بعد الغزو العراقي للكويت دخل العرب سراً وعلانية في مرحلة "عرب أوسلو"، وهي حقبة مخزية تتالت فيها الهزائم العربية، وتنوعت التشظيات والندوب، إلى أن رأى القادة العرب زميلاً لهم يشنق يوم عيد الله الأكبر.. وبرغم اختلافهم أو اختلافهم مع هذا الزميل، إلا أن حادث شنق الرئيس الراحل صدام حسين هز كل زعيم عربي، لكن الجميع حينها كانوا بلا حوْل ولا طوْل..
وباستشهاد صدام حسين خرج العرب من المعادلة ودخلت المنطقة في فلك "إيران خامنئي" التي أقبلت يزفُّها النجيع، وتسبقها الإحن الطائفية، واستهلت دورها الإقليمي بمذبحة عظيمة في العراق، وتمرد في اليمن وقلاقل في مصر والبحرين والسعودية.. إلى أن وجد العرب أنفسهم يتحسرون على سقوط العراق البوابة الشرقية والكابح النموذجي لمخالب الفرس..
(وبالطبع كانت الولايات المتحدة الأمريكية حاضرة في هذين الطورين اللذين ترنحت فيهما أحلام الشعوب العربية وتراجعت إلى حدود الخوف مما هو أسوأ.).
واليوم، (ومنذ ما قبل العدوان الإسرائيلي على أسطول الحرية) يبدو أن المنطقة العربية تدخل حقبة جديدة، هي حقبة "تركيا أوغلو"، نسبة لأحمد داود أوغلو وزير الخارجية تركيا ومهندس نظرية الدور التركي في المنطقة العربية، والذي كان لكتابه الشهير "العمق الاستراتيجي" تأثير مهم في هيكلة السياسة الخارجية التركية. وهو مستشار لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ذلك الليث الذي كان أفضل ما قدمه للقضية الفلسطينية ولعامة العرب والمسلمين، ليس مواقفه الأخيرة من إسرائيل، وإنما كان أفضل ما قدمه هو أنه انتشل تركيا من حالة الاضطراب الداخلي والفقر والبطالة والعدامة إلى طور أصبحت فيه تركيا تقوم بدور إقليمي أيا كان حجمه.. كما أصبحت تركيا تتبادل مع الصين المرتبة الأولى عالمياً في معدل النمو السنوي..
يفهم الأتراك جيداً مزاج الغرب، وهذه إحدى نقاط تفوق الأتراك في لعب دور إقليمي لصالح الأمة، كما تربطهم علاقات مع كل من أمريكا والكيان الصهيوني.. ما يجعل مقدرة الأخيرتين على كبح الجماح التركي محدودة للغاية..
وتتمتع تركيا "العدالة والتنمية"، بأريحية ملحوظة في الملف الكردي الذي كان نقطة الضعف التركية على الدوام.. إلى ذلك لا يتقصّد الأتراك في خطابهم إفساد العلاقة بين الشعوب العربية وأنظمتها، ولا يزايدون على دور هذه الدولة أو تلك، ولا تقودهم عصبية طائفية أو مذهبية مقيتة، ولا يهتمون بالضجيج.
اليوم، ثمة موجٌ من السعادة يغمر العرب حكاماً وشعوبا من صعود الدور التركي الذي يحدث توازناً في المنطقة مع الدورين الإيراني والإسرائيلي، وإن بقيت بعض المخاوف لدى الأنظمة العربية من أن يؤدي صعود هذا الدور التركي إلى تنامي شعبية الأحزاب الإسلامية في الوطن العربي.. بالتالي يتوجب على هذه الأحزاب اليوم أن لا تستفز الأنظمة وأن تتحلى بحكمة الأتراك..
أما ما يعنينا الآن في اليمن فإن من الحكمة تمتين علاقاتنا الاقتصادية والثقافية والتعليمية مع تركيا بما يمكّن اليمن من الاستفادة من التجربة التركية في صناعة الإجماع الوطني وإنقاذ الاقتصاد ووقف تدهور العملة، خصوصا وأن أحداثاً جمة ساعدت، وتساعد، على رد الاعتبار لموروث الأتراك في اليمن ذلك الذي تعرض للتشويه ردحاً من الزمان..