بلد بلا رئيس، بلا حكومة، بلا برلمان، بلا جيش ولا أمن، بلا قوى ونخب سياسية مسؤولة وفاعلة، وبلا أصدقاء وحلفاء يراعون تطلعات أبنائه، أو حتى الاستجابة للحد الأدنى من احتياجاتهم الإنسانية. شعب ومجتمع بلا شيء، ولا أحد في مواجهة جنون جماعات دينية، تتسلط عليه بالتطرف والسلاح؛ هذه هي "الجمهورية اليمنية"، وهذا هو "العالم" يعلن، اليوم، تخليه عن اليمنيين، بإغلاق البلاد على دورة العنف، والاكتفاء بمناقشة أولوية تأمين البلاد المجاورة من تداعيات ما يجري داخل اليمن.
يعامل العالم اليمن كطفح ومرض جلدي يخشى من عدواه. إعلانه براءته من اليمنيين أمر مغيظ ومقرف، كون هذا "العالم" وصراع أطرافه على مصالح سياسية واقتصادية في اليمن، هو ما أوصل البلاد إلى هذه المرحلة من الفشل الوطني والكارثة الإنسانية. فالعالم هو من دعم علي عبد الله صالح عقوداً، وهو من بارك "المبادرة الخليجية" التي لم تفعل شيئاً سوى الإبقاء على أسباب الفشل الوطني، وتأهيل الأوضاع ومكونات المجتمع اليمني للوصول إلى هذه المرحلة. إن براءة "العالم" اليوم من دم اليمنيين وسد الفضاء عليهم ومنعهم من التواصل مع العالم فعل أناني ولا إنساني، ولا يهتم سوى لتجنيب "ضمير العالم" المرهف الاطلاع على المأساة الوطنية والإنسانية التي أوجدت شروطها مصالح العالم الأناني والانتهازي.
بسبب رخاوة القوى والنخب السياسية والمشكلات الوطنية الداخلية لليمن، التي لطالما غذّتها الأطراف الدولية، لتحقيق مصالحها أو حمايتها، عوّل اليمنيون على تدخل المجتمع الدولي، ودول الخليج، لمنع انفجار الأوضاع وحدوث كارثة إنسانية، أو لحماية أمن الإقليم والمصالح الأجنبية في اليمن. ولهذا السبب، ربما تساهل اليمنيون في منح التسهيلات للمصالح الأجنبية، وحتى أكثر مما يجب التساهل في حالات كثيرة من الجشع الأجنبي. سقطت اليوم موضوعية هذه المقايضة، وأعلن الإقليم والعالم أنه لا يأبه، ولا يتحمل أي مسؤولية؛ وإذا كانت مخاوف الإقليم والعالم ومصالحهما من يعول عليها لتشكل دافعاً لمنع انفجار الأوضاع في اليمن، فإنها اليوم، وبحساب الربح والخسارة، لم تعد واردة، إذ تعرف الأطراف الأجنبية أن أي طرف يمني يستولي على السلطة سيحمي مصالحها، كما قدم نموذج سورية والقدرة على حصر العنف داخل الدولة السورية، وحماية الدول المجاورة (الأردن وتركيا) من تداعيات الانفجار السوري، أزال مخاوف دول الإقليم مما يحدث في اليمن. وإزاء هذه المعادلة الجديدة، يعلن الإقليم والعالم أن مقايضة اليمنيين لم تعد مجدية، وأن عزل اليمن أقل كلفة عليها من التدخل لمنع الأوضاع من الانفجار. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، وللنكاية أكثر، يعلن الإقليم والعالم أن إجراءات العزلة التي اتخذها هي من أجل اليمنيين.
لم تعد القوى السياسية اليمنية، والمجتمع الدولي من ورائها، متمسكاً بالشرعية التي جاء منها الرئيس المستقيل، عبدربه منصور هادي، إلى السلطة، أو، على أقل تقدير، بإعادة الوضع السياسي في اليمن إلى ما قبل 6 فبراير/شباط 2015، بعد بسط جماعة الحوثي يديها على مقاليد السلطة، وترتيب انتقالها، وفق رؤيتها الأحادية، إذ يظهر لأي متابع أن التقاطعات المحلية والإقليمية والدولية في اليمن اتفقت على شرعية الأمر الواقع، حتى لو كانت شرعية السلاح والعنف، والمهم أن تبقى الزوبعة في الفنجان كما يقال. وفي واقع عالمي وعربي متغير، يبدو أن فكرة الشرعية نفسها، شرعية الشعب أو الانتخابات، مختلفٌ عليها، كما حدث في مصر مثلاً، ويمكن طيها ببساطة، وفق تسويات المصالح الدولية والإقليمية لخارطة طريق، تنتجه ذهنية المصلحة، وتفادي الضرر.
من منطلق تفادي الضرر الناتج عن سيطرة الحوثي، لم تفكر هذه القوى بإزالة أسباب الضرر ومعالجته، بل قامت بخطوة غير مسؤولة، عمقت من جذور الأزمة السياسية والإنسانية التي يعيشها الشعب اليمني، حيث عمدت هذه البلدان إلى إغلاق سفاراتها، معتقدة أنها، بهذا الإجراء، ستفرض عزلة سياسية على سلطة الحوثي، وتجبره على العودة إلى طاولة التفاوض، متناسية أن هذه الجماعة لا تعول على مثل هذه الوسائل، لإيمانها العقائدي أنها في حالة حرب ضد كل ما هو أجنبي. وبالتالي، ليس هناك ما تخسره؛ وفي الأول والأخير، لن يعاني من هذا العزل سوى اليمنيين الذين تضررت أوضاعهم الاقتصادية، بالإضافة إلى شعورهم بالخوف، كونهم محاصرين ومعزولين، بسبب مغامرة جماعة يمنية ضالة أخرى، لا تعبر إلا عن إرادتها، بمنأى عن السواد الأعظم من اليمنيين المسحوقين.
في المقابل، وإن كان لا يمكننا الحكم قطعياً على نيات جماعة الحوثي، وما تعتقد من خير وشر في ما قامت به، فإنه قطعاً لا يمكن اعتبار ما قامت به الجماعة عملاً حكيماً ومسؤولاً يخدم مصالح اليمنيين. لا شك في أن جماعة الحوثي ستتأثر بالضغوط السياسية عليها، في الداخل والخارج. لكن يخطئ الداخل اليمني، والخارج الإقليمي والدولي، بتقدير الضرر السياسي على الحوثيين، مع تجاهل تام أن المتضرر الأول هو المواطن اليمني الذي تقضي هذه الإجراءات على ما تبقى لديه من بأس لمقاومة هذه الجماعة. لم يتح لجماعة الحوثي السيطرة على الدولة، إلا عبر نجاحها في تعقيد الأوضاع، معززة شلل الدولة، وبقية الأطراف السياسية اليمنية، وإجراءات "حصار اليمنيين" لا تعدو أن تعزز الإرباك والعجز الوطني الذي يشيد عليه الحوثيون سلطتهم القاهرة.
في هذا الوقع السياسي اليمني المعتل، تتربع جماعة الحوثي، اليوم، على هرم السلطة، بعد أن جيرت أخطاء الأحزاب السياسية اليمنية (اللقاء المشترك) على مدى ثلاثة أعوام لصالحها، وانتقلت الجماعة، الآن، من مربع المتفرج، أو الصوت الصاخب الذي يدّعي تمثيل الشارع اليمني المعارض، إلى مربع السلطة القاهرة، فلم تعمل، منذ انقلابها، على تخفيف الأزمة على اليمنيين، أو مد جسور الثقة بينها وبين باقي أطياف الشعب، بل وكأنها تخوض حرباً ضدهم، عمدت إلى الحكم، وفق أدوات السلطة الشمولية القامعة، سواءً بالتعالي على منطق الأحزاب السياسية المتهافتة على أي تسوية، تضمن حصولها على جزء من قسمة "يمن ما بعد فبراير 2015"، ووضع شروط الحوار والتفاوض، وفق قرارها السياسي، أو في قمعها التظاهرات الاحتجاجية على الانقلاب، وممارسة الاعتداءات، وإغلاق الصحف، وخطف المتظاهرين والتنكيل بهم، مستعيرة، بطريقة مرعبة، أساليب النظام الذي كانت جزءاً ممن ثاروا عليه في فبراير 2011.
لدى اليمنيين، اليوم، مشكلة وطنية مركبة، وأوضاع تتجه إلى الانفجار على كل الأصعدة؛ لديهم إعلان الإقليم والعالم براءته منهم، وعزلهم داخل صندوق احتراب داخلي، عملت هذه الأطراف الأجنبية، بدأب، على تغذيته طوال السنوات الماضية. لديهم "الحوثيون": جماعة دينية مسلحة، تعد اليمنيين بالخلاص وتمنحهم الهلاك. لديهم "القاعدة": جماعة دينية مسلحة أخرى، أوجدت الجماعة الأولى لها أسباباً للازدهار، باعتبار كل من الجماعتين نقيض سياسي للأخرى، ولكل اليمنيين. لديهم قوى ونخب سياسية، لا تفعل شيئاً سوى احتكار التمثيل السياسي، وتعطيل وظيفته. لدى اليمنيين، اليوم، مشكلة وطنية، بحجم وجودهم نفسه، وفيها الأسوأ من كل شيء؛ وربما، بشجاعة وجنون من لم يعد لديه ما يخسره، ليس أمامهم للنجاة سوى ما تبقى لهم من إرادة وسخط، لقلب الطاولة على كل أسباب الخذلان والعنف الوطني.