اليمن: العَلَم ليس المشكلة
بدأت معالم اول أزمة سياسية بعد الوحدة تطفو على السطح قبل اول انتخابات نيابية في ابريل ١٩٩٣ حين شعر الحزب الاشتراكي انه مستهدف بالإقصاء من شريكه في إنجاز الوحدة اليمنية المؤتمر الشعبي العام قرر استبداله بشراكة شطرية مع التجمع اليمني للإصلاح وجاءت نتائج الانتخابات بأن أصبح "الاشتراكي" ثالثاً في عدد المقاعد لكنه ظل محتفظاً بأغلبية التمثيل في المحافظات الجنوبية، واتسعت مساحة الشقاق بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح وحزبه ومعه حزب الإصلاح بقيادة الراحل الشيخ عبدالله الأحمر من طرف والأستاذ علي سالم البيض أمين عام الحزب الاشتراكي سابقاً ونائب الرئيس حينها، وتم إشراك ممثلين عن "الإصلاح" في الحكومة الجديدة التي بقي المهندس حيدر العطاس على رأسها. كان من أبرز نتائج أبريل ٩٣ أن غادر "البيض" صنعاء نهائياً واستقر في عدن معلناً رفضه العودة رغم كل المساعي التي بذلتها أطراف يمنية وعربية إلا أنها باءت بالفشل وتم تتويج الخلاف بالتوقيع على ما يعرف ب "وثيقة العهد والاتفاق" وكان من ضمن بنودها تقسيم اليمن إلى عدة مقاطعات لكنها لم تمنع من اندلاع حرب صيف ١٩٩٤م التي شارك فيها الكثير من القيادات الجنوبية وعلى رأسها الرئيس الحالي هادي وأسفرت عن هزيمة "الاشتراكي" لكنها رسمت بدايات الانفصال النفسي بين جنوب اليمن وشماله وظلت وتائره ترتفع إلى أن بلغت حد المطالبة بالانفصال وإعادة الوضع إلى ما كان عليه في ٢١ مايو ١٩٩٠م.
كنت واحداً من الذين نادوا بعودة البلاد إلى نظام اتحادي من شطرين وأتذكر أني حاولت مع الشهيد الدكتور محمد عبدالملك المتوكل إقناع الرئيس السابق علي ناصر محمد في دمشق أن يضم صوته لنا للعودة إلى دولة اتحادية من شطرين بحدود ٢١ مايو ١٩٩٠م، لكنه رفض الفكرة لحسابات يستطيع هو توضيحها. بنهاية حرب صيف ١٩٩٤م كانت الوحدة اليمنية قد اهتزت قواعدها وما عادت الشروخ التي تعرضت لها قابلة للالتئام ولم تتعامل صنعاء السياسية بتحالفاتها التاريخية القبلية (صالح - الأحمر) ومعهم القيادات الجنوبية التي كانت موالية حينها لعلي ناصر محمد، وتوسعت مساحات الافتراق وكانت حالة الإنكار لتردي الأوضاع في المحافظات الجنوبية تهيمن على الخطاب السياسي والإعلامي، وفاجأني مسؤول أمني كبير حينها بنظرية أن كل ما يحدث في الجنوب مرصود وأن عدد "المشاغبين" كما سماهم لا يزيد عن عشرة أشخاص، وهو نفس الرقم الذي صار يردده صالح وكل من حوله معتقدين أن إنكار المسألة سيجعلها تذوي، وإذا أضفنا إلى ذلك مسلسل امتلاك العقارات الحكومية والأراضي المملوكة للدولة دون وجه حق وبغير سداد أثمانها الحقيقية، وتسريح كل المنتمين للحزب الاشتراكي مدنين وعسكريين من مؤسسات الدولة ما زاد من نقمة المواطنين هناك فأحالوا كل ظلم وقع عليهم إلى الوحدة، وهم على حق في ذلك لأنها قامت بطريقة غير مدروسة ولأسباب ذاتية عند صالح والبيض، ولم تقدم لهم الحياة التي ظنوها تنتظرهم بعدها.
قبل أيام انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقالات وتعليقات حول حضور دبلوماسيين رفيعين حفلا أقامه تجمع جنوبي في إحدى الولايات بأمريكا، وكانت أغلب الانتقادات بسبب رفع علم (جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية) وغياب علم (الجمهورية اليمنية) التي يمثلها الدبلوماسيان، وسيكون الأمر مثيراً للاستفزاز لو أنهما تعمدا الحضور مع علمهما بهذا التوجه إلا إذا كانا مقتنعين به وهو أمر يخصهما لكنه لا يجيز لهما الحديث حينها عن (الجمهورية اليمنية) كما أنه من الواجب معرفة ما إذا كانت السفارة قد تحملت كل أو جزءاً من مصاريف الحفل كما جرت العادة في هذه المناسبات، وهنا سيكون الأمر شديد الحساسية ولا يليق بهما وكان من المفترض أن يقوم رؤساهما المباشرون بطلب توضيح الأمر مع قناعتي أن ذلك لن يحدث.
إن المسألة تتعدى رفع الأعلام أو تبرير الحضور، ويجب علينا مواجهة القضية بجرأة ودونما شطط والعمل بكل صدق لتحقيق ما يرغب فيه أبناء جنوب اليمن سواء بالانفصال أو الحكم الاتحادي بإقليمين ولكن هذا لن يتحقق قبل أن يتوافقوا على الصيغة التي ترضيهم وتشكيل جبهة جنوبية تمثل الغالبية، وحينها سيكون الأمر مفهوماً ومقبولاً. إن قيام دولة اتحادية بالطريقة الفجة التي يتم الإعلان عنها حالياً والحديث عن تقسيم اليمن إلى أقاليم دون وجود سند دستوري ولا قبول شعبي تم الاستفتاء عليه، لكنه يجري بطريقة قسرية مبتسرة ستؤدي في النهاية إلى تمزق الكيانات الوهمية التي نسمع عنها والإعلان عن حكامها، وأعجب من الذين يتصورون أن قيام دولة اتحادية يعني إلغاء وجود عاصمة اتحادية تدير العلاقات بين الوحدات الجديدة وتضبط إيقاعاتها ولا يكفي هنا النصوص واللوائح بل وجود قناعة لدى الناس بهذا الكيان الجديد.
ليست القضية رفع علم الجنوب ولا رفع علم الجمهورية اليمنية، بل نحن أمام كارثة أعمق وأخطر مما يتصور البسطاء وتأثيراتها الداخلية والإقليمية لا يمكن التنبؤ بها في ظل أوضاع شديدة القلق، ولا يجوز أن تستولي العاطفة وروح الانتقام على صانعي القرار الذين غابت ضمائرهم إزاء الكوارث الإنسانية التي لم ينج منها بيت يمني واحد ويرون في استمرار النزيف فرصة ثمينة للمزيد من المكاسب في موسم حصد أرواح اليمنيين.