لا يشبه اليمنيون بقية شعوب الله، إلا في أحلامهم وتطلع ثوراتهم. لكن، لا نصيب لهم من الوطن إلا الخيبة، وخذلان كل من وعدهم بما يستحقون من الإنسانية. وفي اليمن فقط، تأتي المصائب فرادى وجماعات، وتُعمّر أكثر من حياة اليمنيين، ويتفق الجميع على خذلانهم، حتى أبناؤه المقهورون.
مثل كل الثورات النبيلة، اتحد المقهورون مطلع 2011 لإسقاط دكتاتورية علي عبد الله صالح؛ رفع كل اليمنيين سقف تطلعاتهم، وفعلوا أكثر مما في وسعهم لتحقيق أحلامهم، لكن، ودوناً عن كل الثورات، لم يهرب صالح أو يحاكم، وتفاءل كثيرون بعدم لجوء اليمنيين للتنكيل بالديكتاتور على غرار ما حدث في ليبيا. وحدهم اليمنيون من يتفق الجميع، في الداخل والخارج، على خنق ثورتهم، وترحيل مصالحهم وتطلعاتهم. ولهذا الغرض، جرى تصميم "المبادرة الخليجية" التي راعت مصالح كل القوى الداخلية والخارجية، ما عدا مصالح اليمنيين الحالمين، وهتافاتهم في الساحات.
كان لدى اليمنيين بعبع صالح الذي خرج من الثورة بضغائن أكثر ضد شعبه، وانضمت إلى جوقته أحزاب اللقاء المشترك التي عارضته، طويلاً، حتى آمن بها الناس، لكنها لم تكن أقل سوءًا منه، ولا أكثر حرصاً على الشعب الذي يتقاتلون للتسلط عليه. حتى بعد خروجه من السلطة، ظل صالح يثير مخاوف اليمنيين، وأضيف إلى تلك المخاوف استلاب القوى السياسية والشهية المفتوحة لحزب الإصلاح، لالتهام كل شيء. صار لدى اليمنيين بعبعين: صالح" وحزب الإصلاح، يستخدم كل واحدهما الآخر، لتخويف اليمنيين وابتزازهم.
اليوم، لدى اليمنيين بعبع ثالث، جماعة الحوثي التي تحالفت مع صالح (عدوها اللدود)، ولديها شهية كبيرة للسلطة، وبخبرة سياسية أقل من صالح والإصلاح. مستغلة ضعف القوى السياسية الداخلية، وتجاذبات الفرقاء على مثلث السلطة (القبيلة والجيش ورجال الدين)، والتحالفات الخارجية الجديدة (التحالف ضد "داعش" والتقارب الأميركي الإيراني). اتجهت جماعة الحوثي إلى توسيع نطاق سيطرتها عسكرياً، حتى وصلت إلى إسقاط العاصمة ومؤسسات الدولة في قبضة لجانها الثورية المسلحة، وأخيراً، اقتحام القصر الجمهوري ومنزل الرئيس عبد ربه منصور هادي. وفي طريقها إلى تحقيق ذلك، وعلى غرار ما فعله حزب الإصلاح بالثوار المستقلين، وشركائه السياسيين، قضت الجماعة على البقية المتبقية من الصوت المدني الذي ساندها في "مظلومية صعدة"، وتقاطع معها في موقفه من صالح ثم من "الإصلاح" تالياً.
من داخل القصر الجمهوري، ليلة الجمعة 6 فبراير/شباط 2015، أعلن الحوثيون حل البرلمان اليمني، وترتيب انتقال السلطة عبر تشكيل مجلس وطني ومجلس رئاسي ولجنة أمنية عليا، سيتم تشكيلها جميعاً بشكل منفرد من اللجان الشعبية والثورية المسلحة التابعة لهم؛ مؤكدين رغبتهم بالتفرد بالسلطة والقرار الوطني في اليمن، بعد فشل محاولتهم للحكم في ظل الرئيس هادي الذي باستقالته وضعهم في مواجهة مباشرة مع الشارع والمشروعية التي يتكئون عليها.
لم يكن إعلان الحوثيين مفاجئاً، وعبّر بوضوح عن الذهنية الأحادية والنزقة للجماعة، لكنه، أيضاً، إعلان مفجع ومقلق، ويضع مستقبل الدولة اليمنية، وأحلام الناس في حياة كريمة، تحت رحمة قوى عصبوية ومليشياوية. ويأتي إعلان الحوثيين كقرار سياسي انفرادي لقوة متغولة، أرادت استكمال السيطرة على السلطة، ولا بأي حال "إعلاناً دستورياً"؛ وهو إجراء توقعه كثيرون، وعوّل عليه آخرون، لوضع الحوثيين في مأزق سياسي ووطني، عالي الكلفة على الجميع، بمن فيهم الحوثيون أنفسهم. وبالتالي، لا يملك إعلان الحوثيين أي شرعية قانونية أو دستورية، والشرعية الوحيدة له هي قوة السلاح الذي يعززه ضعف الأحزاب السياسية اليمنية، قليلة الحيلة والمسؤولية الوطنية أصلاً، وتهديد الحوثيين باللجوء إلى خيارات مسلحة عنيفة وغير مسؤولة.
على الرغم من التداعيات السياسية والاقتصادية الكارثية، الناجمة عن إعلان الحوثي، إلا أنه يؤكد الواقع الذي يعيشه اليمنيون، وأسباب الفشل الوطني المتراكمة منذ سنوات طويلة، والتي لم تستطع ثورة 2011 تفتيتها، أو إزاحة أسباب الفشل الذي يبدأ من إرث صالح الذي مازال يفتح عين أحقاده على جميع اليمنيين، ويغمض الأخرى على أحلام الحكم والسلطة مجدداً، وكذا أحزاب اللقاء المشترك التي كشف أداؤها السياسي عن عورات وطنية، لا يمكن سترها. وأخيراً، جماعة الحوثي التي نجحت في إحراق ما تبقى من مركب العملية السياسية في اليمن، لتجمع، في المحصلة، كل مثالب سابقيها، من الخفة والتغول ومصادرة خيارات اليمنيين.
وفي مواجهة إعلان الحوثيين، وعجز القوى السياسية الأخرى وتخاذلها، لم يكن لدى الناس سوى التعبير عن رفضهم، باللجوء إلى إعلانات موازية، وخيارات تشظٍّ وطني؛ ففي الجنوب، يجري الحديث عن "فرصة تاريخية" لفك الارتباط عن صنعاء، في حين تتعزز فكرة استقلال مناطق يمنية أخرى، تحت خطر الأقلمة الذي يهدد ما تبقى من وحدة اليمن الكبير.
وفي المقابل، كشفت ردود الأفعال الإقليمية والدولية على إعلان الحوثيين عن أزمة أخلاقية عميقة، تعيشها هذه القوى، والتي برزت، أيضاً، في تعاطيها مع بلدان ثورات الربيع العربي؛ فليس معيارها الحفاظ على السلم الأهلي في المنطقة، وإنما الحفاظ بقدر كبير من الواقعية الفجة على معادلات مصالح الدول الكبرى وتقاطعاتها. ولأن هذه المصالح تتقاطع، منذ فترة طويلة في اليمن، البلد المريض والمثير للقلق، والذي لا يستوجب إزالة مرضه، وإنما أن يظل في غرفة الإنعاش.
لا تبالي أميركا بسيطرة الحوثيين على السلطة في اليمن، بعد التقارب الإيراني وأزمة الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، فأميركا تريد الحفاظ فقط على قدرتها الأمنية، في القيام بعمليات ضد تنظيم القاعدة. ومن الأرضية التي تشتغل عليها هذه القوى، فإن أمن اليمنيين وسلامتهم، أو وحدة اليمن، لا يمثل هماً رئيساً، ولا يدخل اليمنيون في هذه المعادلة، إلا باعتبارهم "كائنات تشغل حيزاً من الفراغ"، و"من الجيد أنها لا تزال قادرة فقط على التنفس".
ربما يتنفس اليمنيون، اليوم، برئة واحدة، هي رئة الحظ لا أكثر، رئة قدرتهم على البقاء واحتمال جموح الحوثي، وخذلان القوى السياسية، فإعلان الحوثيين يهيئ فرصة سريعة لموت اليمن الواحد والموحد، ويمثل فرصة تاريخية ليثبت الحوثيون لأنفسهم أنهم يمتلكون القوة، في مقابل إثباتهم لليمنيين أن الدورة الأخيرة للقوى والطغيان تنتهي، دائماً، بكارثة، كما أنهم أوجدوا فرصة للقوى المحلية العصبوية التي تنشط في فضاء التشرذم الوطني، ومنحوا القوى الإقليمية والدولية، أرضاً واسعة، لأن تحلم الديناصورات بزمن الإمبراطوريات الكبيرة.
سيعيش اليمنيون دورة جديدة من العماء، بعد أن خذلهم الجميع، لكنهم سينهضون لمقاومة القهر والظلم والعدوان، كما يفعلون، في كل دورة تاريخية مظلمة، وسيتابعون تدريس أبنائهم حكاية الفأر الذي فجر السد، أمام صمت القوى السياسية الداخلية وحيرة الجيران.