آراء

أسطرة الأشخاص

محمد جميح يكتب حول: أسطرة الأشخاص


لنقل على سبيل التبسيط إن الأسطورة هي دين مرحلة ما قبل الأديان، أو إن الأديان القديمة كانت أسطورية تذوب فيها الفوارق بين الإنسان والإله، أو بين الطبيعة والإله، حيث وجد الإنسان/الإله أو الحيوان/ الإله أو الظاهرة/الإله، لتزحف الأسطورة نحو مراحل ظهر فيها أنصاف الآلهة/أنصاف البشر، قبل أن ندخل مرحلة الأديان السماوية التي فصلت بين الإله والإنسان، رغم تسرب أنساغ أسطورية إلى الأصول التكوينية لبعض تلك الأديان، التي استمرت فيها عقيدة الإنسان/الإله، أو فكرة حلول اللاهوت في الناسوت، كما في المذاهب الرسمية المسيحية بالنظر لشخصية السيد المسيح، وكما لدى بعض الفرق الإسلامية مثل تلك التي أضفت صفات إلهية على أئمتها، أو تلك التي قالت بالحلول والاتحاد.

والواقع أن التنظير الديني لمثل تلك «الأسطرة المقصودة» لأغراض دنيوية ما هو إلا محاولة لإيجاد غطاء ديني تستطيع من خلاله شخصيات أو شرائح مجتمعية معينة أن «تتميز» عن غيرها، للتأسيس لفكرة «الحق الإلهي المقدس» لتلك الشرائح التي «تنتمي جينياً لدماء مقدسة» وهو ما يؤهلها للقيام بأعمال لا يقدر عليها بقية الناس، وهو ما أشار إليه بدر الدين الحوثي بقوله عن الإمامة إن «أهل البيت هم أقدر من غيرهم على القيام بهذا الشأن» وبالتالي فإن الحق في السلطة والثروة يظل محصوراً في سلالات محددة، أسوة بصنيع بعض فراعنة مصر وملوك فارس وأباطرة الروم وغيرهم.

ولأن الأسطورة هي الدين البدائي الذي سقطت فيه الحدود الفاصلة بين الإله والإنسان فإن الدين – كان ولا يزال – هو الحقل الأنسب لمحاولات الأسطرة عبر التاريخ، إذا لا تزال المحاولات مستمرة لأسطرة بعض الشخصيات في الحقلين الديني والسياسي بدافع من حب التميز والاستنفاع مادياً وسياسياً.

والغالب على الشخصيات «المؤسطَرة» التي تسعى للدخول في هذه اللعبة أنها شخصيات عادية غير موهوبة، وفقيرة الخيال، وتتسم أحياناً بضعف قدراتها الذهنية، وهو ما يجعلها تتخذ من عمليات الأسطرة وسيلة للتغلب على شعورها الداخلي بضعف الملكات والقدرات، ليأتي الأتباع فيكملوا بعض المهام التي تركت لهم في تحويل أشخاص عاديين إلى شخصيات بقدرات خارقة.

وبطبيعة الحال، فإنه يلزم مثل هذه العمليات في الأسطرة وجود بيئات مجتمعية تتحلى بمواصفات محددة، لكي تتقبل بمثل تلك العمليات التي ازدهرت في مجتمعات ذات تراث مخصّب بالأساطير، أنتج الملاحم الأدبية لدى الفرس والروم والإغريق كالشاهنامه للفردوسي والإنيادة لفيرجيل والإلياذة والأوديسا لهوميروس وغيرها من الملاحم التي يرتقي فيها الأبطال إلى مصاف الآلهة، وتذوب فيها الفواصل بين الإنسان/الملك/البطل من جهة والإله من جهة أخرى.
ونتيجة لاختلاف الخصائص الثقافية والدينية والنفسية والذهنية والبيئية للمجموعات البشرية فإن «الأسطورة» ازدهرت لدى بعض الشعوب والثقافات دون غيرها، حيث ترتبط الأساطير بوجود بيئة طبيعية وثقافية مناسبة.
وفي المجتمع القبلي في الجزيرة العربية لم يكتب لهذا اللون من التفكير أو هذا النوع من الأدب أن ينتشر، وجاء الإسلام في هذه البيئة الواضحة في تضاريسها، وغير المعقدة في خصائصها الطبيعية، فوضع حدوداً واضحة بين الله والإنسان، حيث نجد في القرآن تشنيعاً شديداً ضد أية محاولة لإسقاط الحدود بين الخالق والمخلوق، ورفضاً قاطعاً لإضفاء أية خصائص إلهية على أيٍ من «المسيح أو العُزير أو العجل أو الأصنام أو الأولياء والشفعاء وغيرهم».
لكن بعض المسلمين اقتبسوا ـ فيما بعد ـ بعض الأفكار والمعتقدات التي تؤسطر للأشخاص من سياقات دينية وثقافية أخرى، وخاصة بعد توسع الإسلام وانتشاره لدى شعوب بخصائص دينية وثقافية تشيع فيها الأسطورة في المعتقدات الدينية والإنتاج الأدبي والمرويات الشعبية مثل بلاد فارس القديمة وغيرها.
ومن هنا جاءت محاولات أسطرة بعض الأئمة ورفعهم إلى مصاف الآلهة، حيث ترى بعض فرق الشيعة وجود خصائص إلهية لعلي بن أبي طالب والأئمة من بعده، فيما ترى فرق أخرى أن الله حل فيه «علي إلهي» وبعض الفرق المنسوبة للتصوف استلهمت فكرة «وحدة الجود» فقالت بالاتحاد بين الله والإنسان، كما حاول بعض خلفاء العباسيين وسلاطين السلاجقة وخلفاء آل عثمان تصوير أنفسهم على أساس أنهم «ظل الله في الأرض» أما الخليفة الفاطمي «الحاكم بأمر الله» فزَعَم أو زُعم أن الله قد حل فيه.

وغالباً ما تتم أسطرة شخص ما بإيعاز منه لغرض نفعي، وأحياناً تكون من الأتباع أو المريدين للغرض نفسه، حتى وإن كان الشخص المؤسطَر هو من يرفض الفكرة، فقد ورد أن المسيح رفض أن ينادى بألفاظ تفخيمية، بقوله: «إنما أنا عبدالله» وقيل لبوذا: هل أنت إله، قال لا، قيل فأنت ملَك، قال لا، قيل: فمن أنت؟ قال مستبصر أو مستنير، وجاءت التعليمات لنبي الإسلام بأن يقول «إنما أنا بشر».
وعلى الرغم من أن نبي الإسلام هو الشخصية الأولى عند المسلمين إلا أن عمليات الأسطرة لم تنصرف إلى الشخصية النبوية، ولكنها ذهبت لأسطرة وتأليه شخصيات إسلامية أقل شأناً من شخصية النبي نفسه.

ومرجع ذلك إلى عوامل مختلفة، يأتي في مقدمتها أن الذين أسطروا عمدوا إلى شخصيات يمكن ـ من وجهة نظرهم – تخصيصها وحصرها على فرقة معينة، فيما يصعب تخصيص الشخصية النبوية على فرقة مسلمة دون غيرها، وذلك تماشياً مع رغبة تلك الفرق الأقلوية في تعويض أقلويتها بأسطرة ما تعتبرها رموزاً خاصة بها، إمعاناً في المزيد من «التميز» عن «عامة» المسلمين.

وعلى الرغم من وجود محاولات لأسطرة أو تأليه بعض الشخصيات في تاريخ الإسلام إلا أن تلك المحاولات كانت هامشية في الحقل الإسلامي، وظل الاتجاه الأغلب لدى الفكر الديني عند المسلمين يعلي من شأن الحدود الفاصلة بين الله والإنسان، ولم تلق تلك المحاولات الانتشار الذي لقيته عقيدة «لاهوتية المسيح» في المذاهب المسيحية الرسمية.

واليوم، وإن كان الاهتمام بالحقول الدينية قد خفت لدى كثير من المجتمعات إلا أن بعض الفرق والجماعات والميليشيات والأنظمة السياسية تحاول إضفاء نوع من القداسة على زعمائها، لا لشيء إلا للانتفاع السياسي للأشخاص والمنظومات، في استغلال واضح لبيئات ينتشر فيها الفقر ويرتفع فيها منسوب الأمية،

وهي البيئات المثالية لانتشار أفكار ومقولات وشعارات تقول إن الله فوض فلاناً من الناس، واختاره ليكون قائداً رمزاً، أو ولياً مقدساً، أو إماماً معصوماً، وهي الأفكار التي تنهل من الأساطير القديمة ما تقدمه للناس على أساس أنه الدين الحق، الأمر الذي جعل الكثيرين يرددون الأسطوانة القديمة أن «الأديان صناعة بشرية» كردة فعل على سذاجة «أسطرة الساذجين» وفي محاولة لسحب البساط من تحت أقدام الانتهازيين النفعيين الذين حولوا الأديان إلى وسائل في معترك الحياة السياسية، غير أن مقولة صناعة البشر للدين لا تقل سذاجة عن مقولة إن خامنئي يلتقي بالإمام المهدي كل ليلة جمعة، ليأخذ منه تعليمات الله مباشرة، حيث يبدو أن أصحاب المقولتين يلتقون على قاعدة واحدة من السذاجة والتبسيط.

زر الذهاب إلى الأعلى