قضيت أياماً عدة في الرياض؛ لأكون قريباً من أعمال «مؤتمر إنقاذ اليمن وبناء الدولة الاتحادية»، الذي استضافه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وأذهلني أن اليمنيين الذين تصدروا القاعة وأكثر الحاضرين، يمثلون غالبية من سيطروا على المشهد السياسي في البلاد طوال ثلاثة أعوام؛ عبر لقاءات منتجع موفينبيك، وهم أنفسهم الذين فشلوا في تسيير شؤون الوطن وأوصلوه إلى هذه الخاتمة الكارثية.
وبعد إعداد استمر أسابيع طويلة اجتهد خلالها المعدون، خرج الحاضرون بوثيقة موجزة لما سمي سابقاً «مخرجات الحوار الوطني»، الذي دار في صنعاء أكثر من عام، بإشراف الأمم المتحدة ممثلة بالسيد جمال بن عمر، مع عدم إغفال متغير طارئ من أجله لجأوا إلى الرياض، وهو أن طرفاً متمرداً عابثاً يبسط نفوذه المدمر على معظم الرقعة الجغرافية بمليشياته التي اجتاحت المدن اليمنية بتواطؤ بات معروفاً من بعض الحاضرين في الرياض، بدءاً من عمران وانتهاء بسقوط صنعاء، ثم مارسوا قسوةً وقتلاً وتدميراً وتنكيلاً غير مسبوق في التاريخ اليمني، وأسسوا تحالفاً وثيقاً لم يعد سراً مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
كان الغرض الرئيس من الدعوة التي وجهها الملك سلمان، وسبقت انطلاق «عاصفة الحزم»، أنها كانت موجهة إلى جميع القوى السياسية من دون استثناء، ومنذ اليوم الأول رفض الحوثيون قبولها، فخسروا أقرب فرصة أتيحت لهم؛ للانفتاح على المملكة الجار الأقرب، والأكثر تأثيراً وتأثراً بما يحدث في اليمن، وأضاعوا فرصة سانحة للتعامل المباشر معها، وأدرك أن الحس السياسي لهذه الجماعة لا يرتقي إلى مستوى مهاراتها العسكرية والقتالية، لكن ما كان مدهشاً هو تخلف الرئيس السابق علي صالح عن قبول الدعوة، مفْلتا هو الآخر اقتناص الفرصة الأخيرة لفتح كوة في جدار انعدام الثقة الذي بناه بنفسه بتنصله عن وعود قطعها للرياض في عهد الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، والتماهي في مواقف مع الحوثيين الذين لا يخفون عداوتهم للمملكة.
خلال الأيام التي قضيتها في الرياض أتيحت لي فرصة لقاء العديد من المشاركين في «مؤتمر إنقاذ اليمن وبناء الدولة الاتحادية»، ومن الطبيعي أن محور كل حديث جرى هو:
وماذا بعد؟ الملاحظة الأولى التي اتفق فيها جميع محدثيَّ هي: أن الأوضاع على الأرض في معظم الرقعة الجغرافية اليمنية محسومة في الوقت الراهن لمصلحة المليشيات الحوثية، ووحدات الجيش التي مازالت تدين بالولاء للرئيس السابق.
الملاحظة الثانية: أن ليس في الأفق القريب ما يجعل الموازين على الأرض تسير في اتجاه إلحاق خسارة سريعة وحاسمة، تدفع التحالف الحوثي-صالح على الأرض إلى القبول بالتفاوض حول هدنة دائمة، ترتبط بالانسحاب الآمن من كل المدن، والبدء في التفاوض على آليات تسليم الأسلحة التابعة للمؤسسة العسكرية اليمنية الرسمية.
الملاحظة الثالثة: أن مصير القضية الجنوبية ليس مطروحاً للنقاش حالياً حتى تتوقف العمليات العسكرية في الجنوب، وتنسحب المليشيات من عدن وبقية المحافظات الجنوبية؛ لأن أي اتفاق يرضي طرفاً ما سيستفز الطرف الآخر، وسيخلق حالة مضاعفة من الشك والريبة بين الأطراف كلها.
الملاحظة الرابعة: إجماع على سوء أداء الحكومة، وانشغال بعض مسؤوليها بالترويج للذات والتركيز على العلاقات العامة، كما لو كان الأمر بدايةً لحملة انتخابية، أو استعجالاً لتحقيق طموحات شخصية هي، في حد ذاتها، مشروعة، لكن سوء توقيتها يصيب العمل الجمعي بالريبة والتنافر، ويزيد من الشكوك بين أطراف (الشرعية الدستورية) الموجودة في الرياض، وتتع إلى نبرات الامتعاض لدى بعضهم؛ لتهميش أدوارهم بحجج أقل ما يقال عنها أنها غير لائقة، ولاسيما أن الصراع لم يعد سراً.
الملاحظة الخامسة: وجود انقسام واضح بين المكونات التي حضرت «مؤتمر الرياض»، وانقسامها مناطقياً بين شمال وجنوب، إلى درجة جعلت أحد الحاضرين يخبرني بأن مسألة الوحدة اليمنية لا يمكن قبولها إلا في حال قيام إقليمين جنوبي وشمالي، وهو أمر يتراءى لي أنه قد ترسخ نفسياً واجتماعياً عند معظم الجنوبيين، كبداية لما يتصورونه الطريق لاستعادة الدولة، كما يطرح نائب الرئيس السابق الأستاذ علي سالم البيض.
قبل وخلال وبعد انتهاء «مؤتمر الرياض» كان النقاش الأهم يدور حول الجولة التالية التي قرر مجلس الأمن عقدها في جنيف، وهنا كان مدهشاً أن رد الفعل (الرسمي) اختلف بين رافض بالمطلق، وآخر يضع شروطاً أراها الهدف من اجتماعات جنيف، على رغم أن دعوة الأمين العام حددت أن الهدف من اللقاء هو التشاور وليس التفاوض، ومن المنطقي أن يكون طرفاً الحوار المقبل هما الحكومة (الشرعية) ومن يعتبرهم المجتمع الدولي (متمردين)، وكان الحديث من الطرفين غير معقول، فلا الحوثيون سينسحبون قبل إيقاع الهزيمة بهم أو تأمين انسحابهم، ولا المقاومة والحملة الجوية يمكن لها أن تتوقف قبل بدء التفاوض، وهذه هي العقدة التي يجب على المبعوث الأممي الجديد إيجاد مخرج لها.
المأساة الحقيقية التي تواجه الجميع في هذا المأزق اليمني الكارثي الأبعاد، هو انشغال اليمنيين القائمين عليه عن هول الفاجعة الإنسانية التي يتعرض لها المواطن الذي يتعرض كل لحظة إلى خطر الفناء، والمشاهد التي تتسرب إلى الفضائيات لا تمثل إلا جزءاً من حقيقة الواقع الذي يعيشه يومياً من دون حد أدنى من مقومات الحياة، ولا يزال من المهم السعي الحثيث؛ لإيجاد ممرات ومناطق آمنة تحت حماية دولية، قد تمثل مقدمة لدخول قوات تؤمِّن المدن التي يجب أن يخليها الحوثيون؛ للبدء بعودة الهاربين من بيوتهم وإعادة الخدمات الأساسية، وعلى مجلس التعاون بالتعاون مع المؤسسات الدولية المتخصصة الإشراف المباشر على عمليات الإغاثة وتوزيعها، حتى لا تتكرر دورات الفساد التي تصاحبها. يتمنى الكثيرون اكتفاء الساسة الذين جثموا على المشهد منذ ثلاثة أعوام بما ارتكبوه من آثام بحق الوطن، وإخلاء الساحة لدماء خالية من أحقاد الماضي وتراكماته، ولابد من التفكير العاجل بالمضي في مسارين عسكري وسياسي، ولن يكون بمقدور من نشاهدهم اليوم متمسكين بالشرعية القيام بجهد في هذا الاتجاه، كما على المسؤولين، المنشغلين بالأضواء وصفحات التواصل الاجتماعي، العمل الجاد للعودة السريعة إلى أي منطقة يمكن تأمينها بعيداً عن الوجود الحوثي؛ لأنه من غير الجائز أخلاقياً دعوة المواطنين إلى المقاومة، بينما هم مسترخون ويعيشون بعيداً عن الواقع. يتوقع اليمنيون في الداخل والعالقون في الخارج مسعى يمنياً جاداً يمنحهم فرصة للأمل في استعادة جزء من حياتهم، التي لن تعود إلى طبيعتها في ظل هذا الجدل العدمي، والعبث الصفري الذي أنهك الوطن، وتركه من يتصدرون المشهد فريسة لأهوائهم وأنانيتهم.