arpo27

سعيد ثابت: مهمة المثقف تثقيف العالم لتصحيح تحولاته العالمية

كان من ضمن قلة من الإصلاحيين الذين شكلوا صوتا ناقدا وعاليا للتشدد داخل الإصلاح هاجر بعضها من أطر الحزب ولكنه لم يغادر, ظل وفياً لما يسمى ب«النقد من الداخل» ولذا يتهمه بعض خصومه الأيديولوجيين بأنه راديكالي السياسة, ما علينا فالرجل ذاته ليس متحسسا من الراديكالية فهي «ليست بالضرورة تشدداً» ..

في نهاية التسعينيات من القرن الماضي تلقى ضيفنا صفعة تكفير من إخوانه المتشددين عندما تجرأ بالقول إن «الإسلام ليس شعاراً للحل», لكنه اليوم مصر على صدق عبارته بل يصل بها إلى مدى يعتبر فيه الأسلمة أيضا ظاهرة تجاوزها الزمن.. سعيد ثابت سعيد الكاتب الصحفي ووكيل نقابة الصحفيين والباحث في الحركة الاسلامية له إسهامات كثيرة في الفكر والنقد وسيصدر له قريبا كتاب حول الحركة الاسلامية اليمنية ..

{>.. نبدأ من حديث الساعة حول مسألة تحديد سن الزواج.. ما هذه الضجة التي نسمعها؟

في اعتقادي هذه قضية مفتعلة، وهي في الأصل مسألة خلافية لم أتحمس لها، ولا أرغب في الخوض فيها، إذ كلا الطرفين قدم رؤيته، ولكل منهما دليله، أما الذين قالوا بأن وراء تحديد سن الزواج استهداف لقيم وأخلاق المجتمع، في تقديري هؤلاء لا يقرؤون واقع المجتمع والمتغيرات التي طالت أعماقه نتيجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والذين يعتقدون أن إصدار قانون يحدد سن الزواج سينهي المشكلة أعتقد أيضا أنهم مخطئون بحكم طبيعة تركيبة المجتمع تعقيدات الواقع الاجتماعي اليمني، الذي يعيش %75من المواطنين في الريف بما يحمل ذلك من مصاعب اتصالية وضعف غياب الدولة ومؤسساتها فيه ينعكس سلبا على تطبيق القوانين، وهذا القطاع الريفي كما تعلم له وجهة نظر خاصة في مثل هذه المواضيع، لاسيما مع تردي أوضاع التعليم وتراجع نسبة الإقبال عليه جراء الأزمات الاقتصادية المستمرة في البلاد، أعتقد يا أخي اننا محتاجون إلى النظر في قضايا أخرى ذات أهمية أكثر.

{>.. قلت قبل قليل مفتعلة.. من افتعلها؟!
أجهزة ودوائر وأيضا بعض شخصيات في بعض الأحزاب تعرف نفسها جيدا، لها امتدادها الماضوي أثارت أكثر من زوبعة في التاريخ قديما وحديثا، وهي تعتاش على إثارة مثل هذه القضايا الهامشية والصغيرة؛ لكنها لا تأبه للقضايا المهمة والكبيرة، فحين تسفك الدماء أو تنتهك الحقوق والحريات، أو يموت أشخاص من الجوع لا يفكرون في الانتصار لها، وهو ما تريده السلطات السياسية دائما على مر الأزمان!.

{>.. هل تقصد أتباع حنابلة بغداد، التي تعتبر ربيبة السلطات الاستبدادية والمتحالفة معها في عقد كاثوليكي؟
اسمح لي بالتحفظ على قولك “حنابلة بغداد” وأعرف ماذا تقصد؛ فلا بد أن نعرف أن الحنبلية كمذهب فقهي صاحب اجتهاد علمي نحترمه ونقدره ولا نعتبره خطرا على الفكر الإسلامي ولا الإنساني. وبالتحديد في بغداد كان ثمة علماء حنابلة كسروا قيد التقليد، وتحرروا منه، ودعوا إلى الاجتهاد، ومارسوه بأنفسهم، من بينهم الفقيه أبو الخطاب الكلوذاني البغدادي، والفقيه أبو الوفاء بن عقيل البغدادي، والفقيه أبو الحسن بن الزاغوني البغدادي، والوزير الفقيه عون الدين بن هبيرة البغدادي، و الفقيه المؤرخ عبد الرحمن بن الجوزي.
الحنابلة ليس لهم رؤية عقائدية بقدر ما لهم رؤى اجتهادية في الفقه، وأعتقد أن ثمة تيارات وشخصيات من مختلف المذاهب والطوائف تتحالف غالبا مع الاستبداد في علاقة كاثوليكية، وهي في معظمها بالمناسبة متدينة في حقيقتها؛ لكنها لا تلتفت إلى مصالح الأمة أو مصالح الشعوب، بقدر ما تلتفت إلى مصالح الحكام أو إلى مصالحها الضيقة، وهي لم تقمع أو تتعرض لأي نوع من الأذى؛ بل إن شرعيتها وحضورها قائم أساسا على هذا التحالف!!

{>.. عودة إلى موضوع الزواج المبكر.. هل لهذه الزوبعة علاقة بهيئة الفضيلة؟
أولاً: أوضح أن هذه القضية أساسها علمي وتحسم على أساسه، ولا داعي لخروجها بهذه الصورة المتسمة بالضجة الإعلامية؛ أما عن ما يسمى بهيئة الفضيلة فأنا كنت معارضا لها من البداية وهي تخوض في ميدان غير ميدانها الحقيقي، وحسب علمي فإنها قد ماتت في مهدها واندثرت. وقد حلت نفسها.

{>.. رموزها والداعون إليها معظمهم قيادات حزبية معروفة، لماذا لا يوصلون أصواتهم أو أفكارهم من مواقعهم؟
هذا الذي ينبغي أن يحدث، فهم من أكثر من حزب، وعندما يندفعون بهذه الطريقة ربما تدفعهم غيرتهم على الدين، وعلى القيم؛ لكنهم أخطأوا الطريق في اعتقادي، وللأسف معظمهم كما ذكرت هم في أحزاب المعارضة وأيضا في الحزب الحاكم، لكن لم نسمع لهم صوتا في قضايا حقيقية ومهمة، إذا ما وضعت قضية مهمة من القضايا المتصلة بالحقوق والحريات وما أشبهها سرعان ما يرفعون عقيرتهم بنغمة أخرى مضادة تماما، بل ويثيرون قضايا اجتماعية لا داعي لها في الأساس.

{>.. دعنا نخوض في التفاصيل.. هؤلاء أصبحوا تيارا متكتلا داخل حزب الإصلاح، ألا يمثلون لكم عقبة أمام مشروعكم التحديثي؟
يا سيدي أولا هؤلاء هم كما قلت أعضاء من مختلف الأحزاب بما فيها الإصلاح، ومبدئيا أنا لا أدينهم كفكر ما داموا في النهاية يحتكمون للمؤسسة، وهذه سمة طيبة.

{>.. الملاحظ أنه لم يعد اختلاف رؤى فردية بقدر ما أصبح تكتلا معروفا وله تفكيره واجتهاداته..؟
المشكلة ليست في كونهم يمثلون مدارس فكرية أو فقهية الخطورة تكمن في التخندق أو الاصطفاف الشللي. ما يحدث في الإصلاح حقيقة أن هناك تيارات فكرية مختلفة لكن ما يجمعها القرار المؤسسي في الأخير وهذا ما حدث مؤخرا، ونحن لا نضيق ذرعاً بهم.

{>.. سمعنا سابقا عن كتاب لك حول تاريخ الحركة الإسلامية في اليمن.. لماذا تأخر عن موعده الذي سمعنا عنه؟
الكتاب يكاد يكون جاهزا لولا بعض الإعاقات البحثية ربما أهمها عدم وجود مراجع مكتوبة في هذا الموضوع فهو يعتمد على الشهادة الشفوية، التي تركزت على شهادات المؤسسين وهم أكثر من ستين شخصية بعضهم قد غادر الحركة وبعضهم خارج البلاد، وقد استنزف مني الجهود الكبيرة، وسترى المجلد الأول ربما قريبا إن شاء الله وهو عن طبيعة النشأة التي تختلف نسبيا عن النشأة في بقية الأقطار العربية..

{>.. كيف؟ هل هي منفصلة عن الحركة الأم في مصر؟
ليست مستجلبة استجلابا من مصر. هناك مدرستان فكريتان داخلها، مدرسة تنظر إلى التغيير نظرة فوقية من الأعلى إلى الأدنى، ومدرسة أخرى تنظر إلى مسألة الإصلاح عن طريق التربية والبدء من الأدنى. والحركة الإسلامية في اليمن نشأتها طلابية في البداية، لم تبدأ عمالية أوفلاحية..

{>.. متى نشأت؟
تقريبا في منتصف الستينات.

{>.. لم يكن لها ارتباط كما ذكرت بالحركة الأم في مصر كما ذكرت؟
لها ارتباط فكري وليس تنظيميا بحكم أن الحركة الأم كانت مغيبة حينها، وكان فضيلة المرشد العام “المستشار حسن الهضيبي “ رحمه الله في السجن، وانتقلت قيادة التنظيم العربي إلى قيادة تنظيم الحركة في سوريا برئاسة الأستاذ عصام العطار الذي كان قائما بأعمال رئيس المكتب التنفيذي لجماعة الإخوان في الأقطار العربية. الحركة اليمنية كانت طلابية في الأصل استمدت مشروعيتها من فكر الشهيد حسن البنا إلى جانب تراثنا الفكري اليمني كالشوكاني وابن الأمير وحتى مرجعية الشهيد الزبيري والعلماء الأفاضل عبد الله الحكيمي ومحمد البيحاني والأديب علي أحمد باكثير.

{>.. هؤلاء مراجع فكرية أم تنظيمية؟
لا. مراجع فكرية.

{>.. طبيعة التنظيم والأهداف المرسومة آنذاك؟
كان تنظيما طلابياً إخوانياً أطلقوا على أنفسهم اسم حركة الطليعة العربية الإسلامية، ولم يكن في ذلك الوقت الفصام النكد موجودا بين الإسلاميين والقوميين، كانوا مستلهمين الفكرة الأصيلة التي جاء بها الأستاذ البنا قبل أن يشوبها شوائب المحنة التي تعرضت لها فيما بعد وسرت العدوى في لحظة تاريخية إلى كثير من الأقطار العربية، وانتهت. ولا أنسى أن أشير أن هناك مؤرخا كبيرا للحركة الإسلامية في اليمن هو الأستاذ المؤرخ عبد الملك الشيباني وأنا أعتبر نفسي تلميذا له، وأعتبره المرجع الأول في التاريخ العام للحركة.
{>.. قلت لم يكن ثمة انفصام نكد بين القوميين والإسلاميين في الستينات، ما الذي طرأ عليهما في أواخر السبعينات والثمانينات؛ عندما تحولت العلاقة بينهما من الوئام إلى الخصام؛ بل إلى العداوة أحيانا؟
صحيح هذه مرحلة تاريخية جاءت محكومة بسياقها التاريخي السياسي، ربما تفسيرها التاريخي مرتبط بطبيعة الاستقطابات الفكرية والسياسية التي وسمت وطبعت المنطقة بواسطة تخندق اليسار أيضا وعدائه للحركة الإسلامية ونظرته الاستعلائية للآخرين، في المقابل كانت الحركة الإسلامية تتوجس منه بحكم الصراع الأيديولوجي، وكان ثمة صراع ربما يعود إلى طبيعة ما يفرضه العمل التنظيم والحركي السري الذي يفضي كثيرا إلى حالة تربص وتوحش في العلاقة بين القوى التنظيمية ذات الأيديولوجيات المتباينة، على غير ما هو موجود اليوم من علاقة طبيعية تتسم بالتحاور والتشاور والتواصل بين ذات القوى. وأنا لا أبرىء الأنظمة السياسية أيضا التي لعبت دورا (تحريشيا) في العملية.
{>.. من جهة أخرى أيضا حصل تراجع فكري لدى كثير من قادة الحركة ليس على مستوى اليمن فحسب؛ بل على مستوى الوطن العربي كله بما ذلك مصر في قضايا حساسة آنذاك كانت محسومة لدى الأستاذ البنا كالموقف من الديمقراطية والقومية وغيرها؟

مسألة المصطلحات التي أشرت إليها تحتاج إلى قليل توضيح، بالفعل حدثت إشكالية في مرحلة الستينيات والسبعينات وجزء من الثمانينيات تجاه هذه التعاطي مع المفاهيم والمصطلحات الفكرية والسياسية التي افرزها التطور الإنساني، ربما كان رد فعل لتيار نافذ داخل السلطة يتستر بستار الحداثة والتجديد وهو في جوهره تيار استئصالي داخل بنية النظام العربي، أراد أن يقصي حتى المفاهيم والمصطلحات وحتى القيم الإسلامية، في المقابل كانت ثمة ممانعة عند الطرف الآخر وهو هنا الإسلاميون لإثبات الهوية الإسلامية.. المصطلحات كانت تستخدم استخداما سياسيا لا استخداما حقيقيا؛ وكان الإسلاميون ربما يسعون لحماية أنفسهم من الاجتثاث وحماية الذات من طوفان الأفكار والقيم الوافدة، لكن سرعان ما تلاشت هذه الحالة، وأذكر أنه في العام 1984م تقريباً فتح ملف في مجلة المجتمع الكويتية حول أهمية وضرورة تجسير الحوار مع الآخر (أحزاباً وأنظمة) وكان يتناول قضية تحسين العلاقات بين الأنظمة الحاكمة والقوى السياسية والفكرية المغايرة وبين الحركة الإسلامية. وبدأت الهوية الإسلامية تفرض نفسها، وتبرز بصورة أوضح في الساحة، واليوم ثبت أن الذي يحارب الديمقراطية هو من كان يزعم أنه حداثي وديمقراطي وتجديدي!!
{>.. يرى البعض استحكام الأجنحة الراديكالية سواء في السلطات أو في الأحزاب المعارضة، بما في ذلك سيطرة الراديكاليين داخل منظومة العمل الإسلامي كاملاً، من سلفية وصوفية وإخوانية وغير ذلك.. بم تعلل ذلك؟
لا أستطيع أن أجاريك، أو أوافقك في كل ما طرحته هكذا على إطلاقه، هناك تيارات وأحزاب وجماعات ذات مدارس إسلامية مختلفة، ظهر فيها الغلو والتشدد والتطرف؛ لكنه لم يظهر لأنه نتاج المرجعية الإسلامية، بل كانت تلك الظواهر الشاذة تعبيرا أو استجابة لواقع اجتماعي اتسم بالقهر والإقصاء، وفرض التغريب بقوة القمع السلطوي.
والراديكالية مصطلح قديم منذ العصور الوسطى، وهي تعريب للكلمة الإنجليزية “Radicalism” وأصلها كلمة “Radical” وتقابلها باللغة العربية حسب المعني الحرفي للكلمة (أصل) أو (جذر) ويقصد بها عموما (مثل كلمة أصولية) العودة إلى الأصول والجذور والتمسك بها والتصرف أو التكلم وفقهاً فهي إذن “كل مذهب محافظ متصلب في موضوع المعتقد السياسي”. ويمكن القول أيضا بأن الراديكالية هي نهج أو سياسة تسعى لإدخال إصلاحات جذرية على النظام الاجتماعي القائم،من معاني الراديكالية كذلك التطرف، أي النزعة إلى إحداث تغيرات متطرفة في الفكر والعادات السائدة والأحوال والمؤسسات القائمة،ظهرت في بداية الأمر للإشارة إلى تصلب رجال الكنيسة الغربية في مواجهة التحرر السياسي والفكري والعلمي في أوروبا، وللدلالة على تصلب رجال الكنيسة و(راديكاليتهم) بمعنى تعصبهم وتصلبهم وإصرارهم على الأصول القديمة دون تجديد. لكنها أصبحت تشير فيما بعد إلى العكس، إلى التغيير، ليس بمعنى العودة للجذور فقط، ولكن التغيير عموماً بشكل جذري؛ إذ أصبحت تنسب إلى جذور الشيء، ويقال إن الجذريين أو الراديكاليين هم الذين يريدون تغيير النظام الاجتماعي والسياسي من جذوره، ولهذا فسرها البعض على أنها تعبر عن الإصلاح الأساسي، حسب نظرة هؤلاء، من الأعماق أو الجذور.
مفهوم (راديكالي) إذن لا يؤدي بالضرورة إلى التشدد والتطرف، ربما تعني الجماعات التغييرية التي ليست مع الخط الإصلاحي، أما التيار المتشدد والمتصلب أو النصي إن جاز التعبير فهو ينشأ غالباً بسبب هيمنة مشاعر اليأس والإحباط، وغياب اليقين، وانسداد آفاق الأمل بغد أفضل، أو نتيجة سيطرة الشعور بالاستهداف والاجتثاث، فيلجأ الناس إلى حماية صفهم بمثل هذه الأساليب (اعتماد التشدد في الانفتاح على المحيط، والتشدد في اختيار الأنصار، والتشدد في التعاطي مع المستجدات) وهي أساليب يعتبرونها صحيحة، ومطلوبة لحماية الذات.
أنا لا أعتقد ولم أشعر في يوم من الأيام أن حركتي التي أنتمي إليها هي حركة راديكالية، نحن حركة إصلاحية ولسنا حركة ثورية. وأقول لك إن التشدد مرهون حاضراً ومستقبلاً بالعنف الذي يفرضه طرف على طرف آخر أياً كان. التشدد وليد التشدد. والعنف وليد العنف. هذه قاعدة عامة لو استقرأناها بعمق ودقة لخرجنا من أزماتنا التي تصنع تلك المظاهر المتطرفة والعنيفة.

{>.. لا وجود للتيار الوهابي داخل جماعة الإخوان؟
أسمح أن أدعي لنفسي أنني متثقف أو في طريقي للتثقف..

{>.. معذرة؛ بل أنت أكبر من مجرد مثقف عادي؟
«مستأنفاً» لا أحب أن أطلق كما يعلم الله ألقاباً أو أسماء على جماعات هي ذات طابع تنفيري، أناس كثيرون ينفرون من كلمة (الوهابية). شخصياً لا أنفر منها، وأقرأ حركة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في سياقها التاريخي، والمكاني، وأعدها حركة إصلاحية تجديدية في هذا السياق. ثم إن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يطلقوا على أنفسهم هذا الاسم. هذا الاسم أطلقه خصومهم عليهم. الشيخ محمد بن عبد الوهاب شخصياً أحدث حراكا واسعاً في العقلية الإسلامية، وحرر العقل المسلم من كثير من الخرافات في لحظة تاريخية؛ لكن نتيجة للتحالف السياسي الذي حصل فيما بعد.. عمل على تغيير في جدول أعمال هذه المدرسة، وحرفها عن خطها الأصيل. وتدخلت فيما بعد فيما لا يعنيها أو لا يقع في مجال اهتمام بحثها وعلمها. هي في المقام الأول جاءت لتحرير العقل المسلم من الخرافات العقدية، فلما تدخلت في مجال غير مجالها، وفي ميدان غير ميدانها نشأت كثير من الأخطاء التي أدت إلى كوارث. بالنسبة للحركة الإسلامية في اليمن لا علاقة لها في أصل النشأة والمسار بما يطلق عليه (الوهابية)، إلا أنه للأسف حدث اختراق لصفوفها في منتصف السبعينات وخاصة بعد الطفرة النفطية، تسللت أفكار تصطدم مع أفكار الحركة الإسلامية وتتناقض معها في الأساس، صحيح لها الحق في نشر فكرها بالطريقة التي تريد؛ لكن لا يحق لها أن تمارس وصايتها على فكر حركة عريقة أخرى لها استقلاليتها وشخصيتها الفكرية!!

{>.. للأسف هذا ما حصل بفضل الريال الحنبلي..؟
لست في وارد الرد على هذا الاستدراك منك، ومع هذا أقول إن هناك مراجعات حدثت أكثر من مرة ولا يجوز أن نحاكم الحركة الإسلامية في اليمن إلى فكر غيرها بل إلى مرجعيتها الفكرية والسياسية الخاص بها.
{>.. برأيك إلى أي حد أثرت في فكر الإخوان، (الفكر البنائي) المتقدم؟

أحدثت نوعاً من العزلة، في لحظة تاريخية عزلتنا عن المحيط، عن المجتمع، لديها فكر انعزالي بصراحة، ألحقت أضرارا في مسار الحركة على المستوى السياسي وعلى المستوى الثقافي أخرت كثيراً من الأفكار، حاولت تجميد حركية الاجتهاد العلمي والدعوي والتنظيمي، وفي مطلع الثمانينات من القرن الماضي جرت عملية مراجعة وتقييم واستدراك لكثير من الأفكار.

{>.. يا سيدي هي الآن حاضرة بقوة ومعروفة ولا يستطيع أن ينكرها أحد..؟
كتيار له تأثير على صناعة القرار والتوجيه لا. لقد صار ضعيفاً.

{>.. هيئة الفضيلة ألا يعتبر وجهاً آخر لفصيل وهابي معروف في بلد مجاور؟
لا أعتقد أن لها صلة تنظيمية بها....

{>.. فكرياً، وهو الأخطر..؟
فكرياً لا نستطيع أن نمنع تفكير الناس.. هذا تفكيرهم؛ لكن إذا ما استطاعوا أن يصنعوا قراراً داخل الحركة فهنا التأثير. ما هي معيارية التأثير؟ أليست صناعة قرار ما؟ وهذا ما ليس واقعاً وأنت تعرف أخي ثابت أن قطاعاً كبيراً داخل الحركة كان ضد فكرة إنشاء هيئة الفضيلة. وكثيرون رفضوها. اليوم هؤلاء الذين تعتبرهم وجها آخر (للوهابية) حركتهم محدودة، ووجودهم محدود، لم يعودوا كما كانوا. وعموما فقد انهوا مشروعهم بأنفسهم.
• بالمقابل أيضاً وحتى نكون منصفين لهذه الجماعة أقول نسمع الآن عن صيحات تجديد بدت داخل منظومة السلفية التقليدية في أرض المنشأ لم نكن نتوقعها؟!

هذا صحيح، الحركة السلفية موجودة داخل اليمن، ولها حضور ونشاط يحظى باحترام وتقدير حتى من صانع القرار السياسي في البلاد، وهي اليوم تجدد نفسها، بمعنى تجدد في كثير من أفكارها واجتهاداتها، وهذه العملية عملية التجديد والمراجعة مرتبطة بطبيعة التغيرات في المنطقة، وهي دليل على الحيوية، ولا أستبعد بعد أيام أن تصدر فتوى من علماء في السعودية تجيز للمرأة قيادة السيارة هناك أو أن تسافر بلا محرم ما دام لا تخاف على نفسها مخاطر السفر، وربما تصدر فتوى هناك تبرر قرار سياسي صدر بتولي امرأة وزارة، مثلاً... وهذا بسبب التغيرات السياسية وله أيضاً ارتباطه بمصلحة المجتمع؛ لأن هذه مسألة اجتهادية وليس في ذلك عيب أبدا. الأخطر عندما نعتبر آراءنا ديناً !! هذه مسائل اجتهادية وأتمنى على إخواننا في اليمن أن يستفيدوا من هذا التغيير في المملكة.

{>.. ربطت التغير الفكري بالتغير السياسي، وهو ربط قد يبدو مناقضاً للحقيقة، الأصل أن السياسة تتبع الفكر والثقافة كجزء منها، أم أن هذه القاعدة استثنائية في الوطن العربي؟!!
ليست بالمطلق. عادة السياسة عندنا في هذه المنطقة المعجونة بالقهر والقمع هي صانعة التحولات..
عكس العالم كله؟!!
المجتمعات التي تسير وفق مؤسسات مدنية وأهلية راقية طبيعة معظم التحولات فيها تصنعها الأفكار والثقافات؛ لكن في الوطن العربي، لا يزال الأمر معكوساً ! لا يزال الحاكم والسياسي في الوطن العربي هو الذي يصنع التحولات وليس المثقف. وربما بدأ التوجه عالمياً.. بمعنى ألم تفرض أحداث سبتمبر 2001م متغيرات كثيرة في العالم وليس في الوطن العربي فحسب؟ لا زالت الثقافة تبعاً للسياسة للأسف.

{>.. نسمع عن (أسلمة) كثير من المرافق الخدمية التي أصبحت أضحوكة عند البعض كالمستشفى الإسلامي.. البنك الإسلامي.. المدرسة الإسلامية.. حتى اسم “مغسلة الإيمان” ما هذه الإضافات العجيبة؟!!!
هذه الظاهرة جاءت في سياق مرحلة تاريخية معينة. مثلاً أنا كنت في عمان بالأردن عام 1986وتم حينها افتتاح المستشفى الإسلامي هناك، وأذكر أنني كتبت عنها تحقيقا صحفياً لجريدة الصحوة.. بكلمة هذه الظاهرة التي أشرت إليها جاءت كحاجة لإثبات الهوية ولها ما يبررها آنذاك..

{>.. واليوم؟
لا أرى لها مبرراً..

{>.. ما حاجة الفترة آنذاك؟
أنا عايشت هذه المرحلة، كان مجرد ذكر كلمة (إسلامي) موضع خجل عند كثير من الشباب. ثمة تيار إقصائي ساد وسيطر على مفاصل السلطات الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي إبان تلك الفترة، أراد هذا التيار أن يقصي الدين وقيمه ومفاهيمه وحتى مصطلحاته عن التداول في الحياة تماماً، ربما لم يعان جزء من اليمن من سيطرته ونفوذه، لكن بلداناً عربية أخرى، كثيرة عانت واصطلت بنيرانه، مثلاً في أحد الأقطار القريبة من الجزء اليمني كانت كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) على (السبورة) في الفصل الدراسي أو في دفتر الطالب أشبه بالمحرم أو الممنوع، لقد عانينا من هذا التطرف الذي ساد وهيمن وحكم، ما أدى في المقابل إلى نشوء نزعة شديدة المحافظة عند الطرف الآخر، فتشبث هذا الطرف بكل شيء له علاقة بإثبات تدينه وتمسكه بدينه حتى وإن كان هذا الشيء لا علاقة له بالدين وإنما بأعراف وتقاليد ربما تكون مناقضة لمقاصد الشرع، ومن ذلك أيضاً المسميات الشكلية هذه، من باب الحفاظ على الهوية. لقد كان التدين، والتزام الشاب بواجباته الدينية كما لو أنها وصمة أولطخة سوداء، يوصف صاحبها بالرجعية والظلامية والتخلف. عايشناها وعايشها جيل أيضاً قبلنا!! ظهرت هذه التسميات كرد فعل وإثبات وجود.

{>.. طيب هل تميزت هذه المرافق عن غيرها بسمة معينة حينها عن نظيراتها الرسمية مثلاً؟
كان هناك تميز نسبي، مثلاً في المستشفى كانت ثمة خدمات نوعية بعضها مجانية تمنح للفقراء والمساكين، وهناك نسبة من الدخل أيضاً تعود لهم أيضاً... بكلمة المسألة كما ذكرت لها علاقة بإثبات الهوية. عندنا في مدينة عدن مثلاً في الستينيات تم تأسيس المركز الثقافي الاجتماعي الإسلامي الذي أسسه الأستاذ عمر طرموم رحمه الله وآخرون، جاء كمشروع تأكيد هوية في مواجهة المد الاستعماري والعلماني مع أنه أغلق بعد سنتين على تأسيسه..

{>.. اليوم هل لا زالت هناك مبررات لمثل هذه الأسماء؟
لا أرى أن ثمة مبررات لهذه الأسماء اليوم.. نحتاج اليوم إلى تحويل العناوين إلى واقع ملموس برامجي، لا شعارات.. المطلوب اليوم برامج عمل ميدانية لا شعارات أو خطب أو كتابات..

{>.. «الإسلام هو الحل» ذلك الشعار الفضفاض الذي رفعته سابقا مع مجموعة من أقرانك خلال فترتي الثمانينات وبداية التسعينات.. تراجعت عنه وانتهى حد علمي بصفعة تكفير عام 1997 هل من جديد في هذا الموضوع؟
هذا الموضوع يأتي في ذات السياق، ولا زلت أؤمن أن الإسلام باعتباره ديناً ربانياً يكمن فيه الحل لمعضلاتنا، وأزماتنا؛ لكن لا كشعار يرفع كما في المرحلة السابقة. كما رفعت التيارات السياسية والفكرية شعاراتها، رفعنا هذا الشعار نحن أبناء الحركة الإسلامية وعرفنا الآخرون من خلاله وكانت الحركة الإسلامية حينها تتغيأ هدفين اثنين من وراء ذلك: الأول: تحقيق الذاتية والهوية. والثاني تعريف الناس بمواقفها وأهدافها بوضوح.....
بعد فترة من الزمن بات تكراره خروجاً عن المألوف وعن الواقع، فلقد سادت أنوار الصحوة الإسلامية وأصبح التيار الإسلامي القوة الشعبية الأولى في معظم إن لم يكن كل الأقطار العربية، وليس من المعقول أن نظل نرفع الشعار بهدف تعريف الناس بهويتنا وعنواناً بينما الناس ينتظرون منا الرد على سؤال ماذا بعد..

{>.. أنت كتبت أولاً بشأنه، ثم انتقدت مسألة رفع الشعار اليوم..؟
نعم قلنا لا بد أن ينتقل هذا الشعار إلى واقع عملي ملموس لا داعي لرفعه في اليافطات كشعار فقط، في هذه المرحلة التاريخية التي تفرض علينا أن نتقدم إلى الأمة ببرامج إنقاذ مستلهمة روح الشعار، وقلنا إن هذا الشعار أصبح في ذمة التاريخ، بمعنى ليس واجب الوقت رفعه، بل واجب الوقت هو تحويله إلى برامج عمل في مختلف مجالات الحياة. لكن لأن الحمقى كثيرون و(الغلمة) الذين هم حدثا الأسنان سفهاء الأحلام يقولون بكلام خير البرية يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية هؤلاء اعتبروا في قولنا ذلك تعدياً على الدين وفهموا أننا نلغي الدين. وحاشا لله. اليوم هم يرفعونه لأغراض خاصة بهم. هذا الشعار كشعار تجاوزته الحركة الإسلامية في اعتقادي وتقدمت به خطوات إلى الأمام خططا وبرامج ومشاريع.

{>.. لماذا أغاظتهم هذه الفكرة وأغضبتهم؟
لأنهم عاجزون عن العمل وعن الدخول إلى معترك البرامج الذي سيحرك المياه الراكدة ويغير الكثير من القناعات والمسلمات الفكرية عند الكثير. الانتقال إلى البرامج معناه إحداث نقلة نوعية في التجديد والتفكير وهذا سيهز منظومتهم الفكرية الجامدة التي يسيرون عليها، هم لا يريدون برامج ولا يريدون تحقيق إنجاز في المجتمع بقدر ما يريدون ضجيجاً وصراخاً وفرقعات إعلامية في المجتمع ليس إلا.

{>.. وهل هذا مبرر لتكفيركم؟!!
أحدهم وهو (أحمق) بالفعل كتب مقالاً كفر فيه من قال إن شعار الإسلام هو الحل تجاوزه الزمان؛ لأنه لا يفقه شيئا... وللأسف بعض من مشايخنا وهم يعرفوننا وقفوا موقفا هزيلا تجاه تخرصات ذلك الأحمق وبدلا من أن يتصدوا له نصحا وإرشادا وزجرا، وإنكارا، باعتباره يعبر عن تيار فكري موجود في المجتمع وإن كان محدود التأثير، راحوا يطبطبون عليه ، لدرجة أني قلت لأحد مشايخ علمائنا: احذروا فأنتم تربون ثعابين في أحضانكم إذا ما كبروا سيلدغونكم، كما حصل مع العالم الشهيد محمد بوسليماني أحد علماء الجزائر الكبار الذي اغتيل عام 1994م على يد أمثال هؤلاء القوم حين رفض التوقيع على فتوى أعدوها تقضي بتكفير الحاكم فذبحوه ذبحا!!

{>.. لكن عندنا العكس هو الذي حصل.. الشيوخ هم الذين يكفرون الشباب؟
تبدأ هكذا. عندما يبدأ الشيخ تلقين تلاميذه مفاهيم فيها خفة وتهور وغير منضبطة بعلم الأصول وبعيدة عن الفقه يتعود عليها ويعتبرها سهلة ثم يتجرأ بعد ذلك على إسقاطها على خالفه!!

{>.. كيف تقرأ ومن منظور فكري وثقافي طبعا المشهد السياسي اليمني حاليا حين نسمع عن مشروع إمامي بائد ينادي بالعودة إلى الحكم من جديد، لماذا هذا الصوت بعد مرور عقود على الثورة اليمنية؟!
ربما أكون قاسيا عندما أحمل الثوار المسئولية الأولى وهم رجال نحترمهم؛ لكنهم بعدما نجحوا في إشعال فتيل الثورة المباركة، أغفلوا البعد الثقافي باعتباره ركنا بل حجر الزاوية في البناء المجتمعي، وركزوا في تعاطيهم مع مفهوم الثورة على البعد العسكري الإجرائي الشكلي، وراحوا يتعاملون مع ركام الزيف الإمامي بخفة وبسذاجة، واعتقدوا أن بمقدورهم بقليل من القرارات السياسية والعسكرية والأمنية أن يزيلوا ذلك الركام المتوارث على مدى ألف سنة. الفكرة الإمامية باعتبارها معطى سياسياً وليس مذهبياً أو فقهياً، وبتركيبتها المتخلفة ومشروعها الرجعي فكريا وثقافيا ظلت تعمل عملها بعد قيام الثورة وإلى الآن. أنت تعرف أن الإماميين ظلوا يحاربون الجمهورية سبع سنوات ثم جاءت المصالحة ولم يكن الجمهوريون على قدر عال من النباهة السياسية، ولا على مستوى رفيع من من التأسيس الثقافي والفكري ليدركوا مخاطر تلك الفكرة المتجلببة بجلباب تيار سياسي نشط في غمرة الصراع العسكري والسياسي عقب قيام الثورة، واستدرك أخطاءه، ونسج علاقاته، وجدد خطابه تماشيا مع متغيرات مرحلة قيام الثورة وتأسيس النظام الجمهوري، لقد كرس ثقافة أن الإمامة من الدين.. وأن العرق دون سواه، حقوق سياسية وعلمية لا يمتلكها الآخرون!!، كثير من مظاهر ورمزيات الثورة اختفت.. مثلا أين اختفى مارد الثورة الذي كان رمزا وشعارا في ميدان التحرير؟ لا أدري ما المبرر لإخفائه؟! أين الأناشيد الوطنية القديمة التي تشيد بمبادئ الثورة اليمنية؟؟

{>.. قال المفكر الإسلامي الكبير المعروف الدكتور عبد الكريم سروش إن رجل الدين إذا وصل إلى السلطة فإن ذلك يؤدي إلى ضرر كبير، إلى أي حد تتفق معه؟
أنا اتفق معه في سياق مفهوم رجل الدين الذي أفهمه؛ وأضيف: إنه إذا وصل (رجل الدين) إلى السلطة وقد حول الدين إلى مجرد كهنوت فإنه سيفسد السلطة. كل مسلم هو في الأصل صاحب دين وليس رجل دين، هو أخضعها للتجربة التاريخية المتعلقة بكهنوت الكنيسة.

{>.. كان كلامه في سياق رجل الدين الإسلامي وربما قصد الفقيه تقريبا..؟
لا أتفق معه بوجود رجال دين في الإسلام، هذا أولا... أما ثانيا فللأسف يوجد اليوم رجال يريدون أن يجعلوا من أنفسهم رجال دين!!، ويعملون في إطارات مختلفة، يحلم كل واحد منهم أنه إذا وصل إلى السلطة وفرض قراراته وسياساته على الأمة فرضا.. مدعياً أن ذلك من الدين وفي حال تحقق هذا الحلم ستتضاعف الكارثة وتتعاظم، فمثل هذا التوجه الثيوقراطي يرى في نفسه ظل الله في أرضه، وينظر إلى كل معارض لسياساته بأنه يعارض الدين وأحكام الله،!!! إن الدولة في الإسلام هي مدنية لا دينية كما هو في المسيحية واليهودية، والحزب السياسي هو أصلا حزب مدني لا ديني بالمفهوم الكهنوتي. ليس في الإسلام كهنوتية أو ثيوقراطية. (رجل الدين) بهذا المفهوم في مجتمعنا نعم إذا وصل إلى السلطة سيفسد السلطة وستفسده السلطة، أما السياسي المؤمن بالمرجعية الإسلامية سيصلح أوضاع السلطة والمجتمع على السواء..

{>.. نظرتك للواقع الثقافي الراهن والمعول عليه اجتثاث الأزمة؟
المشهد الثقافي الرسمي والحزبي لا يترك أي أثر أو فعل حضاري في الواقع العام. للأسف البعض ينظر إلى الثقافة كأنها ترف زائد أو فائض قيمة عن حاجة الناس والمجتمع، مما يترك ندوباً غائرة في جسد المجتمع!!
إن الثقافة تكاد تكون سراً من الأسرار في كل أمة من الأمم، وفي كل جيل من البشر، وهي في أصلها معارف كثيرة لا تحصى، متنوعة أبلغ التنوع، لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كل مجتمع إنساني للإيمان بها أولا عن طريق العقل والقلب، ثم للعمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان، ثم للانتماء إليها بعقله وقلبه وخياله انتماء يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار، وتحوطه ويحوطها حتى لا يفضي إلى مفاوز الضياع والهلاك.

وما نعانيه اليوم من تخلف يضرب بأطنابه كل الصعد، وغيلان بالعبثية والعدمية والضياع واللاإنتماء تأخذ بخناق إنسان العصر، تكاد تخنق أنفاس، روحه، وتجهض أشواق روحه من أهم أسبابه غياب الثقافة بكل ألوانها، وكمون تأثيرها في حركة الإنسان والدولة.. ألحظ غيابا، بل فراغا ممتدا في المشهد الثقافي.. اليمين واليسار والوسط على حد سواء.. كان الرواد الأوائل من الساسة هم رجالات فكر وثقافة وصناع كلمة تسحر الألباب وتجبها إلى أتون الصراع السياسي، كانت الكلمة الجزلة والعبارة المسبوكة والقصيدة المجنحة، والقصة والمسرح والخاطرة تجمعهم، لكن سرعان تلاشى ذلك، في مرحلة (تسليع) الأفكار والقيم، فإذا بالأجيال تدخل متاهة فكرية، وغيبوبة ثقافية وسط محاصرتها بكوابيس السياسة بإيقاعها السريع واللحظي.. ياصديقي أشعر أني أعيش في مجتمع متصحر ثقافيا، يبعث في نفسي الرعب، وأشعر أن ثمة تواطؤا مخيفا بين رجال المال والجنرالات والساسة وبعض أدعياء الدين لضمان ديمومة هذا اليباب الذي يتربع في العقول والأرواح، ثمة فعل عن سبق إصرار على جعل الثقافة مجرد تابع هزيل يبرر كل خطايا وجرائم الساسة والجنرالات وأدعياء الدين، ويوفر الغطاء لتمرير سياسات القهر والجوع والاستلاب والارتهان لمفاهيم الاتكالية والخنوع والرضاء بالواقع البائس. أضحت الثقافة تلحق إلحاقا في أدبيات الأحزاب السياسية.

{>.. المشهد الثقافي العربي أيضا؟
لا يبتعد كثيرا. الملاحظ ثمة وجود فراغ هائل للثقافة القادرة على الإبداع والتغيير، وملأته ثقافة وافدة مدمرة لقيمنا وفكرنا، وتصنع استلابا وارتهانا في التعاطي مع التحديات الناشئة في المجتمع الوطني، ولا تستجيب للتحديات التي تواجهها، وهنا أود التأكيد أني لا أرفض بالمطلق الثقافة الوافدة، لكني أتحدث عن (ثقافة وافدة مدمرة) وهي الحاضرة فعلا وبقوة المشاريع الامبريالية العالمية التي تتسابق في المنطقة لبسط هيمنتها على عقل ووجدان الإنسان العربي، ولها مشاريعها المتعددة ومنها الثقافية الرامية كلها لتحقيق الهيمنة والإخضاع والتبعية، ومما يضاعف من مخاطرها أنها باتت تعمل في واقع ثقافي عربي إسلامي هش كما نراه اليوم بصورته الراهنة.
{>.. الحل من وجهة نظرك لتجاوز هذه الأزمة.. بآلياتها الناجعة؟

هذا سؤال يذكرني بشخص ذهب باحثا عن علاج لأوجاعه وآلامه التي تلازمه منذ زمان إلى آخر لا معرفة له بالطب، ولم يسبق له أن تجرأ ووصف علاجا!!، أعتقد أن العاصم يأتي من الثقافة، وبتعبير أستاذنا الكبير محمود شاكر رحمه الله “فهي تذوب في بنيان الإنسان، وتجري منه مجرى الدم، لا من حيث هي معارف متنوعة تدرك بالعقل وحسب، بل هي من حيث هي معارف يؤمن بصحتها من طريق العقل والقلب، ومن حيث هي معارف مطلوبة للعمل بها، والالتزام بما يوجبه ذاك الإيمان، ثم من حيث هي انتماء ينبغي أن يدرك معه تمام الإدراك أنه لو فرط معه لأداه تفريطه إلى الضياع والهلاك، ضياعه هو، وضياع ما ينتمي إليه. ورأس كل ثقافة هو الدين بمعناه العام، والذي هو فطرة الإنسان، أي دين كان، أو ما كان في معنى الدين، وبقدر شمول هذا الدين لجميع ما يكبح جموح النفس الإنسانية ويحجزها عن أن تزيح عن الفطرة السوية العادلة، وبقدر تغلغله إلى أغوار النفس تغلغلا يجعل صاحبها قادرا على ضبط الأهواء الجائرة، ومريدا لهذا الضبط بقدر هذا الشمول وهذا التغلغل في بنيان الإنسان، تكون قوة العواصم التي تعصم صاحبها من كل عيب قادح في مسيرته الخاصة والعامة”.
لم يعد من الممكن أن يبقى المثقف والمفكر والباحث محايدا وبمعزل عن قضايا أمته، بل هو مطالب أن يضع عدته وأدواته المعرفية في خدمتها، وأن ينحاز إلى جانب قيم الحق والعدل والإنصاف، والحرية وكل القيم النبيلة. وإن إرادة القوة الطاغية التي تسحق إنسان العصر هي نتاج تزاوج بين السلطة والمعرفة، فلنجعل المعرفة رديف المقاومة، فالمعركة لن تكتسب إلا بعد تحرر الثقافة وإشاعة ثقافة التحرر.

{>.. خطر العولمة..؟
العولمة بقدر ما تحمل من مخاطر، تعد بإمكانات تسمح لنا، إن أحسنا إدارتها، بالدخول على العالم وترسيخ حضورنا فيه، ومهمة المثقف والمفكر في هذا الإطار مهمة مزدوجة: من جهة يتوجب عليه العمل على إعادة بناء إشكالاته بربطها بالشأن الإنساني، وإبراز مهددات ومخاطر القيم الإمبريالية لا على عالم العرب والمسلمين فقط بقدر ما تطال الإنسان مطلق الإنسان، من هنا تنشأ الحاجة للبحث والتفكير في إيجاد وتوسيع دائرة الجبهة الثقافية انفتاحا على التيارات الفكرية المناهضة للقيم الامبريالية، هذا من جانب، ومن جانب آخر يتطلب على المثقف والمفكر الالتفات إلى المخاطر المحدقة بالإنسانية الفاقدة لمعالم الاستدلال في عالم يشكو من غياب المعنى واحتضار نظام القيم. في إطار هذه التحديات يتوجب على المفكرين والمثقفين لتصحيح وجهة الحضارة بلجم إرادة التدمير ونفخ روح العمران، كما أن عملية تثقيف العالم لتصحيح وجهة المسلسل الجديد للتحولات العالمية وسيلة إلى تحقيق التثقيف الداخلي.

{>.. لا نكاد نجد دوراً ملموساً على الصعيد العملي للعلماء في البلاد، لهم جمعية أصبحت مهمتها إصدار البيانات السياسية بين الحين والحين فقط، انشغلوا بالتجارة وشئونهم الخاصة وتركوا مهمتهم الرئيسية في التنوير؟
قبل الجواب عن سؤالك، ثمة إشكالية تثيرها كلمة التنوير على الصعيد المعرفي الإسلامي، فستجد بعض المنتمين إلى المربع الإسلامي من ينظر شزرا لكل من يدعو إلى التنوير اعتمادا على ما يعتقدونه أن التنوير مفهوم ملغم، يحمل في طياته أفخاخ خطيرة للخطاب الإسلامي، وبالتالي فهؤلاء يرفضون من حيث المبدأ مفهوم التنوير فضلا عن أن يقبلوا أن يقوم علماء الدين بالتنوير!!، ويعتبرون أن ثمة حركتين جاءتا لتصحيح مسار تاريخي في واقعنا العربي، الحركة التصحيحية الأولى هي حركة التنوير أي حركة الإصلاح على النسق الغربي المستفاد من أوربا، والحركة التصحيحية الأخرى هي الحركة الإسلامية، أي حركة العودة إلى الإسلام وعلى كل حال فإن هذا الطرح لديه من الحجج ما يعزز تصنيفه وما ذهب إليه من نتائج, وثمة طرح آخر أنا ربما أميل إليه يرى أن التنوير مصطلح مفارق لا علاقة له بحركات التصحيح المشار إليها، فالتنوير لغةً، هو الإخراج من الظلمة إلى النور، ومعلوم أن الجهل ظلمة والمعرفة نور، فيكون التنوير المقوِّم للعمل وللحركة والفكر، توعيةً تُخرج الإنسانَ من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة. ومعلوم أن “الإسلام يجعل من كل فعل، كائناً ما كان، خُلُقاً صريحاً يُحمَد أو يُذَم، يَحسُن أو يَقبُح. فإذن الفعل المعرفي، يُعدُّ فعلاً خلقياً في الممارسة الإسلامية”.

وإذا كان (التنوير الإسلامي)هو تنويرٌ بالإسلام، والنظر بعقل مؤمن في المنابع الجوهرية والنقية للإسلام، لفقه أحكامه، والاجتهاد في إيجاد الإجابات عن الأسئلة المعاصرة والأحكام المناسبة للنوازل والوقائع المتجدّدة، فإن ذلك هو جوهر مهمة ووظيفة علماء الدين، لذلك فإنهم مطالبون دائما بتذكير أنفسهم والآخرين أن التعلّق بالمخلوق عبوديةٌ، والتعلّق بالخالق حرية، فيكون التحرير المقوّم للعمل وللحركة وللفكر، تعبئةً تُخرج الإنسان من العبودية للمخلوق إلى الحرية في الخالق، وبالتالي فإن خطورة قناعة عالم الدين والفقيه بالواقع والرضا به على ما فيه من سيادة المنكر الحضاري، وتواري المعروف الحضاري، وقبوله القيام بدور التابع للسلطان والسياسي تبريرا لأخطائه وخطاياه، وتغطية لمظالمه وجرائمه، ونكوصا عن القيام بدور رجل قام فأمر ونهى فقتل، وتراجعا عن مهمة الدفاع عن المستضعفين والمقهورين، والتهرب عن تبني هموم ومعاناة الجياع والفقراء، إن خطورة اختزال دور العالم في إصدار البيانات المؤيدة والمرحبة بسياسات وقرارات الحاكم، دون أن يكون سلطة موازية، وقوة معادلة ترشد مسار الحكومات والسلطات باعتبارها معبرة عن نبض المجتمع، ومجسدة لهمومه، وأحلامه إن خطورة كل ذلك يفضي إلى انهيار البناء الهرمي القائم على ضلع الحاكم (الدولة ومؤسساتها الثلاث)، وضلع المثقف والمفكر وعالم الدين (الفقيه)، والضلع القاعدي (الأمة).

{>.. دور المسجد كمؤسسة.؟
مشكلة كثير من الناس بما فيهم كثير من الساسة والمثقفين أنهم ينظرون إلى المسجد باعتباره مكان أو مبنى جميل وأنيق تؤدى فيه الصلوات الخمس وصلاة الجمعة والأعياد. هؤلاء يتكئون إلى نظرة اختزالية لدور المسجد فهو لإقامة الصلاة و إلقاء خطب الجمعة و الأعياد وإلقاء بعض الدروس عن السيرة المحمدية في المناسبات والذكريات المختلفة، وثمة جهة في بلداننا العربية ساهمت للأسف في تكريس هذه النظرة الاختزالية، بل في بعض الأقطار سعت تلك الجهات المشرفة على المساجد إلى إلحاق المساجد بها، وتحويلها إلى إدارات تابعة لتلك الجهة، فلا المسجد تحول إلى إدارة ولا الإدارة جعلته مركزا للإشعاع المعرفي. نرى اليوم بنايات تتكاثر وفي كل حي هناك أكثر من مسجد جديد (والحمد لله)، تغيرت أشكالها الهندسية وأصبحنا نتنابز بأجمل الجوامع و أطول الصوامع بكبر المساحة و بأحدث التجهيزات الصوتية والمكيفات الهوائية، لكنها وياللأسف مساجد في مجملها فارغة على عروشها تعجز عن جمع أكثر من صفين من المرتادين الدائمين عند كل صلاة عدا أيام الأعياد وفي رمضان مع أفواج المصلين المتعاقدين مع الشهر الفضيل!!.

ياسيدي في الزمن الماضي “كان مسجد (قبا) المبني بجذع الأشجار وجريد النخيل مهد نشأة الدولة الإسلامية. من مجالسه تخرج رواد الحديث والفقهاء و من على منبره قاد الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم- الأمة وآخى بين المهاجرين والأنصار، و منه انطلقت الفتوحات الإسلامية وبداخله عولجت شؤون الرعية.
إن وزارة الأوقاف والإرشاد في بلداننا مطالبة إلى إعادة النظر في طريقة تعاملها مع المساجد باعتبارها مؤسسات علمية ودعوية وتربوية واجتماعية وسياسية جامعة، تقوم بدور تكامل مع بقية مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى في المجتمع، لتعزيز قيم الهوية الانتماء، وتجذير مفاهيم الوحدة، والحق والقوة والحرية..

زر الذهاب إلى الأعلى