لم يستقبل أحد بجدية تهديدات حامد كرزاي بالانضمام إلى "طالبان"، وحديثه عن أن وجود القوات الأمريكية والغربية في بلاده، سيتحول إلى احتلال إذا واصلت التدخل في الشؤون الداخلية لبلاد الأفغان.
فالنظام الذي صنعه الأمريكيون في أفغانستان يختلف عنه في العراق. و هناك فارق بين الوجود الفعلي على الأرض للنظامين.
ففي الحالة العراقية، جاء الحكام من النخب المعارضة الشيعية والكردية، وهم يمثلون الغالبية من السكان، ولهم باع طويل في المعارضة. ولذلك فإن لهم قاعدة اجتماعية كبيرة مهما قلل منها أعداؤهم، مثل تلك القاعدة المتوفرة للمجلس الإسلامي الأعلى والتيار الصدري وحزب الدعوة.
هذه القاعدة في ظل الاستقطاب الطائفي، يمكن أن توفر لهم دعما في حال الانسحاب الأمريكي من البلاد، خصوصا أن هؤلاء الحكام سيطروا على الموارد الاقتصادية الغنية للعراق الثري بالنفط، وشكلوا أجهزة الحكم والأمن والجيش وفقا لمصالحهم.
أما في الحالة الأفغانية؛ فإن الأمر مختلف. فأكبر وأقوى قومية في البلاد هي البوشتون. وهم الحكام التقليديون للبلاد منذ قرون، ولا يُتصوَر أن يكون رئيس أفغانستان من غيرهم، فيما كتلة المعارضة الرئيسية إبان حكم طالبان كانت تتمثل في تحالف الشمال الذي يعتمد بشكل أساسي على طائفة الطاجيك، مع وجود للأوزبك والهزارة وغيرهم من القوميات.
ولأن هذا التحالف لم يكن قادرا على فرض السيطرة على الجنوب البوشتوني، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لجأت إلى الزعيم القبلي حامد كرزاي؛ ليمثل غطاء بوشتونيا للنظام الذي تريد أمريكا تشييده بدلاً من طالبان.
كرزاي الذي تزعّم قبيلة بوبلزي بعد اغتيال أبيه عام 1999، لا يتمتع بقاعدة اجتماعية أو سياسية كبيرة في أوساط قومه البوشتون، فبرغم أنه من عائلة سياسية كبيرة، حيث كان عمه رئيسا للمجلس الوطني "البرلمان" في عهد الملك الأفغاني السابق محمد ظاهر، إلا أنه لم يكن من سياسيي الطبقة الأولى في عهد الجهاد الأفغاني ضد الروس. فهو مجرد زعيم قبلي كبير في بلد يعج بمئات القبائل، وبعد سقوط حكومة نجيب الله الموالية للروس في كابول، فإن أعلى منصب تولاه كرزاي كان وكيل وزارة الخارجية في حكومة برهان الدين رباني.
ومن المفارقات أن كرزاي كان على تواصل مع حركة طالبان عندما كانت في الحكم، ثم تحولت العلاقة إلى عداء إثر حادثة اغتيال والده أمام أحد مساجد مدينة كويتا. فقد اتهم كرزاي طالبانَ بالضلوع في تلك الحادثة، وأصر على اتهامه بالرغم من نفي طالبان أية صلة لها بالحادث وقرر منذ ذلك الوقت العمل على إسقاط هذا النظام.
وقد تسنى له ذلك بمساعدة القوات الأمريكية عام 2001، كما يعرف عن كرزاي الحاصل على الماجستير من الهند عداءه لباكستان، وكرهه للأفغان العرب، حيث كان يدعو دائمًا إلى طردهم من أفغانستان.. ويتهمهم بقتل مدنيين أفغان، ويحمّلهم جزءا من المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع السياسية في أفغانستان.
اختيار الأمريكيين لكرزاي ليكون رئيسا للحكومة الأفغانية الانتقالية التي نصّبوها بعد إسقاطهم لحكم طالبان، جاء لأنه زعيم قبلي تقليدي، وفي نفس الوقت مثقف ثقافة غربية، ويجيد التحدث بلغات عدة من بينها الإنجليزية. فهو يجمع بين الزعامة القبلية التقليدية والحياة العصرية، فأحيانا يرتدي اللباس الأفغاني بعمامته المشهورة، وأحيانا أخرى يرتدي الزي الغربي بربطة العنق الأنيقة.
وهو بذلك يختلف عن أغلب الزعماء الأفغان الذي ينتمون إلى خلفيات جهادية أصولية، لا تعجب الغرب أو زعامات قبلية تقليدية، لا تلائم أهداف الغرب الذي كان يطمع في أن يجعل أفغانستان نموذجا يُحتذى به في العالم الإسلامي. ولكن كرزاي أثبت أنه بالرغم من مظهره الغربي، فإن جوهره لا يختلف عن زعماء الحروب الذين سيطروا على أفغانستان عقب خروج الروس، والذين اضطروا الشعب الأفغاني إلى القبول بحكم طالبان المتطرف هربا من جورهم.
ولكن الفارق بين كرزاي وبين أمراء الحرب التقليدين، أن الآخرين يعتمدون عل سلاحهم للبقاء في الحكم. أما كرزاي، فإنه يعتمد على السلاح الأمريكي، في ظل غياب بديل بوشتوني يمكن أن يحكم أفغانستان. حتى أن الحرس الشخصي لكرزاي من الأمريكيين. وقد وفرت هذه الحماية الأمريكية لكرزاي حصانة ونفوذا واسعا، استغله الرجل في محاولة لخلق بطانته الخاصة، وتجاهل الأمريكيون- خصوصا في عهد إدارة جورج بوش السابقة- شبهات الفساد التي تحيط به، والاتهامات التي تحيط بأخيه أحمد كرزاي بشأن تجارة المخدرات في الجنوب الأفغاني، إلا أن السيل بلغ الزّبى في الانتخابات الرئاسية الماضية.
فقد وصفت وسائل إعلام غربية فوز كرزاي بولاية جديدة، بعد إلغاء جولة الإعادة الثانية للانتخابات الرئاسية، بأنه انتصار للفساد والاحتيال والكذب والتزوير، فيما يفترض على باراك أوباما الذي جاء إلى العالم بحلم الإصلاح، أن يرسل إلى جبال أفغانستان بآلاف الشباب الأمريكيين؛ ليموتوا دفاعا عن هذا الحكم.
ولقد علق نائب رئيس بعثة الأمم المتحدة السابق في أفغانستان، الدبلوماسي الأمريكي السابق بيتر جالبرايث، قائلا:" النتيجة كانت تدمير بذور الديموقراطية هناك؛ لأن عمليات التزوير واسعة النطاق، التي حدثت في المرحلة الأولى لصالح كرزاي، كانت بفضل صناديق الاقتراع الوهمية، وفساد مفوضية الانتخابات المستقلة".
وقال جالبرايث الذي استقال بسبب الخلاف مع رئيس البعثة الأممية هناك، حول كيفية التصدي للتزوير الواسع الذي شاب الانتخابات، في مقال بصحيفة "الجارديان" البريطانية:" إن كرزاي كان مصمما على الانتصار في هذه الانتخابات، ولو كان ذلك على حساب بلاده والمجتمع الدولي. وقد نجح في ذلك، وستدفع أفغانستان وحلفاؤها في الخارج ثمن ذلك غاليًا".
بدا واضحا أن الغرب لم يعد يتحمل تبجح كرزاي في عملية التزوير، خصوصا أن كرزاي لا يتوفر له الجانب الآخر من المهارات. وهو أن يكون ديكتاتورا ناجحا. والدليل أن أجهزة الدولة الأفغانية التي يقودها، حالتها متردية للغاية برغم الدعم الغربي الواسع، وحالها لا يقارن بالنجاح العراقي في بناء أجهزة دولة على عيوبها، وطائفيتها.. هذا برغم أن الوضع الأمني والسياسي في العراق كان أسوأ من أفغانستان، وكانت بغداد وليس كابول هي أخطر مكان في العالم.
فكرزاي أخفق في أن يقدم نفسه إلى الغرب كحاكم براجماتي قادر على فرض الاستقرار في أفغانستان، حتى بطريق غير ديموقراطي. ولكنه يبدو كحاكم كسول، يريد أن يستمر في الحكم- استنادا للدعم الغربي- إلى الأبد، مع قيامه بعدد من الصفقات والمناورات مع القوى الداخلية في هذه البلاد الممزقة؛ لضمان الفوز في الانتخابات.
فأعاد رجلَ الحرب الدموي الجنرال الأوزبكي عبد الرشيد دوستم، المتهم بارتكاب جرائم حرب ضد سجناء حركة طالبان، إضافة إلى جرائمه خلال الحرب الأهلية. كما وافق على قانون خاص بالطائفة الشيعية، يسمح للرجل بأن يمنع عن زوجته الطعام إذا امتنعت عن الجنس معه. وهو القانون المعروف "بالجنس مقابل الغذاء".
وعندما بدأ الغرب الذي جاء به في محاسبته، فإن كرزاي سارع بمحاولة استفزاز الشعور الوطني الأفغاني، والتلويح بالانضمام إلى طالبان، بعد رفض البرلمان الأفغاني منحه حق الإشراف على لجنة الشكاوى في الانتخابات. واتهم كرزاي- الذي يريد أن يكون القاضي والمتهم- سفارات الدول الأجنبية بتشجيع البرلمان على ذلك الموقف. والمفترض أن يستجيب الشعب الأفغاني المسكين لتحريض الزعيم الذي جاء على متن الدبابات الأمريكية!
وبالرغم من هذه الأزمة بين الولايات المتحدة وحليفها، فإن كثيرين في الولايات المتحدة يطالبون بعدم التمادي في انتقاد كرزاي؛ لأنه يبقى اختيارا أمريكيا بامتياز.
وستظل هذه العلاقة الشاذة بين الأمريكيين وبين كرزاي قائمة. وسيظل وضع أفغانستان المزري مستمرا، ليس إلى حين أن تجد الولايات المتحدة الأمريكية بديلا بوشتونيا لكرزاي، بل إلى حين أن يجد الأمريكيون والأفغان معا بديلا للمعادلة الحالية، وهي: احتلال لن يكون شرعيا، مهما كانت مبررات وجوده قوية. ومقاومة لا يمكن أن تشكل بديلا، مادامت متمسكة بنهجها المتطرف، ولم تتعلم من التاريخ.