قبائل حزام صنعاء: التركيبة ومحددات الولاء.. تحقيق
تحيط العشائر القبليّة بالعاصمة اليمنية صنعاء أو ما يسمى قبائل حزام صنعاء إحاطة السوار بالمعصم، وتُسيّجها من جميع الجهات. وتحكم هذه القبائل مجموعةٌ من الأعراف القبلية، وتقتات من الزراعة وهِبات الأنظمة المتعاقبة، وغنائم المشاركة في حروب الصراع على الحكم.
وتعاملت أنظمة الحكم الإمامية، التي حكمت شمال اليمن، بالتناوب مع العثمانيين في القرون الأخيرة، مع تلك القبائل، كعسكر من "آل البيت"، وعملت على إذكاء ثقافة "الفَيْد" (الغنيمة) في مخيلتها، وجعلت أرزاقها في أسنّة رماحها، مُقصية إيّاها من حظوظ التعليم ومضمار الحكم، وذلك لضمان جعلها دائماً مناطق تحشيد عسكري وتخصيب مذهبي، فكانت هذه القبائل تناصر، أحياناً، الإمامة (والتي يعد الحوثيون حركة إحيائية مسلحة لنظامها)، وأحياناً تتناوب على الثورة ضد الأئمة وتؤيد معارضيهم. لكن خمسة عقود ونصف من عمر ثورة سبتمبر/ أيلول 1962 التي أقصت الحكم الإمامي، أثرّت تأثيراً كبيراً في هذه القبائل، التي ظلت تحافظ على بنائها التنظيمي القبلي، وتبحث دوماً عن موطئ قدم في خارطة الصراع على مركز الحكم في صنعاء.
وهدفت الحكومات الجمهورية المتعاقبة منذ سبتمبر 1962 إلى تنفيذ برنامج خاص بقبائل حوض العاصمة، بهدف إعادة تأهيلها عبر التعليم وتصعيد القادة العسكريين والمدنيين، وحتى الدينيين منها، بعدما كانت الزعامة الدينية والسياسية محصورة، لقرون متقطعة من الزمن، في فئة الهاشميين، علماً أن ثورة سبتمبر ذاتها توصف من قبل باحثين كثر، بأنها "ثورة القبائل" على نظام حكم الأئمة الذي يحصر الحكم في الهاشميين ويحرّمه على من عداهم. ويأتي غالبية ريع هذه المناطق من زراعة القات وبيعه في العاصمة. وتأتي همدان في المقدمة، وكذلك العنب الذي تشتهر به منطقة بني حشيش، واللوز الذي يزرع في منطقة خولان. علاوة على كون العديد من أبناء هذه القبائل ملتحقين بالسلك العسكري، قادة وأفراداً، وكذلك في السلك المدني، لكن بنسبة أقل بكثير.
ولعل مع الحرب الدائرة في اليمن اليوم، بين قوات الشرعية والمقاومة الشعبية، مسنودة بعمليات التحالف العربي من جهة، والانقلابيين الحوثيين وحليفهم علي عبدالله صالح من جهة أخرى، تتزايد أهمية استقراء المزاج الراهن لقبائل محيط العاصمة، وخصوصاً أن قوات الشرعية باتت على بعد نحو أربعين كيلومتراً شرق المدينة.
خارطة ولاءات
تتوزع ولاءات قبائل محيط صنعاء بين القوى الرئيسية الثلاث في البلد، وهي المؤتمر الشعبي العام، والتجمع اليمني للإصلاح، وحركة أنصار الله (الحوثيون). ولا توجد قبيلة خالصة الولاء لطرف من دون آخر، بل تتوزع الولاءات داخل القبيلة الواحدة بنسب متباينة لهذه القوى الثلاث. وبنظرة سريعة يمكن استعراض الخارطة الجغرافية والاجتماعية والسياسية لهذه القبائل على النحو التالي:
- قبائل همدان، وتسكن شمال وشمال غرب، ومعظمها يوالي حزب المؤتمر، مع تواجد نوعي للإصلاح والحوثيين، وقد ناصرت بعض عشائر همدان الحوثيين وفتحت لهم الطريق باتجاه صنعاء في سبتمبر 2014، نكاية بالإصلاح والفريق علي محسن الأحمر الذي يتهمه بعض أهالي همدان بالسعي لتنصيب مراكز قوى جديدة على حساب بيوتات أخرى عريقة. ولهذا قام الحوثيون فور سيطرتهم على همدان بتفجير منزل الشيخ قنّاف القُحيط، الموالي للفريق الأحمر، كما قاموا بتفجير العديد من المراكز الدينية والتعليمية المحسوبة على حزب الإصلاح في مناطق همدان.
وهناك همس أخيراً بأن قبائل همدان بدأت تراجع حساباتها تجاه مناصرة الحوثي بعد شكوك بقيام الحوثيين بتصفية قائد قوات الاحتياط (الحرس الجمهوري)، اللواء علي بن علي الجايفي، إثر إصابته في الغارة الجوية التي ضربت مجلس العزاء في صنعاء.
ورغم أن أكثرية همدان موالية لحزب المؤتمر، الذي يرأسه علي عبدالله صالح، إلا أنها لم تكن طيلة فترة حكمه على وفاق معه، إذ شعرت بالغبن في حصتها من المناصب الحكومية والعسكرية، بعدما كان أبناء همدان ذوي حظ وفير منها أيام فترة سلفه الرئيس أحمد حسين الغشمي، المنتمي إلى همدان، والذي حكم شمال اليمن لأقل من عام خلفًا للرئيس إبراهيم الحمدي، واتهم بتصفيته، ثم تعرّض بدوره للتصفية بحقيبة مفخّخة، قيل حينها إنها كانت مرسلة من نظام الشطر الجنوبي في عدن.
- قبائل أرحب، وتسكن شمال شرق العاصمة. وعرفت منطقة أرحب خلال العقدين الأخيرين بأنها من المعاقل التقليدية لحزب الإصلاح، وأشهر رموزه فيها النائب منصور الحَنِق. كما أن أرحب تعد موطن أجداد رئيس جامعة الإيمان وأحد القادة البارزين للإصلاح، الشيخ عبد المجيد الزنداني. وقد خاضت العشائر الموالية للحزب حرباً ضروساً ضد ألوية من الحرس الجمهوري تابعة لنجل صالح، خلال ثورة 2011 التي انتهت بإقصاء صالح عن السلطة وتولي نائبه عبدربه منصور هادي السلطة. وفي أرحب أيضا تواجد قوي لحزب المؤتمر الذي يرأسه صالح، بالإضافة إلى بيوتات تناصر الحوثي، من أبرزها بيت أبو نشطان.
- قبائل سنحان، جنوب شرق، وهي مديرية صغيرة لكنها كانت صاحبة القرار في العقود الثلاثة التي حكم فيها صالح اليمن. وينتمي إليها صالح ومحسن الأحمر (نائب هادي حالياً)، وهما من قرية واحدة، هي قرية بيت الأحمر، وهما الآن على طرفي نقيض بعد تأييد محسن الثورة ضد صالح في 2011، لكن مؤيدي صالح داخل سنحان أكثر من معارضيه. علماً أن قبائل محيط صنعاء، عموماً، خضعت طيلة العقود الثلاثة الماضية لسباق حصد الولاءات بين معسكري صالح والأحمر، حتى حين كانا يمثلان وجهين لنظام واحد. وما يسري على سنحان يسري على مديريتي بني بهلول وبلاد الروس، جنوب العاصمة، حيث الغالبية التقليدية لحزب المؤتمر، مع حضور طفيف لحزب الإصلاح، رغم كون النائب الإصلاحي البارز عبدالله صعتر ينتمي إلى تلك المناطق.
- قبائل خولان الطِيال، وتعد من أكبر التجمعات القبلية المجاورة للعاصمة، وتتوزع على سبعة بطون وثلاث مديريات، وتمتد من الضواحي الشرقية للعاصمة حتى حدود منطقة صرواح التابعة لمحافظة مأرب. وعادة ما كان حزب المؤتمر يحصد الدوائر الانتخابية في هذه المديريات، رغم التواجد القوي أيضا لمنافسه حزب الإصلاح. وإلى خولان ينتمي رئيس حزب الإصلاح، محمد اليدومي، كما ينتمي آل دويد، أصهار صالح، وأبرز قيادات حزبهم. وكان بعض المراقبين يتوقعون احتشاد قبائل خولان وراء الحوثي بعد حادثة صالة العزاء الخاص بآل الرويشان، وهم من أبرز أعيان المنطقة، والكثير من ضحايا الحادثة كانوا من أبناء خولان، لكن هذه القبائل فضلت التعامل بحكمة، خصوصاً بعد اعتراف التحالف العربي بأن الضربة كانت جراء معلومات خاطئة.
- قبائل بني مطر، غرب العاصمة، وولاؤها التقليدي لحزبي المؤتمر والإصلاح. وحسب مصادر محلية، تحدثت لـ"العربي الجديد"، فقد سقط سبعة قتلى إصلاحيون من قرية واحدة فيها في معركة دخول صنعاء.
- قبائل بني حشيش، شرق العاصمة، وهي المنطقة التي يتمتع فيها الحوثيون بحضور أكثر من بقية مناطق سوار العاصمة، وفيها دارت الحرب الوحيدة التي خاضها الحرس الجمهوري ضد الحوثيين أثناء الحروب الست. وتقول أدبيات صادرة عن السفارة الإيرانية في صنعاء إن منطقة بني حشيش تحوي في بعض مناطقها تواجداً لعائلات تعود أصولها إلى الفرس الذين قدموا إلى اليمن بطلب من الملك الحميري، سيف بن ذي يزن، والذين يعرفون ب"الأبناء"، وفيها قرى تحمل تسميات بهذا المدلول، مثل قرية الفُرس وقرية الأبناء. وقد تحدثت مصادر محلية، لـ"العربي الجديد"، عن أن قتلى الحوثيين، إلى ما قبل ستة أشهر، من بني حشيش وحدها بلغ 1700 قتيل، قضوا نحبهم في مناطق متفرقة من اليمن. وتكمن أهمية بني حشيش في كونهم المحطة التالية بعد محطة نِهم التي باتت قوات الشرعية تسيطر عليها منذ نحو عام.
- الهاشميون: وتتوزع الأُسر الهاشمية التي أظهرت غالبيتها بمختلف انتماءاتها، ولاءً للحوثي، على مناطق هذه القبائل. ويعد هاشميو حزام صنعاء المحرك التنظيمي والسياسي لأتباعهم في هذه المناطق.
ومما تجدر الإشارة إليه، أنه منذ ما بعد اقتحام الحوثيين للعاصمة صنعاء، خريف العام 2014 وحتى اليوم، برزت ظاهرة اختلاط الولاءات للعديد من القبائل الموالية لحزب المؤتمر، إذ باتت ترفع شعار الحوثيين وتردد "الصرخة" الخاصة بهم ضمن تحالف الفريقين للانقضاض على سلطة هادي. وعند استجلاء مثل هذه الظاهرة، يتبيّن أن نسبة كبيرة من هؤلاء قاموا بتأييد الحوثي ضمن تكتيك مؤتمري على هامش الحلف بين الطرفين، في حين أن نسبة أخرى هي حوثية بالأساس، وإن كانت حزبياً تنتمي إلى حزب المؤتمر. لكنها مثلاً، عند تمايز الفريقين، ستنضم للحوثي وليس للحزب، بينما طرف ثالث يمثل نسبة ليست قليلة، ظلت تحتفظ بانتمائها الحزبي للمؤتمر رافضة في الوقت ذاته التحالف مع الحوثيين. وهذا النوع قسمان: الأول التحق بالشرعية وانتقل إلى مأرب أو الرياض، والآخر فضّل الصمت والبقاء في البيوت.
محددات المواقف
لا يعد الولاء الحزبي أو الأسري أو المذهبي العامل الوحيد في تحديد مواقف هذه القبائل المحيطة بالعاصمة صنعاء، إذ ثمة عوامل أخرى لا تقل أهمية، يمكن إجمالها في النقاط التالية:
- منطق المصلحة: تتمتع قبائل محيط صنعاء بذهنية براغماتية في التعامل مع الكثير من المستجدات السياسية، وغالباً ما تتأخر في حسم مواقفها إلى حين ترجيح الطرف الذي تكمن المصلحة في الوقوف معه.
- منطق الغلَبة: يسيطر مثل هذا النوع من التعامل عقب حسم المعركة لصالح طرف على آخر، حيث يقف جزء لا بأس به من هذه القبائل "مع من غَلَب". لذا نجدها في الظروف الطبيعية تنتمي إلى الحزب الحاكم الذي يحتفظ بالسلطة لزمن طويل.
- منطق النكاية: عند استقراء مواقف بعض هذه القبائل نجدها تقف مع طرف نكاية بالطرف الآخر، أو نكاية بخصم قبلي وقف مع الطرف الآخر. وعادة ما ينتهي مثل هذا المنطق بعد شفاء الغليل وإيصال الرسالة المتوخاة. وقد لعب هذا العامل دوراً كبيراً أثناء تقدّم الحوثيين باتجاه العاصمة.
- منطق "الجمالة": تتضامن قبائل هذه المناطق في العديد من المنعطفات، مع الطرف الذي يهرع إلى نجدتها قبل غيره، ويتجمل لها ويعترف بأهميتها ويداوم على التواصل مع أعيانها.
ولا يعني كل ما سبق غياب الدافع الوطني الذي يحضر لدى العديد من أعيان تلك القبائل، كمحدد محوري في اتخاذ المواقف وبناء الولاءات، ويتواجد بنسب متباينة من عشيرة إلى أخرى ومن وقت إلى آخر. كل ما سبق هو حديث عن القبائل التي تقع على خط التماس مع العاصمة، وهذا لا ينفي، بطبيعة الحال، الدور المهم الذي تلعبه قبائل النسَق الثاني، والتي منها على سبيل المثال، قبيلة حاشد عمران، شمالاً، وقبائل برط الجوف في الشمال الشرقي، وقبائل الحيمتين في الشرق، والحدأ وعنس وآنس في ذمار، إلى الجنوب من صنعاء.