لم تتوافر لأحد سبل الوصول إلى كرسي الرئاسة كما توافرت للرئيس عبد ربه منصور هادي؛ فالرجل تسلم السلطة وفقا للمبادرة الخليجية، وهو على فراش الراحة في داره عام 2011، ثم حظي بإجماع شعبي وسياسي، واختير دون منافس للرئاسة.
اعتبر اليمنيون الرئيس هادي «المنقذ» من أزمة طاحنة ومدمرة، وتوافق عليه اليمنيون (معارضة وموالاة)، وعملوا بكل انتماءاتهم وأطيافهم السياسية والقبلية، من أجل إضفاء الشرعية الشعبية على رئاسته، وصبغوا أصابعهم بلون الأمل، وحَلِموا أن يُخرج البلاد من مأزقها، ويقود الناس إلى بر الأمان، فحصل هادي في «انتخابات» فردية غير تنافسية في 2012 على أكثر من 6 ملايين صوت، أي بنسبة 99.8 في المائة من أصوات المقترعين اليمنيين، في أعلى نسبة إقبال وتصويت حصل عليها رئيس عربي من دون إشراف الداخلية أو تدخل الجيش، ومن دون «بلاطجة» التزوير و«كرابيج السلطان».
وهكذا، فكما حصل الرئيس هادي على إجماع إقليمي بالمبادرة الخليجية، حصل أيضا على إجماع شعبي، ثم على إجماع دولي لم يسبقه إليه رئيس دولة في العالم إلا (ربما) حميد كرزاي، الذي حمله المجتمع الدولي في عام 2001 على لهيب نيرانه إلى رأس السلطة في أفغانستان، لكنه عندما تقرر إجراء انتخابات في 2004، و2009 لم يحصل كرزاي على ما حصل عليه هادي، بل حصل على نسب لم تتجاوز 51 في المائة من إجمالي مشاركة أفغانية ضعيفة في انتخابات وصفت ب«الهزلية والمزورة».
الرئيس كرزاي الذي خذله شعبه، وظل خلال رئاسته للبلاد محمولا على صواريخ الأطلسي، ودبابات الأميركان، استطاع أن يحقق بعض الإنجازات لبلده؛ ففي حين لم تكن هناك دولة، ولا جيش، ولا مؤسسات، وضع بعض مداميك بنائها بمساعدة أميركية - غربية، لكنه استطاع أيضا أن يقول للأميركيين «لا»، عندما رفض التوقيع على اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة الأميركية «تسمح ببقاء جزء من قواتها في أفغانستان»، ورفض أن يكون دمية بأيديهم، وقال: «لا أريد أن تذكر كتب التاريخ أنني بعت أفغانستان للأميركيين».
أما الرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي حمله اليمنيون على أكتافهم إلى كرسي الرئاسة في فبراير (شباط) 2012، وفقا للمبادرة الخليجية، فقد تسلم دولة ومؤسسات، وتسلم الأمن والجيش.. صحيح كان الجيش منقسما، لكن الرئيس هيكله و«عجنه وخبزه» وفقا لمرئياته، وفصله على مقاسات مقربين وموالين له ومن أبناء منطقته، ومن ثم سلم الدولة بقضها وقضيضها لنجليه (جلال وناصر)، فأوكل للأول مسؤولية إدارة المؤسسات المدنية، وأوكل للثاني مسؤولية إدارة المؤسستين الأمنية والعسكرية، والاثنان كانا - ولا يزالان - حدثين صغيرين طارئين على العمل السياسي والعسكري.
خضع الرئيس هادي لحصار ثلة من المستشارين النفعيين، الذين قادوه من إرباك إلى إرباك، ومن فشل إلى فشل، ومن حصار إلى حصار، ورغم ذلك كان الجميع يصفق للرئيس في كل قرار يعلنه، ويهتف لكل خطوة يخطوها، فكان هو «المنقذ» والأمل الذي تبقى، وكانت الفرصة كبيرة أمامه لأن يكون منقذا حقيقيا لليمن الذي يتهاوى على وقع تسابق تجار الحروب وخلافات الأحزاب على تقاسم الحصص.
لم يفطن الرئيس هادي لضعف المستشارين من حوله، فأوقعوه في صراعات القوى حين تخلى عن حياديته التي وصل بها إلى الرئاسة، فتخلى بالتالي عن طموحات الوطن، وتخلى عن شعبيته الكبيرة، وعطل المؤسسات الدستورية، وأفرغ مؤسستي الجيش والأمن من مضمونهما، واكتفى بالرهان على الدعم الدولي والإقليمي، الذي فرط فيه هو أيضا ولم يستفد منه، بل بدده في محاربة طواحين الهواء، وذهبت به «حكمته» بعيدا، فوضع اليمن تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي «2140» الصادر في فبراير 2014، بينما كان بإمكانه أن يتفرغ للمشروع الذي وصل إلى الرئاسة لأجله، وهو إنقاذ ما تبقى من دولة ووطن، وحماية المجتمع من الانزلاق إلى الفوضى والانفلات الأمني الذي يعيشه اليمن منذ عام 2011.
قدم المجتمع الدولي والإقليمي كل سبل الدعم للرئيس هادي، وراهن عليه العالم كله، لكن الرجل تعثر، وخسرت بعثراته القضية الوطنية أهدافها من التغيير، مما يعني أن مواصلة الرهان على الجواد نفسه هي مجرد مغالبة لمنطق العقل، و«كل مهيأ لما خلق له».. فقد توافرت شروط الرئاسة لهادي لكن من دون أن تنطبق عليه، ولذلك خضع لابتزاز مستشاريه، فأقصى نفسه وحجم دوره، والتف على المبادرة الخليجية عبر تقسيم اليمن إلى أقاليم على أسس مذهبية وطائفية، ومدد للأزمة، وذهب للتحالف في الوقت ذاته مع الحوثيين (أنصار الله) وأدخلهم صنعاء ليوقع بالخصوم، لكنهم أسقطوا من يده الرئاسة، ليقدم بالتالي استقالته ويغادر حصار العاصمة إلى حصار من نوع آخر في عدن، وتهتز شرعيته كرئيس متوافق عليه.
ومن هنا، وفي ظل الانهيار المتسارع للأوضاع اليمنية، يمكن برأيي الحديث عن شرعية المبادرة الخليجية ومواصلة البناء عليها، لكن ليس بالضرورة أن ترتبط بشرعية هادي، فالرجل - شئنا أم أبينا - لم يعد قادرا على تحمل المسؤولية، فإذا كانت كل الأوراق والخيوط قد تجمعت له وأسقطها ببساطة من يديه، فكيف يمكن له أن يلملمها من جديد؟!
لا يمكن اختصار اليمن وحصر شرعية إدارته في أشخاص بعينهم، فاليمن مليء بالخبرات السياسية والكفاءات الوطنية، القادرة فعلا على إنقاذ الوضع، والتي يمكن الرهان عليها، وإخراج اليمن من مأزقه، وتجنيب دول الجوار متاعب ما يجري فيه.. والخطأ الكبير سيكون في المراهنة على إصلاح الأوضاع بهذا الشكل، فبعد انهيار المؤسسات واستيلاء العصابات والميليشيات «الحوثية» و«الإخوانية» والقبلية المسلحة في صنعاء وعمران ومأرب والجوف، على البلد والجيش، قد يجري تسليم خليج عدن ومضيق باب المندب لإيران وأخواتها.