arpo28

حضرموت: أرض كِندة الأولى

كان لا بدّ لي من أن أزور حضرموت لأُعاين عن كثب الخطوات المتسارعة، على طريق استخراج النفط من وادي المسيلة. ذهبت إلى هناك وفي ذهني الوصف الأخّاذ الذي استخدمته الرحالة الانجليزية فريا ستارك، لهذه البلاد حين زارتها للمرّة الثانية سنة 1937، ولكن هذه المرّة كانت الرحلة بالسيارة وليس على ظهر الحمار.

وقد قالت في كتابها الثالث عن حضرموت، "مشاهد من حضرموت"، الذي زيّنته بصور آسرة: "أعتقد أن تلك البلاد خرجت نهائياً من عداد البلاد المجهولة... وهي تذكّرنا بعالم شديد التجانس، وموغل في القدم، وكثير العزلة وجميل جداً".

سرتُ في تلك الرحلة على طريق عالم الآثار الفرنسي ريمي أودوان، على المنحدر الشرقي في وادي حضرموت، سائحاً في قرى العصور القديمة التي زارها الرحالة.

وقد كان يشدني هاجس البحث عن أرض قبيلة كِندة و"دمون" و"عندل" امرؤ القيس، و"ريدة" و"صيعر" طرفة بن العبد. لقد زاد في التشويق أن هناك شائعات كانت تدور حول اكتشافات أثرية تعود إلى ما قبل الميلاد في هذه المنطقة، وإلى ما قبل الاسلام، وذلك انطلاقاً من النتائج التي حققتها استكشافات البعثة الأثرية الفرنسية في وادي حضرموت في نهاية السبعينيات. وشجعني البعض للقيام بهذه الزيارة، لأني سأزور أرض "عاد وثمود" و"إرم ذات العماد".

توجّهنا، في البداية، إلى وادي حضرموت، الذي يمتد من رملة السبعتين غرباً إلى وادي المسيلة شرقاً. ويعدّ هذا الوادي من مواطن الحضارة القديمة، حيث يعود تاريخ الاكتشافات الأثرية، التي وضعها أودوان، إلى الألف الرابع قبل الميلاد. هناك وقفنا على سرّ كبير يتعلّق بالعبادات السريّة في الألف الأول قبل الميلاد في منطقة "ريبون" (حريضة). ويرى الفريق الأثري أن المعابد قد تكون هُجرت في هذه الفترة، وصار الناس، بسبب الاحتلال "السبئي"، يقيمون شعائرهم في مستوى أدنى من الواجهة الرئيسة.

وظلوا يكتبون في المعابد للإله"سين" (القمر) حامي حضرموت. وهو ليس الإله الوحيد بل هناك آلهة أخرى: ذو حميم (الشمس)، عشتر (الزهرة)، هول، أمقة، إلخ... لكن هياكل العبادة الخارجية كانت مخصصة حصراً للإله "سين"، الأمر الذي يُفهم منه وجود آلهة خارجية وأخرى داخلية في ذلك الزمن، وأن الاحتلال كان يمنع حتى العبادات.

عند الخروج من منطقة "العَبَر"، وقعنا على شخص من آل باراس من المشايخ، من آل معن، من العوالق العليا، الذين يتحدّرون من قبيلة كندة (قبيلة الشاعر امرؤ القيس)، وقادنا في رحلة في محيط المنطقة حيث تعرفت على وادي حجر، ووادي دوعن.

شربنا الشاي لدى أسرة من آل بازرعة في الوادي، وهم أيضاً يتحدرون من كندة. واللافت في الامر أن كل الأسر الكبيرة والمعروفة في هذه المنطقة تنتمي إلى كندة (آل باعباد، باراس، بازرعة، بنوسعيد، بارباع، ذهل، باحسان، باشرف، آل باعبدالله).

بعد ذلك، انتقلنا إلى شمال غرب حضرموت نحو حدود الربع الخالي، حيث تعيش قبائل "الصيعر"، وكان دليلنا شباب لا يتجاوز الـ15 سنة من بيت "عفارة"، كان في غاية الذكاء، يمتلك فراسة مذهلة، كانت عيناه تلمعان في الليل وهو يقودنا في سيارة اللاندروفر بين القرى.

حدّثته عن الرحالة الانجليزي ولفريد ثيسغر وعن كتابه: "الرمال العربية"، الذي وصف فيه "الصيعر" وصفاً أخّاذاً، فوجدت هذا الفتى يعيد على مسامعي ما قاله ثيسغر: "وقبيلة الصيعر هذه تُعرَف بذئاب الصحراء، وهي قبيلة كبيرة وقوية، وكانت قبائل جنوب الجزيرة كلها تخافها، وتخشى بأسها لأنها تنهبها بلا شفقة، وتسطو عليها ". وراح الفتى يحدثنا عن الإبل الصيعرية التي تتّصف بالجودة. تعمّد ذلك الشاب، قبل أن نستقل طائرة الهيلوكوبتر، أن نمر على الشحر، وحدثنا عن كونها أرض قبائل "الحموم" وهم من حِمْيَر التي تُعدّ، هي وكندة، أكبر قبيلتين في حضرموت.

كان لا بدّ من أن نمرّ على حصون حضرموت، كحصن العر أو العل، إلى الشرق من مدينة تريم، وحصن الرناد والعز وغيرهما، هذا بالإضافة إلى "ناطحات السحاب" في شبام المبنية من اللبن، والتي تقع في منتصف الطريق بين القطن وسيئون. لقد كاد ينطلي الأمر عليّ حين شاهدت من بعيد مثل متاهات عدة كتلاً جبارة من جدران طينية صفراء تشمخ عالية، فظننت أنها أرض عاد وثمود التي صبّ الله عليها لعنته، وصرت أخشى أن تضربنا صاعقة إذا واصلنا السير إلى هذه الأرض الملعونة التي تسكنها الشياطين.

كنت أتخيّلها ميتة جرداء محروقة ما تزال تحتفظ ببقايا النار في جنباتها كما صورها خيال بازوليني في أكثر من مشهد، لكن الصورة أخذت تختلف حين بدأنا نسير على طريق إسفلتي تحفّ به بعض أشجار الدفلى التي تخفّف من وحشة المكان. كانت مدينة شبام، التي أطلق عليها بعض السياح الأجانب "مانهاتن الصحراء"، والتي تُنسب إلى شبام بن الحارث الحميري من حضرموت، ولم تكن أرض عاد وثمود.

لم أتجوّل كثيراً في حضرموت، لكني عدتُ وفي رأسي فكرة واحدة وهي أن الجغرافيا يمكنها أن تأسر التاريخ، وأن تعيده إلى الوراء. إن لتلك الكتلة الصلبة جاذبية لا تقاوم، وتأثير نهر يحفر في التربة منذ الأزل، وهذا الذي يفسّر سر انتشار الحضارمة في جغرافيات أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى