(1)
يعتمد الخطاب السياسي والإعلامي للقيادات العسكرية والسياسية السابقة التي تنادي بالانفصال، على مجموعة من العبارات الجاهزة والاتهامات التي سبق أن أثارتها أثناء الأزمة السياسية والحرب عام 93- 1994م، وتعمل على تزييف حقيقة الأزمة التي عانت منها اليمن منذ عام 1990م وما نزال نعاني منها حتى الآن.. وتحويلها من أزمة سببها احتكار السلطة والفساد ورفض إقامة حياة دستورية سليمة إلى أزمة مناطقية أو جهوية بين الشمال والجنوب!
وللأسف الشديد، فإن الذين يخوضون فتنة الترويج لهذه الفتنة ليسوا فقط تلك القيادات التي تجاهر بالإنفصال كحل للأزمة.. ولكن هناك –أيضاً- آخرون يسهمون في إثارة النعرات والأحقاد بين اليمنيين بحسن نية أو بسوء نية.. وفي الحالتين فإنهم يسهمون في إشعال نيران سوف تأكل الجميع، ويتساوون بفعلهم هذا مع همجية السلطة وصمّها آذانها عن الإستماع للمطالب الداعية لإصلاح الأخطاء والإختلالات.
وكما تناولنا بالنقد في العدد الماضي أخطر السموم التي تفرزها سلطة الفساد واحتكار السلطة.. فإنه من الضروري –أيضاً- أن نتناول بالنقد حمَلة الشعارات والاتهامات التي يرددها البعض في أتون الأزمة لتبرير مواقفه أو إدانة للطرف الآخر!
(2)
لن نكرر الحديث عن أن الاختلالات السياسية والاتفاقات السرية وراء الكواليس لتقاسم السلطة بعد الوحدة، هي السبب الأكبر للأزمة التي يعاني منها الوطن والشعب.. ولكن يهمنا مناقشة بعض الأطروحات الشاذة وغير الصحيحة التي يتمترس وراءها الداعون للإنفصال –وآخرهم علي سالم البيض في خطابه الأخير- ويريدون منها أن يبرروا دعوتهم لإعادة تشطير البلاد والعباد.
وبداية، فإن قناعتي أن الحراك الشعبي في المحافظات الجنوبية بدأ مستندا على أوجاع المواطنين ومعاناتهم من تدهور الأحوال المعيشية لكنه، وكما ظهر في الفعاليات الأولى عام 2007م –كان يهدف لإعادة طرح المطالب التي أثيرت بعد انتخابات 1993، وهي إعادة بناء الشراكة التي كانت قائمة بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي –تحت ستار الشراكة بين الجنوب والشمال- على أسس تضمن وجود الحزب الاشتراكي في السلطة بصرف النظر عن معايير الديمقراطية أو عن مبدأ الأغلبية والأقلية التي هي أساس الممارسة الديمقراطية.
هذا هو منطلق القيادات العسكرية والسياسية القديمة التي تنادي الآن بالانفصال.. وأما الحديث عن معاناة الناس أو نهب الأراضي والهوية والثقافة الجنوبية(!) الخاصة، بل والحديث عن (عدم يمنية المحافظات الجنوبية والشرقية) إلى آخر معزوفة جماعة الانفصاليين الجدد.. فهي ستار فقط وحجة يستثيرون بها عواطف ومشاعر المواطنين وبعض السياسيين (من بتوع ربنا) من جميع الأحزاب الذين انساقوا وراء تلك الدعاوى، وصاروا يسهمون في إثارة نيران فتنة عمياء تجتذبهم إليها أضواء الكاميرات والقنوات الفضائية وصفحات الجرائد المرصعة بصورهم!
سوف نؤجل بسط الكلام حول الهدف الحقيقي للقيادات السياسية والعسكرية القديمة إلى الأسبوع القادم بإذن الله تعالى، حتى نبدأ الحديث عن سموم الانفصال بالإشارة إلى بعض الغرائب التي طفحت في أجواء الفتنة وتبدو غير منطقية إطلاقا ليس فقط في شذوذ بعضها فكريا وسياسيا، ولكن في عدوانيتها وبجاحتها!
قارنوا –مثلاً- الموقف المهادن المتفهم(!) من الدعوة إلى الانفصال وفك وحدة الجنوب عن الشمال بالموقف الغاضب من الدعوة إلى تفكيك الحزب الاشتراكي اليمني إلى حزب جنوبي وحزب شمالي! في الحالة الأولى هز كثيرون أكتافهم وقلبوا شفاههم توهينا من الأمر وبرروه بأنه ناتج عن الظلم، وقتل الوحدة، واستبعاد (الجنوب) من المشاركة.. وصولا إلى القول بأن الوحدة أو الانفصال خيار سياسي مشروع، ومن حق الناس أن يطالبوا بالانفصال! أما عندما ظهرت دعوة –رغم قلة من تبناها- إلى تقسيم الحزب الاشتراكي اليمني فقد (قرحت) الدعوة في الرؤوس.. وهوجمت.. وانتقدت، واتهمت السلطة بأنها وراء الدعوة.. ودعا قياديون اشتراكيون أعضاء حزبهم رسميا إلى التصدي لها وإفشالها!
وسبحان الله! المطالبة بالانفصال خيار سياسي مشروع.. فلماذا –إذن- لا تكون الدعوة إلى تقسيم الحزب الاشتراكي مشروعة؟ ولماذا نال الداعون لها كل تلك الكلمات الجارحة رغم أن الدعوة ظلت محدودة، وحتى لم تطرح رسميا في الهيئات القيادية للحزب الاشتراكي؟
سيقولون: الظلم، والنهب، والإقصاء يبرر الدعوة إلى الانفصال أو على الأقل تفهم نفسية الداعين إليه ولأن الله لا يحب الجهر بالسوء إلا ممن تعرض للظلم.. لكن ألا توجد داخل الحزب الاشتراكي تمترسات جهوية ومناطقية حتى من قبل الوحدة؟ ألم تقطع صور قيادات اشتراكية لأنها –فقط- ليست من المحافظات الجنوبية؟ لماذا نفرض على أمثال (الخبجي) و(باعوم) وأمثالهما الذين يتحدثون عن هوية وثقافة جنوبية خاصة أن يكونوا في حزب واحد مع الزملاء (علي الصراري) و(محمد المقالح) وحتى (عبدالواحد المرادي) و(عبدالباري طاهر) وأمثالهم من أبناء المحافظات الشمالية والغربية؟ ألم يتهم الاشتراكيون (الشماليون) بأنهم قدموا مصلحة (شطرهم) على مصلحة (الجنوب) من قبل قيادات بارزة في تيار إصلاح مسار الوحدة وحتى الحراك الجديد؟
(3)
من الغريب أن موجة النعرات المناطقية التي أشعلتها القيادات العسكرية والسياسية القديمة ضد (الشماليين المحتلين) لم يسلم منها حتى المؤيدين –بحسن نية وسوء نية- لها في المحافظات الشمالية.. وأعلم متيقنا أن حركة التعبئة الحاقدة هذه تنال أول ما تنال بأوساخها ونتنها أبناء محافظة تعز.. و(تعز) هي المنطقة التي ينتمي لأصولها أكثر من نصف سكان محافظة عدن.. ونهضة (عدن) في زمن الاستعمار البريطاني قامت في جزء كبير منها على أكتاف اليمنيين الذين تعود أصولهم إلى (تعز) والمناطق الوسطى أو نزحوا منها منذ الأربعينيات في القرن الماضي! وأكثر من ذلك فإن السياسيين والصحفيين والمثقفين وعامة الناس –من غير المنتمين للمؤتمر الشعبي العام ظاهريا على الأقل- من أبناء (تعز) هم من أشد الناس تأييداً للحراك الجنوبي (وأيضاً بحسن نية أو بسوء نية)! ومع كل ذلك فإن موجة العداء والكراهية تنال منهم تحديداً بصورة خسيسة لم تحدث حتى في أيام الصراع المناطقي داخل السلطة في (الجنوب) قبل الوحدة.. وكل النكت القبيحة التي راجت ضد (الدحابشة الشماليين) تستخدم اللهجة التعزية للتعريف والتعريض بهم!
أليس هذا دليلا على أن الفتنة ملعونة لا يسلم منها الأبرياء ولا الأصدقاء؟ وأن الجميع سيدفع ثمنها وليس الظالمون فقط؟
(4)
هناك ملاحظة مهمة خاصة بردود الفعل المتجاهل والصامت إلى حد كبير جداً تجاه مزاعم الشيخ/ طارق الفضلي حول ملكية عائلته لأراضي شاسعة في ثلاث محافظات حتى أوصل الأمر إلى منطقة جبل حديد في قلب عدن.. زاعما أن لديه وثائق ملكية! ولاحظوا أولاً –أنه جعل من ضمن ملكية العائلة أراضي مثل منطقة (خور مكسر) التي كانت في معظمها جزءاً من البحر تابعة لسلطنة العبادلة، وكانت الحد الفاصل بين عدن والسلطنة ثم قامت السلطات البريطانية (الاستعمارية) بتوسيعها بعد أن كانت مجرد برزخ ضيق بكبسها بالتراب وأقامت عليها منشآت ضخمة مثل المطار والمعسكرات.. أي يستحيل أن يكون لدى العائلة الفضلية بصيرة بملكية تلك المنطقة، إلا إذا كان البحر نفسه ملكا لهم.. ثم أنه من المعروف أن البريطانيين اشتروا ضاحية (الشيخ عثمان) من سلاطين لحج العبادلة في عام 1882م، وبعشرين ألف ريال، وضموها إلى مستعمرة عدن حتى تستوعب العمال الذين رفض الإنجليز أن يسكنوا في منطقتي المعلا والتواهي حيث كانوا يعملون فيها! وفي كل الأحوال فإن (عدن) التي احتلها البريطانيون كانت تابعة للسلطنة العبدلية.. فمن أين جاء الإدعاء بأن جزءا مهما منها مملوكا لآل الفضلي؟
لايهمني ادعاء (طارق الفضلي) لكن آلمني سكوت مؤيدي الحراك –بحسن نية أو بسوئها- عن ذلك وهم الذين يثيرون الدنيا حول (نهب أراضي الجنوب) ويعدونها مبررا مشروعا للعودة للانفصال!
وفي هذا السياق يمكن ملاحظة ردود الأفعال الخجولة –كانت معدومة في البداية- على زعم (حسن باعوم) أن المحافظات الجنوبية والشرقية ليست يمنية ولا علاقة لها باليمن تاريخيا وحتى اسما!!
هل رأيتم إلى أين يمكن أن يسير بنا العناد.. والغباء.. والغرور.. والأطماع؟
(5)
في نهاية التسعينات، ثارت معارضة شرسة ضد فكرة تحويل (حضرموت) إلى محافظتين.. ووصفت الفكرة بأنها مؤامرة ضد الوحدة التاريخية لحضرموت.. الخ.. وكل الذين هاجموا الفكرة هم –للغرابة- من دعاه الانفصال أو الفيدرالية أو الكونفدرالية.. والكانتونات والحكم المحلي كامل الصلاحيات!
فلاحظوا كيف أنهم يرفضون منح سكان حضرموت الوادي والصحراء حق إدارة شؤون مناطقهم ويصرون على ضرورة ربطهم بالعاصمة المكلا.. ولا يرون في ذلك مركزية شديدة ولا إجحافا بالمواطنين المربوطين بسلطة محلية تبعد مئات الكيلومترات عنهم (في حينها سألت بعض أبناء حضرموت الداخل أو الوادي عن الفكرة فأيدوها لأنها من مصلحة المواطنين لكن الإرهاب الفكري الذي مارسه أصحاب شعار (حضرموت التاريخية) جعلهم يصمتون خوفا من اتهامهم بالعمالة للسلطة في صنعاء)!
وحتى الوحدة التاريخية لحضرموت ليست صوابا بالمطلق فحتى عشية رحيل المستعمر البريطاني عام 1967، كانت حضرموت تحكمها دولتان: القعيطية في الساحل والكثيرية في الوادي.. وكان تاريخهما المشترك مليئا بالصراعات والخلافات على السلطة والتنافس بين الأمراء والسلاطين.. تماما كما كان الحال في المشيخات والسلطنات والإمارات الجنوبية (قرابة 22 إطاراً سياسيا).. وعندما تم توحيدها في دولة اليمن الجنوبية تم ذلك بالعنف الثوري والقوة وليس عبر استفتاء لتقرير المصير! وفي هذا الإطار لماذا لا يطالب الداعون إلى الانفصال بعودة الكيانات الاثنين والعشرين التي كانت قائمة أيام الاستعمار؟ لماذا يصرون فقط على عودة الدولة الجنوبية قبل الوحدة؟ فطالما أن البعض في ردفان والشعيب والضالع ويافع لا يقبلون الوحدة مع جيرانهم في البيضاء وقعطبة ورداع وهم الأقرب إليهم: ثقافة وعادات وجغرافية.. فلماذا يستكثرون على المواطنين البعيدين عنهم في المهرة وحضرموت وعدن وسقطرى أن تكون لهم دولة خاصة بكل منطقة؟
أليس هذا هو منطق الانفصال فك الارتباط والهوية الخاصة؟
(6)
نختم مقال هذا الأسبوع بإشارة إلى مثال أخير عن تزييف وعي الشعب وإثارة الأحقاد المناطقية بين أبنائه بالأكاذيب.. والمثال ورد في خطاب (علي سالم البيض) –سنعود إليه في الأسابيع القادمة بإذن الله- عند حديثه المزعوم عن استهداف الجنوبيين بعد حرب 1994 وهزيمة الانفصال.. إذ يقول (تم التخلص تدريجيا من جميع(!!) أعضاء السلك الدبلوماسي من أبناء الجنوب واستبدالهم بآخرين من الشمال في شكل عنصري مقيت..).
ويشهد الله في سمائه، ونشهد نحن في أرضه إن هذه شهادة كذب، لا تستحي من الله ولا من الناس.. فبالاسم نعرف أن وزارة الخارجية تضم مواطنين من جميع المحافظات –بصرف النظر عن كفاءتهم- وأعرف دبلوماسيين بالاسم، ونعرف سفراء ومستشارين في الوزارة من المحافظات الجنوبية لم يمسهم أحد، بل إن بعضهم نزح إلى الخارج سنوات بعد الحرب ثم عاد إلى عمله دون أن يمسه انفصال ولم تمسسه عنصرية!
أتمنى.. أتمنى.. أتمنى لو أن كشوفات الموظفين في وزارة الخارجية والقوات المسلحة في المحافظات الجنوبية قبل الوحدة في عهد البيض، متوفرة أمام الباحثين عن الانفصال ليعرفوا من خلالها حقيقة المواطنة المتساوية والمشاركة في السلطة من خلال إحصاء الانتماءات المناطقية لأولئك الموظفين! أتوقع متيقنا أن الأغلبية منهم ستكون محصورة في 3- 4 مديريات فقط!