يقول ألفريد براود وهو محلل إعلامي في المؤسسة البريطانية لميديا الاختلاف عن الإعلام الأسود:
أنه نوع جديد من الإعلام ظهر بعد أحداث 11 سبتمبر وموقعة الخرطوم (ويقصد تأثيرات الاعلام في احداث الشغب بعد مباراة مصر والجزائر في العاصمة السودانية )، حيث استعمل البلدان عن قصد كل ما أوتي لهما من أسلحة إعلامية ليس فقط لتحريض الطرفين بل لتحويل مباراة كرة قدم إلى ساحة للتنفيس عن غضبهم من الأزمات التي يعيشونها في بلدان تعيش على القمع والديكتاتورية، هذا الاستعمال متعمد من طرف القائمين على البلدين فمن خلاله يتم قياس سلوك المواطن وتحدد الأساليب التي سيعتمدها القادة في تعاملهم معه مستقبلا، لذلك وللأسف الشديد الخاسر الوحيد في كل هذا هو الشعب وخاصة الفئة التي لا حول لها ولا قوة!
ويبدو لي ان الفريد براود لو كان قد عاصر أو اطلع على اداء الاعلام وما رافق الاحداث في كثير من دول الشرق الاوسط منذ بدايات القرن الماضي وربما قبله بسنوات في عمليات الابادة الجماعية للارمن والكرد وما حصل في فلسطين ثلاثينات القرن الماضي وحملات الهليكوست في المانيا وصولا إلى ما كان يرافق ويعقب الانقلابات العسكرية في المنطقة ويرى تلك المشاهد الدموية التي اعقبت ثورة 14 تموز 1958م وما حصل في العراق منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، والتي لعب فيها الاعلام الاسود دورا رئيسيا في كثير من الاحداث والمأسي ودوامة العنف واشاعة ثقافة القتل والموت والاقصاء من خلال طبع ونشر وبث تلك المشاهد على الاف النسخ من الصحف والمجلات وشاشات التلفاز، لأدرك ان هذا النوع من الاعلام الاسود انما جاء قبل ما يذهب اليه بعقود كثيرة حيث مورست هنا عمليات الاغتيال والتصفية امام انظار الناس، وما تلى ذلك من عمليات قتل بشعة في شوارع الموصل وكركوك وبغداد التي شهدنا الكثير منها خلال تلك السنوات العجاف التي استمرت حتى سقوط الحرس القومي الذي تفنن في اشاعة وممارسة تلك الانماط من السلوكيات السادية السوداء، حيث كان الاعلام يفعل فعلته الكارثية في زرع مفاهيم خطيرة لدى المجتمع عموما والاطفال والشبيبة بشكل خاص عندما كان يظهر عمليات القتل والاعدام في الساحات العامة ويكررها على شاشات التلفزيون لأيام طويلة حتى غدت صور مقبولة من الاهالي عامة بل واخذت مجاميع من الاطفال تقليدها وتمثيلها في العابهم البريئة؟
وما كاد عقد الستينات ان ينتهي حتى عاد ذلك الاعلام المتوحش اثر انقلاب تموز 1968م لكي تعود ثانية مظاهر تعليق الناس على المشانق في الساحات العامة بالعاصمة والمحافظات تحت مسميات كثيرة وتبريرات لا يقبلها العقل أو المنطق، مهما كانت المبررات أو نوع الجريمة المقترفة من قبل الجناة، لما ستتركه هذه العملية الاعلانية والاعلامية من آثار سلبية حادة على النظام النفسي للفرد والمجتمع، وربما إلى درجة التضامن مع الضحية حتى وان كان مجرما حقيقيا، اضافة إلى انطباعات الاطفال والشبيبة عن تلك الصور ومدى تاثيرها على تكوين الشخصية في جانبيها النفسي والاجتماعي، حيث تم توظيف الجريمة كأداة لأشاعة الخوف والاذعان والاستكانة لدى الاهالي من خلال مجموعة الجرائم التي تم تنفيذها من قبل ما سمي في حينه ب ( ابو طبر ) ونشر واظهار صور الضحايا على الشاشات والصحف، مما خلق اجواءً مرعبة وشعور بفقدان الامن والسلم الاجتماعيين وذلك ما كان يريده النظام واعلامه لتوجيه ( القطيع ) إلى ملاذه الامن وربطه نهائيا بمقدراته وبرامجه، وهي ذاتها النظرية التي تستخدم منذ نهاية 2003م وحتى يومنا هذا على ايدي ذات التنظيمات العسكرية والاعلامية التي أسسها النظام ويتعاون من خلالها مع تنظيمات القاعدة وغيرها من مافيا الجريمة المنظمة في المنطقة؟
ومع مطلع الثمانينات من القرن الماضي ابان الحرب العراقية الإيرانية بدأت عملية عسكرة المجتمع بكل مفاصله وفعالياته بما يخدم تطلعات النظام بما في ذلك نمط الاعلام الموجه للاهالي من كافة وسائله المرئية والمسموعة والمقروءة وبالذات إلى شريحة الشباب والمراهقين من خلال توجيههم للمؤسسات العسكرية باشكالها المختلفة وتصوير الضباط وكأنهم ملوك وامراء في امتيازاتهم وصلاحياتهم، تلك الوسائل التي لا تتوانى عن استخدام اي شكل من اشكال الاساليب والغرائز لتحقيق اهداف النظام السياسي وهي جميعا ذات اتجاه واحد ومكثفة في قنوات معدودة سواء في الراديو أو التلفزيون ولا يكاد المرء يفرق بينهم جميعا إلى درجة انهماك المذيعين مثلا بالانتقال من ستوديو إلى آخر بين قناتي التلفزيون وإذاعتي بغداد وصوت الجماهير ناهيك عن ذات المواضيع المكررة هنا وهناك، ذلك النمط المصمم لإشاعة أجواء الحرب الدائمة ليل نهار في داخل الأسرة، وجعل المتلقي صغيرا كان أم كبيرا في شد عصبي وعاطفي مستمر ومتناغم مع طبيعة البيانات التي كانت تصدر يوميا، إضافة إلى البلاغات وتصريحات الناطق العسكري وهي مصاغة بشكل دقيق لكي تعطي النتائج المرجوة لتحقيق اهداف النظام السياسي آنذاك في تكثيف كل إنتاج الفرد والمجتمع من اجل الحرب والطاعة العمياء، وإبقاء المزاج العام متشنجا باتجاه الأحداث اليومية المرتبطة بشاشة التلفزيون وبرامج الاذاعة.
لقد تم توظيف الاعلام والمسرح والغناء بشكل كبير لتحقيق تلك الاغراض وغدت كل الاغاني والاناشيد تمجد الرئيس الذي اختزل البلاد والعباد بشخصه فقط حتى دون حزبه أو رفاقه، مما كرس نزعة انفرادية نرجسية لدى شرائح كبيرة من الشباب والمراهقين تتقمص تلك الشخصية وتقلدها في سلوكها اليومي بشكل ارادي أو غير ارادي، وقد رافق ذلك مجموعة من البرامج التي تظهر لقطات حقيقية من مجازر الحرب واكداس الجثث التي تدفن بشكل جماعي*، اضافة إلى حفلات الاعدام رميا بالرصاص لمئات الشباب امام ذويهم وعشرات من المسؤولين المدنيين والعسكريين وشيوخ العشائر في كافة المحافظات والمدن العراقية على خلفية الهروب أو التخلف من الخدمة العسكرية ومثلها ما كان يحدث في الوحدات العسكرية امام الجنود والضباط، مما اشاع اشكالا من النظم النفسية في تلك الشخصيات التي شاهدت وعايشت تلك الاحداث والممارسات ميدانيا أو اعلاميا، وزرعت انماطا من بذور تلك السلوكيات التي بانت للوجود بعد سقوط النظام وظهور مجاميع من الشباب على شكل عصابات تجتمع حول شخص من ضحايا ذلك الاعلام الاسود وتمارس الجريمة على ذات الخلفية التي كان يستخدمها النظام السابق في الشعارات الوطنية والقومية مستسهلة الموت والقتل والتدمير والتلذذ بايذاء الاخرين وتصفيتهم أو تعذيبهم حتى الموت كما ظهر خلال السنوات الاخيرة من الصراع الطائفي والجرائم التي اقترفت من كل الاطراف المتصارعة على ايدي شباب لا تتجاوز اعمارهم سنوات الحكم البعثي للعراق.
* برنامج صور من المعركة الذي كان يقدم من على شاشة التلفاز العراقي طيلة سنوات الحرب 1980-1988م.