هناك مجهول كبير في الواقع العربي عموماً، هو الإنسان العربي، من حيث بنيته الثقافية والاجتماعية، أولاً، ثم البنية الاقتصادية والسياسية، ثم البيئة الجغرافية للمنطقة العربية، والكيفية التي يتطور فيها الإنسان العربي داخل هذه البيئة عموماً، والقاموس المعرفي للإنسان العربي، وكيف يتشكل ويتم بناؤه وبماذا يتأثر.
وهنا، لا أعتقد أن هناك نموذجاً واحداً للإنسان العربي، على الرغم من أنه يشكل قومية واحدة، حيث يوجد الإنسان العربي في بيئات مدارية، وما فوق مدارية، كجغرافيا، ويكاد يكون النموذج الصحراوي الأكثر سيادة، لكنه، أيضاً، فلاح محترف في أقسام أخرى من العالم العربي، وراعٍ ممتاز، وتاجر شاطر أيضاً، وحرفي جيد في المراكز الحضرية العربية في الوقت نفسه. وعلى الرغم من وجوده على البحار الدافئة بكل خيرات هذه البحار، فإنه، قليلاً، ما احترف الصيد البحري، وقليل السكن للسواحل البحرية، وتكاد تكون مناطق ضعف وجوده السكني وتجمعه، على الرغم من أنه ورث مهناً بحرية مرتبطة باستخراج اللؤلؤ، فإن الثقافة الصحراوية خصوصاً، والثقافة المدارية الجافة، هي السائدة أو المهيمنة على بنيته الثقافية، وتنعكس على أغلب أنماط سلوكه، ما يجعل البنية الاجتماعية تبرز، على نحو واضح، وتمتد إلى البنية السياسية والاقتصادية.
وهنا، فإن الإشكال ليس في الحديث عن القبيلة والعشيرة، أو دورهما في السياسة، إنه في المجتمع نفسه، وهو ليس إشكالاً ثقافيّاً عميقاً أو كبيراً، لكنه مرتبط بعمر البنية الحداثية، فهذه مجتمعات تقليدية، يكون الصوت الأعلى فيها للجماعات ذات البنيات التقليدية، وتهيمن عليها الجماعات الدينية المذهبية والطائفية أو العشائرية، لأن هذه المجتمعات لم تنضج فيها البنى الرأسمالية، أولاً، من الناحية الاقتصادية، لكن القائم من هذه البنى بنى حديثة وهشة من جانب، ومن جانب آخر، إنها ذات بنيات عائلية، وهي المؤسسات الأكثر نجاحاً في العالم العربي! وبالتالي، تعمل هذه البنيات ربما على تعزيز وجود أدوار سياسية للعائلة، أو العائلة الممتدة التي تكون عشيرة أو قبيلة.
والفرد والعائلة والقبيلة والشعب أدوات البنية الاجتماعية في العالم العربي، كما هي في العالم، لكن الأشكال الحديثة من التنظيم المجتمعي التي تسمى منظمات المجتمع، تقتضي تشكيل بنى ما بعد القبيلة بنيات تتمدد إلى ما فوق القبيلة إلى المستوى الوطني، وهذا يرتبط بعوامل متعددة، في مقدمتها الجغرافيا، وطبيعة النظام السياسي، ومدى حسم المسألة الوطنية أو المواطنة، وإطلاق التنمية السياسية.
فأغلب هذه البلدان كانت تحت رحمة أنظمة ثورية عسكرية، في أغلبها قائمة على شرعية الثورات العسكرية، أو ثورات التحرير العسكري التي كانت تختزل الكل في واحدية السلطة. وبالتالي، إعاقة إيجاد بنى ما فوق قبلية وعشائرية بتحريم التنظيمات السياسية، بل إن بعضهم كان يحرّم حتى عمل التنظيم النقابي نفسه، كما أن حداثة المدينة العربية وطبيعة بنيته التي تولدت من الهجرة الداخلية الكبيرة، وهشاشة الولاء الوطني، كثقافة وطنية للمجموع، يجعل حالة ما قبل الثقافة الوطنية الحاضرة الأكبر من الثقافة الوطنية، كنتيجة عامة لثقافة الاستبداد التي كرستها الأنظمة، نتيجة لثقافة سيادة اللامشروعية لحكم البوليس والانقلابات العسكرية في الأنظمة الجمهورية العربية.
كانت هذه الأنظمة تضرب كل بنية ذات امتداد وطني، بمفاهيم ثقافية جمعية، وربما يعود السبب إلى أن الجماعات الممتدة، كأحزاب سياسية ونقابات بوعي ثقافي حقوقي وسياسي، تعمل على كسر الاستبداد، فكان المجتمع يلجأ مضطراً إلى البنيات الاجتماعية ما قبل وطنية، وهي الطائفية أو العشائرية أو المذهبية، التي تغض السلطة المستبدة الطرف عنها سياسياً، لأنها مكونات يمكن ترويضها، أولاً، والسيطرة عليها ثانياً، واستخدامها ضد الآخرين ذوي البعد الوطني، كما أن السلطة نفسها كانت تبدو ذات عصبيات أيديولوجية سياسية ظاهرياً، لكنها، في حقيقتها، كانت بنيات عشائرية وقبلية وطائفية (دولة العصبية ما قبل الوطنية).
وأعتقد أن التجربة الصومالية تستحق القراءة، اليوم، لتفكيك هذا الجانب، فقد تميز الشمال الصومالي عن الجنوب الصومالي، إذا كان الشمال تحت البريطاني والجنوب تحت رحمة الاستعمار الإيطالي الذي عمل على تفكيك القبيلة، من أجل سهولة الاستيلاء على الأرض النهرية في المناطق الزراعية الجنوبية النهرية، في حين أن الاحتلال البريطاني لم يتعرض للبنية القبلية في الشمال، المكون من الرعاة والصيادين والمزارعين الموسميين، بل دعم هذه البنية.
لذلك، عندما انهارت الصومال كان شمال الصومال الوحيد الذي تراجع إلى البنية الاجتماعية، من أجل إنقاذ البنية السياسية، واستطاع جمع شيوخ القبائل والبنى السياسية والثقافية، واستعاد مشروع الدولة لشمال الصومال، في حين كان التدمير، للبنى الاجتماعية للجنوب، سبباً في جعل البلاد تتشظى لصالح أمراء الجيش الوطني المنهار، وبالتالي، أنتج أمراء الحرب، إضافة إلى الحركات الدينية التقليدية التي تحول قسم منها إلى حركات متطرفة.
هنا، أعتقد أن الإشكال ليس سياسيّاً فقط، من حيث المنشأ، لكنه اجتماعي اقتصادي، وهو أمر ممكن تجاوزه إلى بنيات أعلى، إذا وجد حاضن سياسي قادر على إبراز وعي ثقافي اقتصادي، وتنمية سياسية ترتكز على حل المسألة الوطنية، وهي الأهم، أي المواطنة المتساوية، وكسر حواجز الانعزال الجغرافي والطائفي بأدوات ناعمة، وكسر حواجز الخوف وثقافة الانعزال واللاثقة الوطنية التي هي بيئات حاضنة للاستبداد.
وهنا، كانت هذه البنى من العائلة والعشيرة والقبيلة والطائفة البنيات الجاهزة لتغطية الفراغ. فكما لا يوجد فراغ فيزيائي، لا يوجد فراغ ثقافي أو اجتماعي أو سياسي أيضاً.