هل تستحق السلطة كل هذه الدماء؟
تميزت الجمهوريات العربية التي وصل حكامها إلى سدة الحكم عبر انقلابات عسكرية بأنها لم تنج من دورات الدم والانقلابات المضادة فلم تتح لأي نظام نتج عنها التفرغ للتنمية الداخلية، وظلت منشغلة بتثبيت قواعدها وعملت على أن تتحول إلى ما يشبه الأنظمة الوراثية، لكنها لم تتمكن من اكتساب المشروعية الشعبية بعيدا عن قهر الأجهزة الأمنية والسيطرة على وسائل الإعلام وتزييف الوعي وتغييب الماضي وتغليب صورة الحاكم الفرد.
كان الشعار الذي به قدمت هذه الأنظمة العسكرية نفسها للمواطن هو (محاربة الفساد والمحسوبية) وأضاف بعضها (العمل على تحرير فلسطين)، وبمرور الوقت كرست مؤسسات الدولة جهودها لنشر مساوئ الحكام الذين سبقوا وأهالوا التراب على كل إيجابياتهم حيثما وجدت وزيفوا التاريخ وأعادوا صياغته، ومارسوا سياسات الإقصاء لكل معارضيهم وأعدموا الكثيرين منهم وفي أفضل الأحوال رموهم في السجون ومحوا كل آثارهم ونعتوهم بأوصاف أقلها (محاولة قلب نظام الحكم) و(خيانة الشعب).
كانت أبشع صورة أنتجتها هذه الجمهوريات وثوراتها العسكرية هي إشغال المواطن باللهث وراء أمنه وقوت يومه، فلم يعد يفكر في المستقبل إلا من خلال صورة الحاكم ومن يحيطون به، وهكذا أصبحت الأوطان ساحة صراع دموي تنشغل فيها الشعوب عن همومها وطموحاتها وآمالها.
كتبت قبل أسابيع عن الأحداث التي تدور في اليمن وقلت إنها (صراع من أجل السلطة لا من أجل الوطن)، بينما المواطن المقهور لا تهمه ولا تعنيه كيف بدأت ولا من سينتصر فيها لأنه يدرك أنه في خاتمة المطاف سيدفع الثمن وحده، وسينشغل حينها قادة الحرب في تقاسم مغانمها المادية غير ملتفتين ولا عابئين بحجم الدمار النفسي والشروخ الاجتماعية التي ستنتج عنها، إذ إنها لا تسبب لهم قلقا يستدعي التوقف واستدعاء ضميرهم.
في ظل هذه الصورة الكئيبة والمثيرة للحزن نلحظ الانشغال المفرط واليومي الذي تتداول تفاصيله الدقيقة شبكات التواصل الاجتماعي وتتحدث عن سباق محموم بين «الشرعية» و«الانقلابيين» في إجراء تعيينات غير قانونية في مواقع ليست ذات أهمية قصوى، ويعتمد فيها كل طرف على ممارسة ما هو متاح له من سلطة نظرية لا تسمح ولا تسهم في إحداث تغيير في المعادلة الحالية كما أنها تسير بصورة تبدو ممنهجة لتدمير كل البنى الإدارية وتتمحور كلها في إطار المحسوبية والقرابة والانتماءات العائلية والمناطقية. هذه الإجراءات ما من مردود حقيقي لها سوى المزيد من الضغوطات المالية وتسبب إرباكا إداريا لن تكون معالجته ممكنة أيا كانت النتائج.
اليمنيون صاروا أسرى صراع عبثي تبدو مآلاته واضحة: بلد تفتت، وشعب تمزق، ودمار نفسي لحق بشعبه، ولن يتوقف إلا بصحوة نخبه التي لم تكن طرفا في هذا المشهد المؤلم، لأن من الواضح غياب الضمير والشعور بالمسؤوليتين الأخلاقية والوطنية في وعي سياسييه وأحزابه الذين يتصدرون الساحة ويتحكمون بمساراتها.