعُ تركتك بين اللصوص و قطاع الطرق_ آثَرتَنَا بهذا الحب و هذا البِّر فقلنا: رَضِينا.. رَضِينا. . مِن مكانٍ ما _بَعيدٍ عنك_ أُسِرُّ إليك: كُنتُ غارقًا بالوَهمِ حَدَّ السذاجة حينما اعتقدتُ أنني لا بد و أن أبتعد قليلًا عنك, لكي أنفضَ عن روحي قليلًا من الغبار الذي تكوّم عليها على مدار خمسة أعوام نَزَفتُ فيها ما لا يُحصى من القصائد و ما لا يُصدّقُ من القهر و الأسى. كنتُ مغفلًا جدًّا و أنا أترك أقلامي لديك و أوراقي زاعمًا أني ذاهبٌ للترويح عن روحي بعد أن شَعَرتُ أني بدأت بأكلِ عمري بملعقةٍ كبيرةٍ!

أدري أنك لم تقرأ لي حرفًا قط, و ربما لم تسمع بي, و لست ألُومُك في هذا إذ كيفَ لِمُحَاطٍ مثلك بكل هذه الجَلَبَةِ و الغُبار و البارودِ أن يستفيق على صوت قصيدة أو ينام على أصابع عازفٍ أو تنهيدةِ عاشق؟!

. مِن مكانٍ ما _لا يُشبهُك_ أهمِسُ في أذنك: لقد تأخرتَ كثيرًا يا وطني.. تأخرتَ كثيرا, و الأدهى من ذلك هو أنهم ما زالوا يشدونك إلى الوراء. كم تمنيتُ _و أنا أُطِلُّ الآن مِن هذا المكان الشاهق و المُحاطِ بكلِّ أسباب و ألوان السعادة و الهدوء_ كم تمنيت لو كنت معي, ليس لأنك في أمَسِّ الحاجة إلى هذه الراحة, ربما أكثر مني, لكن لكي تصدقني و لو لمرةٍ واحدة أنك تأخرت.. تأخرتَ كثيرا.

كم تمنيتُ و أنا أُحَمْلِقُ في الأفق البعيد هناك أن تشعر و لو لمرة واحدة بالغُربة المُرَّةِ التي يتجرعها أبناؤكَ, أولئك الذين أُرغِمُوا على فراقك لكي يعيشوا, يعيشوا فقط, بعد أن أحاط بك كل هؤلاء المرتزقة و ضَرَبوا حولك سياجًا من اليأس و النَّكدِ مانِعِين ملايين الناس ممن يُكِنُّونَ لك كل الحب من الاقترابِ منك و السلامِ عليك, لقد غادر أغلبُ مُحبيك يا وطني, غادروا حاملين حبهم الصادقَ و أملَهم المتبقي بعودتك إليهم و عودتهم إليك, لعلك لم تشاهد بعضهم ذات مساءٍ و هم يلتَحِفُونَ بك و يهتفون لك بالفداء و الولاء من على المدرجات, لكني رأيت و سمعت, و أدركت أنك لست ضعيفًا و لا وحيدا, كل ما ينقصك هو أن تُريد.. أن تريد فقط. . من مكانٍ ما _شرق الأرضِ, بعيدٍ عنكَ, و لا يُشبهك_ أحبك.

كوالالمبور _ ماليزيا

زر الذهاب إلى الأعلى