جمهورية البردوني الأدبية: مراحل من تاريخ الثورة اليمنية
في ذكرى رحيله.. جمهورية البردوني الأدبية: مراحل من تاريخ الثورة اليمنية (1+2+3) - د. لمياء الكندي
أوجد الشاعر الكبير عبدالله البردوني في كتابه " اليمن الجمهوري"، مساحة فكرية وتاريخية تعرض في الكثير من فحواها لخطوط الصراع الفكري والسياسي الذي عاشته اليمن في فترات تاريخ السيطرة الإمامة.
ويؤكد البردوني بذلك جدلية الصراع الذي فرضته السياسة والفكر الإمامية على النخب الفكرية والدينية المعاصرة لهم في فترات طويلة من تاريخ اليمن الحديث، وهو الذي أوصلنا إلى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، لتشكل هذه الثورة مقدمة ونتيجة مهمة لإلغاء الحالة الجدلية التاريخية حول اليمن ونظام الحكم فيها.
تصفح أيضاً: موقع البردوني
وفي الفصل العاشر من الكتاب والذي حمل عنوان " مشاكل اليمن الجمهوري"، يتحدث البردوني بلغة الشاعر والفيلسوف والمؤرخ عن واقع الثورة ومالاتها، فيعتبر الثورة مجرد وسيلة لتبرير الغاية فقد تمخضت عن جميع الاختلافات قبل الثورة والذي امتدت لعقود طويلة بل لقرون أطول، وهو ما دعا اليمنيين للوقوف على ما اسماه بالاتفاق الموروث وبلور هذا الاتفاق في انعدام صلاحية الإمامة للبقاء، فالشعب اصبح كله سبتمبريا بكل عناصره.
لقد توج البردوني في كتاباته التي جسدتها أعماله بنفس شعري وفكري وسياسي ساخط ومنتقد للأوضاع، ومحفزا على تجاوز معوقات الواقع، احداث ومشاههد من تاريخ اليمن قبل الثورة وبعدها.
ومن خلال هذا العرض الذي اخص الكتابة فيه عن موقف البردوني ونزعته الشعرية تجاه الثورة والنظام الجمهوري وأحداثها.
نجد ان هذه النزعة التي تمثلت في قصائده تمثيلا تاريخيا بحكم ترابطها بالأحداث والوقائع التي عاشتها اليمن قبل الثورة وبعدها يمكن اعتبارها شواهد شعرية وتاريخية مهمة، فكانت تلك القصائد عبارة عن توثيق شعري للأحداث تجلت من خلالها نظرة البردوني تجاه الحكم الامامي قبل الثورة وبعدها، وهو ما استدعاني إلى البحث والقراءة في مسيرته الشعرية بمنظور تاريخي لتلك الفترة وتقسيمها إلى ثلاث مراحل من التاريخ و الموقف الشعري للبردوني سوف نتناولها على ثلاث حلقات.
المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل الثورة
في كتابه "رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه"، اتجه البردوني إلى النزعة النقدية للمسار الشعري في اليمن وأعاب على الضليعين في الأدب والشعر و علوم اللغة، عدم انتهاجهم النقد للأعمال الشعرية التي رافقت فترة ما قبل الثورة وبعدها، للحد الذي اصبح امتهان قول الشعر مجرد مجاراة للبيئة، لأن كلا يريد ان يقول " أنا هنا"، وكأن الشعر ايسر أنواع الكلام كفن موروث، ويقول البردوني حول شيوع الشعر بين الأوساط التي لا تنتمي اليه، وإنما تجيد تلفيقه بقوله" كان كل حامل عمامة تقريبا يمارس الشعر" في إشارة إلى محاولة المنتمين للإمامة الاستحواذ على اللغة الشعرية والخطاب الشعري، الذي غالبا ما كان يخصص لخدمة الانتماء السلالي لهم ويمنحهم تميز اجتماعي وأدبي عن غيرهم.
ومن خلال رحلة البردوني النقدية لمراحل الشعر اليمني في عصر الطاغية يحيى وابنه احمد وما تلاه، انه قام بتصنيف ذلك الحراك الأدبي وفق مدارس شعرية ارتبطت ارتباطا وثيقا بالأحداث والوقائع السياسية، والجو الفكري والسياسي العام، مطلقا عليها العديد من التسميات التي تميزت فيها كل مدرسة حسب القسيم البردوني.
ومنها الفترة السابقة لقيام ثورة سبتمبر والتي وصفها ب" عهد النهضة"، وخص لهذه المرحلة شعرائها ورموزها وحراكها الأدبي، وأدوارها النضالية المرتبطة فيها، أمثال احمد عبدالوهاب الوريث، والمطاع، وعبدالله العزب وغيرهم، إضافة إلى مدرسة أريان والتي مثلها علي بن يحيى الارياني ، وعبدالرحمن الارياني.
أما مدرسة حجة فقد جمعت مجموعة من رموز النضال الوطني، وجاءت تسمية هذه المدرسة نسبة إلى سجن نافع في حجة، الذي تحول من سجن للاحتجاز والعقوبة إلى قلعة من قلاع التنوير في اليمن، ومن رموز هذه المدرسة إبراهيم الحضراني ومحمد صالح المسمري وغيرهم، إضافة إلى مناقشته الفكرية التي اختصها للحديث عن الأدب في عهد الثورة وكيف يكتب.
لقد مضى البردوني إلى نقد وتصنيف حركة الشعر اليمنية في مراحل محددة ، دون ان يستعرض لنا الحديث عن مدرسة البردوني الأدبية وهي المدرسة الأقوى والأشهر والأطول عمرا في تاريخ مدارس الشعر اليمني وأدبه.
تاركا لنا وللباحثين والمهتمين مهمة الوقوف على هذه المدرسة والتقاط السمات العامة لها واستخلاصها في قراءة متعددة، تتعدد بطبيعة وتوجهات البردوني الكتابية التي تميزت بالتنوع والتلقائية الجذابة بإيقاع حسي ومادي يظهر البردوني كأحد اهم قامات اليمن الجهوري الشعري ككل .
كان البردوني يعي مدى التأثير الزماني والمكاني على الكتابة الشعرية فلم يكن شعره في جوانب عديدة ينفصل عن الأحداث ولا عن الوقائع السياسية والتاريخية لليمن، تلك الأحداث التي اظهر حيالها لغة شعرية جزيلة مسكونة بقوة اللغة الشعرية القارئة للحظة التاريخية ولمسار الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية، التي امعن في تمثيلها شعريا ولغويا بلغة منحازة لواقع الشعب وفظائع الإمامة في حقه وجنايتها عليه.
ففي قصيدته التي خصها للاحتفاء الخاص بعيد الجلوس وهو يوم تولي احمد بن حميد الدين الإمامة والتي وحملت عنوان " عيد الجلوس"، والمؤرخة في 13- 12- 1958م، قدم البردوني نموذجا شعريا فريدا بالاحتفاء بالطاغية احمد بن حميد الدين فقال فيها:
عيد الجلوس اعر بلادك مسمعاً
تسألك أين هناؤها؟ هل يوجدُ؟
تمضي وتأتي والبلاد وأهلها
كما عهدت وتعهدُ
يا عيد حدث شعبك الضامي متى
يروي؟ وهل يروى؟ وأين الموردُ
حدث ففي فمك الضحوك بشارة
وطنية وعلى جبينك موعدُ
فيم السكوت ونصف شعبك ها هُنا
يشقى ونصفً في الشعوب مشردُ
تمكن البردوني من خلال هذه الأبيات، ان يوجد لنا تصور تاريخي وسياسي واجتماعي للحالة اليمنية إبان حكم احمد بن حميد الدين، وينقلنا إلى طبيعة الوضع المأساوي الذي يعيشه الشعب، فترصد بشعريته هذه مراحل طويلة من التاريخ السياسي والاجتماعي لليمن، وذهب في هذه القصيدة إلى الحديث عن استحالة استمرار النظام الامامي الحاكم بكل ما حمل من معاني الجور والتخلف، فنجده يتحدث عن روح المقاومة اليمنية لحكم الإمامة ويتوعدها بالثورة:
لا لم ينم شعبً يحرق صدرهٌ
جرح على لهب العذابِ مسهدُ
إلى قوله: الشعب اقوى من مدافع ظالم
واشد من بأس الحديد والجلدُ
والحق يثني الجيش وهو عرمرمٌ
ويضل حد السيوف وهو مهندُ
وغداً سيدري المجد أنا أمة
يمنية شما وشعبٌ امجدُ
بهذه اللغة الشعرية المستبقة لقيام الثورة تمكن البردوني ان يهيئ مع غيره من رجال الحركة الوطنية لفكر الثورة، وان يستحضر الموقف الشعري بصورة مستنهضه لروح القومية اليمنية وداعية للثورة، باعتبارها مشروع حياة للشعب، ليذهب بشكل اقوى وامضى في سرد تساؤلاته الشعرية وتوجيهها إلى الطاغية احمد وكل من كان قبله ممن يدعون الإمامة التي ارتبطت سياستها وأفعالها في إقصاء اليمنيين وعزلهم وتجهيلهم وقتلهم وحول ذلك نجده يقول :
إذا نحن كنا كرام القلوب
فمن شرف الحكم ان يكرموا
وإن ظلمونا ازدراء بنا
فأدنى الدناءاتِ ان يظِلموا
لقد كان للبردوني فلسفته الخاصة وقراءته النقدية لحركة التاريخ، فالتاريخ بمادته الإخبارية والاستنتاجية، مادة مسموعة مقروءة، تتلقاها القابلية المفتوحة، فتستخلص أسرارها وتضيف الهيا سر المتلقي وما عنده من تصور عن كيفية الصورة، وبهذا يصبح التاريخ صيرورة دائمه، لان الأمس الذي سجل التاريخ اطل منه اليوم الذي يقرأ التاريخ تحت ضوء مختلف.
عند هذه الزاوية من التفسير البردوني للتاريخ يمكن لنا ان نعيد قراءة وتحليل وفهم قصائده باعتبارها شاهدا تاريخيا عن تلك الفترة، فعلى سبيل المثال نجده يخاطب الطاغية احمد بلغة شعرية نازفه عقب موجة الإعدامات التي تعرض لها الأحرار المشاركون في انقلاب فبراير 1948م، فحجم تلك الإعدامات التي لم يستثني منها احد من رجال الفكر والتنوير والثورة يضعنا البردوني أمام بشاعة وعنف سلطة الطاغية احمد فيخاطبه:
لن ترحم الثوار والهتافا
هلا رحمت السيف والسيافا
اوما على المقدام يوم النصر أن
يرعى الشجاع ويرحم الخوافا
أيكون ما احرزته نصرا إذا
قاتلت اجبن أو قتلت اضعاف؟
اسمعت عن شرف العداوة كي ترى
لخضم تقطيع الرؤوس ضفافا؟
لقد شكلت التراكمات العدائية للطاغية يحيى ومن بعده احمد قاعدة ثورية، بدأت بمطالب الإصلاح وانتهت بالثورة كنتيجة انتهاج ثقافة القتل والتجويع والفقر الامامية، وإيغالها في تقطيع رؤوس المعارضين، والتنكيل بجثامينهم، صورة واقعية من حالة حكم نمطية مارستها الإمامة الهاشمية طيلة فترة بقائها، ويرى البردوني في كتابه "قضايا يمنية"، ان قيام حركة المعارض اليمينة لحكم بيت حميد الدين كانت قائمة على مزيجين تمثلا في : اللون الديني، واللون التغييري، أو الحالم بالتغيير، فكان دعاة التغيير يحاربون الإمام لاستبداده، وكان رجال الدين يحاربونه لأنه عطل حدود الشريعة، وعلى هذا وقع الإمام بين ضغطين: ضغط رجال الدين، وضغط العصريين، وهو الذي انتج فيما بعد حركة الثورة وأشاع روحها النضالية قبل قيامها، فنجده في قصيدة " حين يصحوا الشعب" التي كتبها سنة 1959م يقول:
اعذرِ الظلم وحملنا الملاما
نحن ارضعناه في المهد احتراما
نحن دللناه طفلا في الصبا
وحملناه على العرش غلاما
وبنينا بدمنا عرشهُ
فانثنى يهد منا حين تسامى
لا تلم قادتنا ان ظلموا
ولمِ الشعب الذي اعطى الزماما
كان البردوني من خلال هذه الأبيات يدرك دور الشعب في صناعة طغاته، ولكنه رغم ذلك لم يفقد أيمانه بقدرة الشعب على استعادة ذاته وقدرته على الثورة والتغيير على من اسماها بدولة الأجواخ:
دولة (الأجواخ) لا تحنوا ولا
تعرف العدل ولا ترعى الذماما
فهو بهذا الجزء من القصيدة قد وصل إلى القناعة التامة بعقم الحكم الامامي، واستحالة إصلاحه، ليبشر في الأبيات التي تليها بقيام الثورة كضرورة من ضرورات الحياة.
سوف تدري دولة الظلم غداً
حين يصحوا الشعب من اقوى انتقاما
سوف تدري لمن النصر إذا
ايقظ البعث العفاريت النياما
إن خلف الليل فجراً نائما
وغداً يصحو فيجتاح الظلاما
كانت قصائد البردوني ووقعها تقترب من روح الثورة بل وتواكب التحضير النفسي والخطاب الفكري والسياسي والعسكري لرجال سبتمبر المجيد، ففي قصيدة تحدي التي كتبت في 1961م، نجده يحمل قصائده لغة شعرية ثائره يتخطى من خلالها معالم الضعف الذي أفرزته الإمامة في اليمن ليقول:
سوف نمشي على الجراحات حتى
نشعل الفجر من لهيب الجراحِ
فاستبيحوا دمائنا تتورد
وجنة الصبح بالدمِ المُستباحِ
إنما تنبت الكرامات ارض
سمدت تُرابها عظام الاضاحي
ودماء الشهيد انفر غارٍ
في جبين البطولة اللماحِ
مرحلة الثورة ( فاتحة سبتمبر الخالد)
يصنف البردوني في كتابه اليمن الجمهوري التحولات السياسية ضد نظام الإمامة إلى ثلاث مراحل، تشكلت بحسب الفترات التاريخية و تمثلت في تحول القتال العشائري إلى قتال وطني ضد العثمانيين، وتلاها في فترة حكم يحيى بن حميد الدين تحول في الغضب القبلي إلى العمل الثوري على مفهوم الأربعينيات، تبعا لأحداث انقلاب 1948م ،وما ترتب على فشلها ودور القبائل من قادة الانقلاب، ثم تأتي المرحلة الثالثة التي تحول فيها الجيش من سلطة بيد الإمامة إلى سلطة ضدها كما حدث في انقلاب 1955م في تعز.
ويعتبر البردوني عام 1955 بداية لليقظة الوطنية التي اجتاحت كل قطاعات الشعب التي قادت الخطى إلى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، ليفرد البردوني تساؤلاته حول الثورة و هل تعتبر الثورة نهاية المطاف؟ ا م أنها بداية السير الأعنف والطريق الأخطر.
كان البردوني يدرك حجم المخاطر الثورية والضريبة التي ستستهلها الثورة من دماء اليمنيين مهما كانت النتائج فنراه يقول:
فانطلق يا فجر إنا
قد فرشنا لك الدرب جماجم
وزحفنا نهدي الهُدى ومددنا
من قِوانا إلى الأعلى سلالم
اذاً هو الطريق الذي لا رجعة عنه الطريق الذي اختاره اليمنيون ومثله البردوني في قصائده، وهو الشاعر والثوري العنيد الذي ما زالت ذاكرته مكتظة باسى الماضي الامامي، ووضعه في مقارنة أمام واقع الحلم الثوري الناتج عن سبتمبر في قصيدة مأتم وعرس.
كيف منا يا ذكريات النجوم
مآتم من الضياع يتلو مآتم؟
........
كيف كنا قوافلاً من انين
تتعايا هنا كشهقات نادم؟
...........
كيف كنا نقتات جوعاً ونعطي
الارذال المتخمين اشهى المطاعم؟
وجراحاتنا على باب (مولانا)
تقيم الذباب منها ولائم
وهو في القصر يحتسي الشعب خمرا
ودما والكؤوس غضبى لوائم
وبعد ان عدد مساوئ الإمامة يمضي في ذكر سبتمبر باعتباره عرسا يطغي على مئتم الإمامة في تضاد شعري يضع الفاصل وينسف الحاجز بين ثقافة الحياة والموت، فيصف الثورة بالعرس، بل يذهب إلى وصف الموت في سبيلها بالعرس أيضا.
اشرق الثائرون فالموت عرسٌ
وانين الحمى لحون بواسم
إلى قوله: إن الجراح التي على كل شبر
أثمرت فجأة وكانت براعم
لقد مضى البردوني متأملا في ان تثمر مسارات الثورة في حياة الشعب واثقا من قدرتها على صناعة مستقبلا افضل له فنراه يخاطبها:
ذات يومِ ستشرقين بلا وعد
تعيدين للهشيم النضاره
تذرعين الحنان في كل وادِ
وطريق وفي كل سوقٍ وحاره
إلى قوله:
أي دنيا ستبدعين حسنها
وصفها فوق احتمال العباره
........
سوف تأتين كالنبوات كالأمطار
كالصيف، كانثيال الغضاره
كانت قصائد البردوني تشق طريها نحو الثورة فهو يعتبر ان الحرب الثورية التي شكلت الرفض الامامي لها ومعركة الدفاع الجمهورية ناتجة عن نظرية ثقافية وعن تطور الفكر السياسي لرجال الثورة الذين تأثروا بالثورات والنظريات الثورية التي كانت تعم العالم، لنجده في قصيدة طريق الفجر يؤكد المبرر الثوري الذي خاضه اليمنيين ضد الإمامة ويؤكد الترابط الشعبي المؤيد لها والذي برز كتحول اجتماعي نافر من حكم الإمامة.
يا صرعة الظلم شق الشعب مرقدهُ
واشعلت دمه الثارات والضغنُ
ها نحن ثرنا على إذعانِنا وعلى
نفوسنا واستثارت اُمنا ( اليمن)
لا البدر ولا ( الحسن) السجان يحكمنا
الحكم للشعب لا (بدراً) ولا (حسنُ)
نحن البلاد وسكان البلاد وما
فيها لنا، إننا السكان والسكنُ
فليخبأ الظلم ولتذهب حكومته
ملعونة وليول عهدها النتنُ
لقد ضم ديوان البردوني " طريق الفجر" العديد من القصائد التي امتثلت في أماني الشعب الثورية، وامتزجت بمظالم العهد البائد التي شكلت مبررا ثوريا لقيام سبتمبر فنجده في قصيدة تحدي المؤرخة في 1961 يقول مخاطبا الامام:
هددونا بالقيد أو بالسلاحِ
واهدِروا بالزئير أو بالنباحِ
وكلوا جوعنا وسيروا على اشلائنا
الحُمر، كالخيول الجُماحِ
إلى مخاطبته المتوعدة للإمام بالثورة ووضع نهاية جريئة للإمامة مهما كانت المخاطر:
قسما لن نعود حتى ترانا
راية النصر في النهار الضاحي
خوفونا بالموت، إنا استهنا
في الصراع الكريم بالارواحِِ
قد الفنا الردى كما تألف
الغابات عصف الخريف بالادواحِِ
........
نحن شعباُ عيا خيال المنايا
وتحدى يد الزمان الماحي
كلما ادمتِ الطغاةُ جناحاً
منهُ أدمى نحورها بجناحِِ
و كانت قصيدة الطريق الهادر التي كتبها البردوني في يونيه 1962م، ليُحيي تظاهرة الطلاب التي خرجت للتظاهر ضد الطاغية احمد، وجابت شوارع صنعاء ليصف ذلك الخروج المتظاهر بانه خروج الشعب، معطيا أفاق أوسع للمعارضة فالثورة باتت تطرق باب الإمامة في صنعاء ويبدا انهمارها من شوارعها التي بدا المتظاهرون إلقاء بذورها المورقة في طريق الحرية والخلاص.
هو الشعب طاف بأنذارهِ
على من تحداه واستعبدا
وشق لحوداً تعب الفساد
وتنجر تبتلع المفسدا
و أوما بحباتِ احشائه
إلى فجره الخصب ان يولدا
وعاد البردوني في ق
عادل الأحمدي, [31.08.21 23:21]
صيدة الحكم للشعب ليرسم بكلماته خطوط الاكتمال للحلم الثوري واعتبار تحقيق الوحدة بين الشطرين في الشمال والجنوب عبر تحللهما من حكم الإمامة والاستعمار هي المسار الطبيعي لهذا الفعل الثوري في صنعاء والمقاوم في عدن.
وما الشمال؟ وما هذا الجنوب؟ هما
قلبان ضمتهما الافراح والحزنُ
وحده الله والتاريخ بينهما
والحقد والجرح والأحداث والفتنُ
(شمسان) سوف يلاقي صنوهُ ( نقما)
وترتمي نحو صنعا اختها عدنُ
كان احتفاء البردوني بالثورة كبيرا ككبر هذا الحدث التاريخي الذي جسدته قصائده الثورية فانطلق بروح الشاعر وبروح المواطن الحالم، يكتب غرسهُ الأجمل على ارض الثورة، وورقة الحياة فنراه في قصيدة ذات يوم التي كتبها في سبتمبر 1962م متزاحمة أبياتها بالأحلام والأمنيات المتعالية:
أفقنا على فجرِ يومِ صبي
فيا ضحوات المنى اطربي
اتدرين يا شمس ماذا جرى؟
سلبنا الدجى فجرنا المختبي
.............
وسِرنا حشوداً تطيرُ الدروبُ
بأفواج ميلادنا الانجبِ
وشعباً يداوي: هي المعجزاتُ
مهودي، وسيفُ (المثنى) أبي
غربتُ زماناً غروبِ النهارِ
وعُدت يقودُ الضحى موكبي
لقد فعلها الثوار واتقدت شعلة سبتمبر لتعبر كل اليمن، كانت قصائد البردوني تعبر عن مزيج شعري طليعي في طريق الثورة فنراه يفرد القصائد عن قادة الثورة معطيا لها بعدا عربيا وقوميا فيتناول الدور المصري في اليمن بأكثر من قصيدة، وذلك من خلال مشاركة جمهورية مصر العربية فيها، فنجده في قصيدة ثائران التي كتبها في ديسمبر 1962م ، خصها للحديث المنتشي بالبطولة القائد العربي جمال عبدالناصر، وقائد ثورة اليمن عبدالله السلال، ليبدأ قصيدته بقوله:
من ( جمال) ومن اسمى جمالا
مُعجزاتٌ من الهُدى تتوالى
وشموخٌ يسمو على كل فكرِ
وعلى كل قيمةٍ يتعالى
كان البردوني يعرف ويقدر معنى التلاحم اليمني المصري في حرب الثورة ضد فلول الإمامة، وكان ينظر للتدخل الخارجي والقوى الرجعية في حرب الجمهورية ضد الملكيين مقياسا للفصل بين قوى التحرر الوطنية التي قادها عبدالناصر وبين أشكال الحكم الرجعية والقمعية التي مثلها عرب الخليج وممالكهم الجديدة فيقول:
من جمال ؟ سلِ البطولات عنهُ
كيف اغرت بهِ العدا الانذالا
فتبارت اذناب لندن تزري
بأسمهِ فازدهى اسمهُ وتلالا
إلى قوله:
يا لصوص العروش عيبوا جمالا
واخجلوا أنكم قصُرتم وطالا
.........
لا تضيقوا إن العروبة تدري
من جمال وتعرف السلالا
بطل الثائرين وافى اخاه
والبطولات تجمع الابطالا
مرحلة المصالحة مع قوى الإمامة 1970 وما تلاها
يرى البردوني ان ثورة سبتمبر بما حملته من مبادئ وقيم عن طريق حكم الشعب نفسه بنفسه، كانت أي الثورة أول تجربة في مكان لم يجرب فيه الحكم الشعبي، ولم يستعد للاحتمالات، فقد انقسم الشعب بعد شهور إلى معسكرين ثوري يدعم التوجه الجديد، وملكي يحاول استرجاع حكم الأمس.
ويرى البردوني ان السلام التصالحي الناتج عن تشابك المصالح السياسية في 1969م، جاء كبديلا عن النصر، واعتبر البردوني ان ذلك السلام المفروض على الشعب يشكل حرب أخرى غير دموية، ويتحدث البردوني عن هذه الفترة بانها شكلت تباعداً في الفهم والوعي الرسمي تجاه الشعب الذي كان شديد الحساسية من التغيير، فقد انعكست النظرة الرسمية للمسؤولين تجاه الشعب سلبا وهو ما اثر على مسيرته نحو التغيير ومسيرة كحومته الموقرة.
فكما تردد في الخمسينات تهمة الشعب بالجهل وبالعجز، ترددت في الستينات تهمة الشعب بانه مرتزق وعميل، أما في السبعينات فقد اتهم الشعب بالفوضوية ومخالفة النظام، حتى تكرست مثل هذه الآراء السلبية في وسم الشعب بها، في حين يرى البردوني ان شعبنا كان ولا يزال شعب عظيم، ويمكنه ان يتجاوب مع من يُمكنه تحقيق مصالحه، وكل ما يدل على تمرده أو فوضويته، يدل على سوء الزعامة.
لم تنُم قصائد البردوني بعد مرور عشر سنوات من الثورة والحرب وما تلاها من المصالحة الوطنية بين الجمهوريين والملكيين، وانقلاب خمسة نوفمبر 1967م ،على قائد الثورة عبدالله السلال بنوع من التصالح أو الرضى البردوني عن مجمل الأحداث.
فكان لتراجع الخط الثوري الجمهوري في هذه القوى التي تشكلت من خلالها وجه اليمن في السبعينات، اثره في موقف البردوني الشعري الذي احتوى ولخص موقفه من مجمل الأحداث من بداية السبعينات وما تلاها، ونلاحظ هذه اللغة البائسة والمتحدية من قصائد البردوني شديدة البروز و في قصيدة "صنعاء الزمان والمكان"، التي كتبها في يوليو 1970م يقول:
صنعاء من أين الطرق
إلى الرجوع أو العبورِ
ماذا ترين اتستبيحين؟
اتعبرين بلا جسورِ
كان اتفاق المصالحة مع الملكيين بمثابة اقوى الطعنات الجمهورية على جسد الثورة، حتى وان حاولت تلك الأيادي معالجة الجرح النزاف ذاك، وترميم تشوهاته، ولكنه ظل جرحا عميقا وله اثره فهو يرى فيما انتهجته الأوضاع السياسية والفكرية والاجتماعية بعد سنوات الحرب مضيا إلى المصالحة بانها سياسات ومواقف تمثل عودة للإمامة، وتعد قصيدة "تقرير"، التي كتبها في 1971م، اقوى رد شعري له عن الأوضاع الراهنة آن ذاك ومآلاها:
حيثُ كنا كما ارد الامامُ
كل دعوى منا علينا اتهامُ
غير إنا وبعد تسعٍ طوال
حيثُ كنا كأنما مر عامُ
شكلت قصائد البردوني ومقالاته التي كان ينشرها في الصحف، ومذكراته فيما بعد محورا في حديثة عن حالة من التهاوي في مشروع الثورة، وحمل قادة الشعب مسؤولية هذا التهاوي والتراجع عن الخط الثوري، بحكم اختلاف جيل قادة سبتمبر عن جيل ما بعدها، وهو ما اوجد لديهم بعداً بالحس الثوري، فالجيل الأول من سبتمبر خرج من رحم المعاناة الإمامية، وكان مدركا لكونها قوة غاشمة وظلامية، لذا ثار عليها وحاربها، وما تلاهم من القادة ينتمون لجيل سمع عن معاناة الآباء والأجداد ولكنه لم يشاهدها ولم يعيش مرارتها، فكان رده الثوري متراجعاً عن خطى الثورة.
وعرفنا من العمالات صنفاً
كان اطرى ما احدث ( العمُ سامُ)
حيث كُنا لكن.... لماذا أضعنا
من التعادي سبعاً، وفيما كان الخصامُ
وانا أقراء في موقف البردوني هذا وتساؤله من الحرب، وجدواها طالما أنها لم تنتج واقع ثوري جديد ومخالف، تستثيرني تساؤلات مرعبة: هل يمكن ان يُعاد هذا المشهد التاريخي من الثورة والمصالحة مع قوى الإمامة اليوم وحوثتها؟
انه تساؤل مرعب نتمنى ان نلقى أجابته الحاسمة بفعل ورد تاريخي يرد لنا ولثورتنا وجمهوريتنا شرف النصر الكامل.
وبالعودة إلى البردوني وقصائده نجد وصفه اللاذع لرجال ثورة سبتمبر ممن تخلو على شعار الجمهورية أو الموت ليخاطبهم بقولة:
والأباة الذين بالأمس ثاروا
ايقظوا حولنا الذئاب وناموا
........
ربما احسنوا البدايات
هل يحسنون كيف ساء الختامُ
ولم يكف البردوني على وصف صنعاء في تلك الفترة بالموت، ففي اكثر من لغة، ومن قصيدة كان ينعي صنعاء المدينة، وصنعاء الثورة، وصنعاء الحلم والجمهورية، وفي قصيدة "صنعاء الميلاد والموت"، التي كتبها في ابريل 1970م يقول:
ولدت صنعاء بسبتمبر
كي تلقى الموت بنوفمبر
لكن كي تولد ثانية
في مايو أو اكتوبر
..........
هل تدري صنعاء االصرعى
كيف انطفأت؟ ومتى تنشر؟
كالمشمش ماتت واقفةً
لتعيد الميلاد الاخضر
إلى قوله : وتظل تموت لكي تحيا
وتموت لكي تحيا اكثر.
كان نزيف البردوني الشاعر بالثورة يستمد قوته من إيمانه المطلق بكل قيمها وناقدا اعلى لكل رجالها الذين تراجعوا تحت ظروف خاصة عن الخط الثوري، ففي قصيدته "من منفى إلى منفى"، المؤرخة في نوفمبر
1971م، نراه ينتقد السلطة ويصور أعمالها بانها أعمالا موروثة من العهد الامامي وحركة الاستعمار، وبعيدة كل البعد من سبتمبر الثورة:
بلادي من يد طاغِ
إلى اطغى إلى اجفى
ومن سجنٍ إلى سجنٍ
ومن منفى إلى منفى
ومن مستعمرٍ بادِ
إلى مستعمرٍ اخفى
........
بلادي في كهوف الموت
لا تفنى ولا تشفى
تنقر في القبور الخرس
من ميلادها الاصفى
ومن زخم هذا الواقع المرير من تاريخ الثورة يجدد البردوني مطالبته لصنعاء كونها ام البلاد بالثورة على الأوضاع المستجدة .
صنعاء يا اخت القبورِ
ثوري فانك لم تثوري
حاولتِ ان تتقيأي
في ليلةٍ عفن العصورِ
وفي قصيدته "مدينة بلا وجه"،يناير 1971م، نراها يكرر نفس الصيغة الشعرية والموقف الشعري لواقع الحال الذي يظهر معاناة شاعر وشعب مما تمر به بلاده.
اتدرين يا صنعاء ماذا الذي يجري؟
تموتين في شعبٍ يموت ولا يدري
تموتين، لكن كل يومٍ وبعدما
تموتين تستحيين من موتكِ المزري
وتعتبر اغلب قصائد البردوني التي كتبها في سبعينيات القرن الماضي تشكيلا شعريا ولغويا حادا انتقد من خلالها أوجه الاتفاق والخلاف السياسي، الذي انتج فيما يراه تراجعا عن خطوط الثورة الملهمة والحالمة وكانت
قصيدته "أبو تمام وعروبة اليوم"، التي اختصر فيها ومن خلالها البردوني بعظمته الشعرية، تاريخ من المرارات والخيبات العربية واليمنية، وحاضرها المخزي مستخلصا العظات والعبر من قصص التآمر والفتوح والنصر والهزيمة في تاريخ العرب، و يضعها في سلتهُ الشعرية الرائعة المعنونة ب"ابو تمام وعروبة اليوم"، فشتان بين عهدين وبين ماض وحاضر يختصران أمجاد وهزائم اللامة العربية.
اما صنعاء فقد قال عنها بمرارة لا زالت تتسلق وجداننا إلى اليوم مالم يقله غيره من الشعراء عن بؤسها وعذابها وواقع حالها، طالما و أننا لم ننزع منها هذه المعاناة وجذور الإمامة الخبيثة، التي تتجدد فينا بصيغ وأسماء ومراحل متعددة لكنها تنتمي لذألك الواقع القهري المخيف.
حبيب وافيت من صنعاء يحملني
نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي؟
مليحة عاشقاها: السل والجرب
ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن
ولم يمت في حشاها العشق والطرب
كانت تراقب صبح البعث فانبعثت
في الحلم ثم ارتمت تغفو وترتقب
لكنها رغم بخل الغيث ما برحت
حبلى وفي بطنها (قحطان) أو(كرب)
وفي أسى مقلتيها يغتلي (يمن
ثان كحلم الصبا... ينأى ويقترب
حبيب تسأل عن حالي وكيف أنا؟
شبابة في شفاه الريح تنتحب
كانت بلادك (رحلاً)، ظهر ناجية
أما بلادي فلا ظهر ولا غبب
أرعيت كل جديب لحم راحلة
كانت رعته وماء الروض ينسكب
ورحت من سفر مضن إلى سفر
أضنى لأن طريق الراحة التعب
عناوين ذات صلة: