arpo37

الاستخبارات والجاسوسية في قضيتي الحسيني والمبحوح

لقد عرفت المجتمعات البشرية منذ القدم عمليتي الاستخبار والجاسوسية وكان اقطاب وابطال هذه العملية هم العرافين والكهنة والسحرة لادعائهم الصلة بالقوى الغيبية والالهة والعالم الآخر،

فكانت لهم السيطرة الكاملة على عقول الناس وتوجهاتهم اذ كان الجميع يلجأ اليهم في السراء والضراء لاستكشاف مستقبلهم أو مساعدتهم على تجاوز ازمات معينة مادية أو نفسية وتحريرهم من قوى الشر التي تسيطر على حياتهم كما ياخذون باملاءاتهم وتوجيهاتهم في كل شؤون حياتهم فكان من السهل على هؤلاء الكهنة والسحرة والعرافين التدخل في جميع شؤون الحياة بما فيها السياسية والعسكرية ويساهمون في صنع القرار.

ثم تطور الوضع إلى ان اصبح للساسة والعسكريين حظهم الوافر في هذه العملية دون ان يلغى دور رجال الدين والسحرة والعرافين.

وقد تطورت العمليات الاستخباراتية والجاسوسية ونشطت في العهد القديم خاصة لدى الدول الكبرى والامبراطوريات القديمة التي كانت كلما توسعت وامتد نفوذها واحتاجت اكثر واكثر لهذه العملية كي تستطيع السيطرة على كل اطراف البلاد وتخومها وتشدد قبضتها ايضا على البلاد التي تحتلها سواء كان ذلك في ايام الحرب أو السلم.

و قد سجل التاريخ عمليات استخباراتية مهمة تمت في منتهى الدقة والذكاء ابدعها المصري القديم اذ تمت احداها في سبيل فك الحصار عن مدينة يافا الفلسطينية وذلك سنة 3400 3600 ق.م من طرف قائد عسكري يدعى توت حيث ارسل حوالي 200 الف جندي بسلاحهم ضمن سفينة محملة باكياس القمح وفور ان رست السفينة بميناء يافا خرج الجيش المسلح ليفك الحصار عن المدينة ويسلمها للجيش المصري المرابط حولها والذي تعذر عليه اقتحامها.

و يروي المؤرخ هيرودوتس ان احد الامراء لجأ إلى طريقة سرية طريفة لارسال مكتوب هام حيث لجأ لقص شعر احد العبيد ثم كتب رسالته على فروة راسه بطريقة الوشم ثم مسكه إلى ان طال شعره وغطى على حروف الرسالة ثم بعثه للهدف الذي قام بدوره بحلق شعر العبد كي يقرأ الرسالة ولا اعتقد الا انه امر بقطع راس العبد المسكين بعد ذلك أو حرق فروته كي تحتفظ المعلومات بسريتها...

ان هذه العملية كانت تهدف إلى حماية امن الدول والامبراطوريات والحفاظ على قوتها فتسهر على تنشيط العملية خارجيا بارسال مستطلعين وجواسيس للدول الاخرى التي يمكن ان تشكل تهديدا ضدها أو تمهيدا لاحتلال دول لتوسيع رقعة هذه الامبراطوريات ومد هيمنتها على شعوب اخرى وداخليا فهي تنشط من اجل استكشاف الجواسيس والعملاء وكل من يمكن ان يشكل تهديدا لامن الدولة أو الامبراطورية.

و يلاحظ ان هذه العملية تكون اكثر ايجابية لدى الدول العظمى التي تعرف نموا حضاريا وثقافيا معينا مثل الفراعنة والاشوريين والبيزنطيين والرومان وغيرهم من الحضارات القديمة التي كانت كلما وسعت من رقعتها الا وتركت بصمات حضارية هامة على الشعوب والاراضي التي تحتلها، لكن في العصر الحديث اصبحت عملية الاستخبارات والجاسوسية تعرف الكثير من الانحرافات التي نتج عنها في الكثير من المواقع استفزاز التهديدات الامنية ضد الدولة نفسها التي تقوم بالعملية من الخارج وتهديدات ايضا بتفككها من الداخل كما هو الحال بالنسبة للاستخبارات الأمريكية الممثلة في جهاز C.I.A وجهاز الموساد الاسرائيلي فقد ثبت تورط الجهازين في عمليات تجسس واستخبارات لم تجلب لهما سوى المتاعب والقلاقل الداخلية التي هددت حكوماتهم.

اما في البلاد العربية التي تعرف اشكالا من التخلف والفقر فإن هذه العملية تعرف انحرافات كبيرة جدا لدرجة التعامل مع الاجهزة الاستخباراتية المعادية لهدف واحد هو حماية النظام وليس الدولة لذلك فان الاجهزة الاستخباراتية العربية تتمتع بكافة الصلاحيات ولها الحصانة الكاملة وتعتبر فوق القانون مادامت تعمل لحساب النظام وبقاء رموزه في السلطة، وهذا ما يمكننا ان نستشفه من كلمات الرئيس جمال عبد الناصر وهو يدشن لاول جهاز استخباراتي عربي سنة 1953 حيث قال في اجتماع لمجموعة من الضباط الاحرار : " ليس لدينا حزب سياسي، لقد قمنا بالثورة ولا بد من أن ندافع عن أنفسنا وعن الثورة ".

واضاف عبد الناصر: " حتى الآن لا نعرف كيف نفعل ذلك، نحن في حاجة إلى جهاز يتولى حمايتنا والدفاع عن الثورة، لا بد من أن نؤسس جهاز مخابرات وأنتم مكلّفون بذلك ".

و من تلك اللحظة والاجهزة الاستخباراتية العربية تجتهد في حماية الانظمة من الداخل قبل الخارج مسجلة في سبيل ذلك العديد من الخروقات القانونية والاخلاقية والانسانية.

لكن وبعد تشديد قبضتها الامنية على مقالد الامور في هذه الدول شعرت بدورها الحساس والاساسي بدات تخترق بعض المواقع الحساسة بالدولة وتتدخل أو تستبد بالقرار السياسي ثم استحكمت فيها المطامع الاقتصادية والسيادية فتوزعت في مجموعات سرية نفعية تدين بالولاء لهذا الشخص أو الفئة من الساسة أو رجال الامن حسب قوة نفوذهم في الداخل وقوة اسنادهم من الخارج لتصبح حياة الشعب وقضاياه المصيرية مرهونة بمنافساتهم على السلطة والمطامع المادية. هذه المعركة الرخيصة التي وظفوا لها كل الاسلحة المشروعة وغير مشروعة واهمها : الجنس والمال لان هذان اكثر ما يستفز مشاعر واهتمام الشعوب.

على الساحة الفلسطينية هناك قضيتين تستأثران باهتمام الشارع الفلسطيني والعالمي حاليا تتوحدان في عملة الاستخبارات بوجهيها الرئيسيين : الجنس والمال.

القضية الاولى هي قضية الحسيني وبطلها الجنس والجميع يعلم تفاصيل توظيف هذا الجانب في القصة رغم ذلك تبقى الحادثة ليست ذات اهمية في حد ذاتها الا ان من القى بها للساحة يعرف جيدا الغرض الحقيقي أو ربما يجهله وترك نفسه العوبة بيد المستفيد الحقيقي وهم الاسرائيليين فقد جاءت لهم كطوق نجدة من استحقاقات كثيرة وهيأت لهم الجو لاخذ انفاسهم والوقت الكافي للتحايل على قضايا مهمة تحرجهم امام الرأي العام الدولي مثل قضية تقرير جولدستن واستحقاقات عملية السلام كما ارغام الجانب الفلسطيني للعودة لطاولة المفاوضات بلا قيد أو شرط اضافة لعرقلة عملية المصالحة الفلسطينية الداخلية وتسميم الاجواء العربية وهي مقبلة على مؤتمر هام بليبيا يعقد عليه امل كبير في تسريع عملية المصالحة العربية والفلسطينية وهذا ما اكده المحامي شبانة مفجر فضيحة الحسيني حين اكد ان ما لديه من معلومات تتعلق بنفس القضية يمكن ان تزيد من توتيرالاجواء بين الفلسطينيين داخليا والعرب ضد السلطة خارجيا. والملاحظ ان كل هذه القضايا والتطورات الخطيرة تبقى تحت الطاولة وفضيحة الجنس الثانوية تلقى في الساحة لاستفزاز مشاعر الشعب من اجل استغلالها لحساب مجموعات نفوذ متنافسة على السلطة.

هذه الدراما المضحكة والمحزنة تذكرنا بنكتة ظريفة ملخصها ان السيد بوش وبلير خرجا في مؤتمر صحفي مشترك فصرح بوش اننا قررنا قتل 200مليون مسلم ودكتور اسنان واحد فانصبت اسئلة الصحفيين عن سبب قتل دكتور اسنان واحد وعدد من الاسئلة الخاصة بهويته وسبب قتله وغيرها وكانت الحيرة تملأ راس بلير ايضا الذي سأل بوش بدوره عن السبب فاجاب بوش بخبث الم ترى ان الرأي العام المتمثل في الصحفيين اهتم بقتل الدكتور الواحد واهمل مسالة قتل 200 مليون مسلم ؟؟ ففهم بلير المغزى.

نتمنى ايضا ان يفهم شعبنا الفلسطيني المغزى من قضية أو فضيحة الحسيني.

القضية الثانية وهي قضية المبحوح فهنا لا يمكننا ان نستنتج الا ان رأس الشهيد قد بيعت بابخس ثمن وقد غابت سلطة الجنس لتحل محلها سلطة المال والمتهم الاول في قضية الجاسوسية أو العمالة هو حركة حماس نفسها وان كانت تجتهد في رد مثل هذه التهم، فبعيدا عن التحريات والتحقيقات الاولية التي اكدت بعضها تورط عناصر من الحركة في العملية فإنه بشكل عام وداخل اي حركة تتوسع في ساحة مريضة لا تعرف الاستقرار السياسي كما الساحة الفلسطينية فإن هذه الحركة أو التنظيم سيسمح بتسرب عناصر اما عميلة أو منتفعة خاصة اذا كان الفيصل في عملية الانتماء هو رفع الشعار والقيام بطقوس معينة توحي بالايمان حتى لو كانت من قبيل التظاهر أو النفاق كما استغلال مثل هذا النفاق الاجتماعي في تعزيز الصفوف وكثرة العدد من اجل الهيمنة السياسية في مثل هذا المناخ يسهل التحكم بالشعب وجعله رهينة لرجال الدين والمنتفعين والوصوليين ودجلهم السياسي تماما كما كان في فجر تاريخ الانسانية الجاهلي خاصة لما لجأ البعض لصبغ الحركة بصبغة القداسة والربانية فهي لا ياتيها الباطل لا من امامها ولا من خلفها ولا من بين ايديها، هذه الفكرة حجبت على فئة من الناس البسطاء حقائق يمكن ان تكون سببا في تدمير حياتهم والقضاء على قضايا مصيرية في تاريخهم. فابعاد الشبهة عن عناصر من الحركة " الربانية " في قضية المبحوح ستوجه الاهتمام والاتهام مباشرة للحركة المنافسة " فتح " ليزداد الوضع الداخلي تأزما كذلك ستوجه اهتمام الشعب للانتقام من اسرائيل التي نفذت عملية الاغتيال ثم الزج بالشعب في معركة دموية اخرى وهو لم يضمد جراحه بعد من العدوان الاخير على غزة هذا بدل ان تجتهد الحركة في تنظيف صفوفها وتعتمد معيار روح المواطنة وطهارة الضمير واليد بدل الانتماء الفصائلي والفئوية كمعيار لتحديد الاصلح لتقلد المسؤولية.

كل هذه الكوارث تتهدد الشعب الفلسطيني اذا لم يسارع إلى التفكر وعلاج قضاياه بشكل عملي ومنطقي ويكف الرأي العام عن شخصنة قضاياه وجعل مصيره مرهون بسلوكيات قادته فمن السخف والجهل ان نجعل مصير امة مرهون بيد فجور أو تقوى البعض منا والحل الامثل ان نعمل جميعا على استتباب العدل والمساواة وتعزيز الديمقراطية وتداول السلطة حتى لا تبقى بيد الاقوى عددا وعدة أو الاكثر تاييدا من الخارج لان هذا الوضع هو الذي ينشط عمليات التخابر والتجسس الداخلي بشكله السلبي الذي يعود على الامة بالكوارث وينتج مجموعات ضغط أو بالاحرى عصابات ضغط تستبد بالسلطة وتتنافس عليها أو تستحوذ عليها بالقوة كما هو الحال في الساحة الفلسطينية بين كل من حماس وفتح.

إن غياب الديمقراطية والعدالة هو السبب الاساسي في تضخم دور الاستخبارات المحلية وخروجها عن دورها الاساسي في حماية الدولة إلى التدخل في السلطة والعبث بامن الجماهير وهذا لا يحدث الا في الدول المتخلفة التي نشهد فيها باستمرار انقلابات دموية يقودها العسكريون لحسابهم أو لحساب مجموعات راسمالية تتحكم في اقتصاد البلد لتجتمع القوة والمال وتشكل ديكتاتوريات تتسلط على رقبة الشعب وتصادر كل حقوقه.

*كاتبة مغربية

زر الذهاب إلى الأعلى