السبت الماضي خرج اللقاء المشترك ببيان ملفت بعد أن كان هناك اعتقاد بأنه توفى، وسارع المؤتمر إلى الرد على بيان المشترك واتهمه بالإرهاب والانقلاب، فما الذي تطور؟ ومن الذي تاب ومن الذي انقلب؟
بيان المشترك حمل رأيين على الأقل، الأول دعا لاصطفاف وطني وفي نهاية الفقرة عاد لمخالفته من خلال اتهام المؤتمر أو جزءاً منه بالانفلات الأمني وأنه يريد إعادة الماضي "السرطان" وغير ذلك، (وكأن الحاضر أصبح نعيماً!)، وهذا التناقض بالدعوة إلى الاصطفاف ثم الاتهام هو انعكاس طبيعي للتناقض داخل المشترك. إذ الأرجح أنه ليس بيان الإصلاح (الذي فر من الواجهة إلى مظلة المشترك)، بل هو بيان متناقض ما يعكس أزمة تضارب الرؤى.
البيان كان أبرز ما فيه الدعوة إلى "مؤتمر وطني"، وهو ما يعد مساساً بالمقدسات الصنمية من خلال الاعتراف الضمني بفشل بساط حوار موفنبيك السحري في إيصال اليمن إلى الفردوس. (وذلك هو الواقع الذي تتهرب القوى السياسية من ملامسته وتستمر في زفة التضليل والبضاعة المغشوشة).
المفسرون اختلفوا فيما وراء هذه الدعوة؛ هل هي دعوة للجرعة والمواصلة؟ أم بداية الاعتراف بزيف الحلول السحرية؟ وبحسب الكاتب سامي غالب فإن "دعوة المجلس الأعلى للقاء المشترك لعقد حوار وطني جديد، تثير تساؤلا عما إذا كان هذا المجلس قاتلا تائبا أم قاتلا حواريا متسلسلا (تسلسلي)؟".
ومما يثير الرثاء في البيان، جنة الوهم الجديدة التي سترد منها الحلول السحرية وهي "الأموال المنهوبة"، ساعةً بحور من الذهب الأسود والثروات في باطن الأرض، وحيناً الكرم الحاتمي للمانحين الذين يمنحون الشعب اليمني الجرع السعرية ووصفة "الأقاليم".. وهكذا يتم اللعب على مشاعر شعب فقير منكوب بسياسات أحزابه وتُعمر المواقف على ماديات لم تزل في العدم، أو على الأقل محل اختلاف. وجزء من هذا الحديث مغازلة لجهات خارجية تتقن العزف على هذا الوتر.
**
سرعان ما خرج المؤتمر الشعبي العام ببيان تختلط فيه الهزلية باللامسؤولية، حيث وصم المؤتمر "المشترك" ب"الإرهاب".. التهمة التي يحلو للقوى السياسية أن تلعب بها وتستثمرها، متجاهلة دماء اليمنيين التي تُراق والبلد الذي يسقط ضحية، بينما هذه القوى تبحث عن فوائد واستثمارات للدماء والأشلاء؛ ولقد زايد في هذا الملف الجميع واتهم الآخر برعاية الإرهاب والكل يعلم أن ما يقوله غير دقيق.
الأمر الأخر، الذي جاء به رد المؤتمر هو أنه خرج حارساً للشرعية الجديدة النابعة من وثيقة الحوار و"الفصل السابع"، محذراً من الانقلاب على هذه الثوابت والمنجزات، التي تعلم مراكز هذه القوى أنها، أو أهم ما فيها، مسموم، وأقل ما توصف بأنها قفزة إلى المجهول، لكن المؤتمر سيجد نفسه الحارس المثالي لها، لا لشيءٍ، إلا للسباق على نيل رضى الخارج المجرب الذي حفر حفرة للجميع، ولأن الآخر - المشترك - مس قداستها ولمح لدعوة يمكن أن تحسب خطوة في الطريق الصحيح.
المؤتمر هو نفسه الذي دفع بعض الأحزاب المشاركة في مؤتمر الحوار إلى الموافقة على الفيدرالية والتقسيم، باعتباره كان سباقاً بالموافقة عليها. وتحت تأثير المعارك السياسية مؤتمر-إصلاح بدرجة أساسية تسابق الفريقان على إرضاء الخارج.. وأصبح اليمن أمام خيارات تعجيزية ودستور يُعد في الغرف المغلقة ليكون صيغة غير قابلة للتطبيق تقضي على آخر وثائق الدولة.
ونذكّر هنا، أنه عندما وافق خصوم المؤتمر على الفيدرالية والأقاليم تحت دافع الخوف من اجتماع الطرف الآخر ضدهم، تحول المؤتمر إلى متصدر للدفاع عن الوطن ومعارضة الوصاية الدولية والصيغ المشبوهة بالمخرجات.. حتى جرت صفقة تحت الطاولة بين الرئيس عبدربه منصور هادي والمؤتمر، جعلت الأخير يبصم على المخرجات التي عارضها!
هذه المخرجات قال المؤتمر إنها تضع اليمن تحت الوصاية الدولية وتقسم البلاد وتعد ردةً على سبتمبر وأكتوبر ومايو وجعل عارف الزوكا يصدح ببيانه.. وافق عليها لاحقاً، دون أن يتم تعديل بند واحد فيها، سوى بيان مسرحي لحفظ بعض ماء الوجه للمؤتمر، وكان دور أحزاب المشترك خارج حلبة الوطنية والمسؤولية، بحيث راحت تزمر وتطبل لكل ما ينتقده المؤتمر وإن كان على صواب، وتستقوي بالخارج على الخصم المحلي، على الرغم من معرفتها المفترضة أن الجميع مهدد بما يتواطأ بحصوله.
الآن، يخرج المؤتمر غاضباً، ويتهم المشترك بالانقلاب على المخرجات سفينة النجاة الأكيدة، والرئيس المعجزة الذي أمّم البلاد وجعل برنامجه تقسيم الوطن وإزالة كيان الجمهورية اليمنية تحت شعار تفكيكه إلى أجزاء سياسية وإعادة تركيبها في دولة مركبة من أنظمة وحكومات وشعوب! وهو الذي بايعه المواطنون على إدارة المرحلة الانتقالية والحفاظ على أمن الوطن ووحدته! ومن السخرية أن المشترك شدد أيضاً على المضي وراء هادي ودعا للالتفاف حوله لكأنه الثابت الوحيد!
يزايد المؤتمر على المشترك - وبالأخص على الإصلاح، بأنه "إرهاب" ويرجع كل ما يحدث من انفلات وخراب إلى حكومة "باسندوة".. في المقابل يحذر من انتقاد الرئيس البطل الخارق، وكأنه ليس المسؤول الأول عما يجري، وإنما استغلالاً لكون "باسندوة" محسوباً على الطرف الآخر، ويعلم المؤتمر أكثر من غيره ويعترف قادته في أحاديث غير مباشرة أن المسؤول الأول عما ينتقدونه هو "المسؤول الأول!"، وإن كان رئيس الحكومة ليس بريئاً.. لكن المؤتمر يستغل موقفه لتحويل سيل التهم والأخطاء إليه. وهذا يعني أن الانتقادات مناكفات سياسية وليس من أجل البلاد.
**
إن المعارك السياسية والصراع بين الأحزاب بعيداً عن المبادئ وبالوطن وليس تحت سقفه، هو ما جعل البلاد دولة مهددة الانهيار، وقد وافقت جميع القوى وطبلت ووقعت على صيغ سياسية أقرب ما تكون إلى خارطة طريق للزحف إلى مرحلة ما قبل الدولة والجمهورية، مع ما يحتمل ذلك من مآسٍ إنسانية وتأثير عملية هذه على بلد يستظل فيه أكثر من 25 مليون مواطن. وكل ذلك في ذمة الصراع بين الأحزاب السياسية!
في البداية شجعت أطراف خارجية المؤتمر على سياسات باحتكار السلطة والدولة، وشجعت في الجهة المقابلة المشترك على رفع السقف والمزايدة بما يؤدي إلى تعطل المؤسسات الدستورية، وصولاً إلى الصراع في الميادين وتسليم دولة وبلد إلى قنصليات الخارج وصولاً إلى تأميم البلاد وتحويلها إلى ساحة مستباحة ب"الفصل السابع"، وكل ذلك لأن القوى المحلية تتصارع بالوطن وليس تحت سقفه.
الآن من الذي يعتقد أنه سيربح بعد هذا الخراب لو أزاح خصومه؟ البلد يضيع لأن مجموع القوى تصفي حساباتها بتصفيته.