آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

اليمن ولعبته المزدوجة

يؤكد مسؤولون عسكريون أميركيون، ذُكرت أسماء بعضهم في تسريبات 'ويكيليكس' بينما بقيت هوية بعضهم الآخر مجهولة، أن اليمن بدل مهمة وحدة مكافحة الإرهاب تحديداً وجعلها تحارب المتمردين اليمنيين، وهو بذلك تجاهل الاحتجاجات الأميركية التي أصرت على أن أفراد القوات الخاصة اليمنية يجب أن يحاربوا 'القاعدة' حصراً.

لطالما استغلت الحكومة اليمنية المقاتلين المدعومين من الولايات المتحدة وبريطانيا لمكافحة الإرهاب ضد 'القاعدة' ودفعتهم إلى محاربة جماعة معارِضة محلية، ما أبعد القوات الخاصة (الكوماندوز) اليمنيين عن مهمتهم الأصلية ضد 'القاعدة' طوال أشهر كاملة، وذلك وفقاً لما أوردته وثائق 'ويكيليكس' التي تشير إلى أن السفير الأميركي الأسبق في اليمن كان يحتج سدىً على الاستغلال الفاضح للدعم العسكري الأميركي.

وعلى الرغم من التقارير التي صدرت عام 2009 وأفادت بأن اليمن كان ينشر مركبات مدرعة وسيارات 'هامفي' من تقديم الولايات المتحدة لمحاربة المتمردين المحليين، اكتفت الولايات المتحدة- التي شعرت بالقلق من انهيار اليمن ووقوعه تحت سيطرة 'القاعدة'- بزيادة شحنات الأسلحة، والمناظير للرؤية الليلية، والمروحيات، وغيرها من المعدات الحربية، إلى اليمن في عام 2010.

تشير سنوات من المعطيات الدبلوماسية الأميركية الموثقة إلى أن الرئيس اليمني، علي عبدالله صالح، كان قد عقد العزم على الحصول على مواد حربية وأموال نقدية إضافية من الولايات المتحدة. في بعض الاجتماعات، يحث صالح الولايات المتحدة على الانضمام مباشرةً إلى المعركة ضد المتمردين الحوثيين في شمال اليمن من خلال تقديم مروحيات وطائرات حربية ومركبات مدرعة، وخلال لقاءات أخرى، يطالب صالح بأسلحة معينة لكنه يتعهد بعدم استعمالها ضد الحوثيين.

وفي السياق نفسه، قال صالح للجنرال الأميركي ديفيد بتريوس، في أحد الاجتماعات في يناير 2009: 'نحن لن نستعمل المروحيات في مدينة صعدة. أعدكم بذلك. سنستعملها حصراً ضد القاعدة'. على ما يبدو، أطلق صالح ذلك الوعد بشكل عفوي، في إشارةٍ إلى مدينة يمنية شمالية تشكل قاعدة لحركة تمرد محلية يقودها المنشقون الشيعيون الحوثيون في البلاد.

وفي إحدى الجلسات التي عُقدت في سبتمبر من عام 2009 مع مستشار البيت الأبيض في مجال مكافحة الإرهاب جون برينان، قام صالح، الذي كان يشعر بانزعاج شديد، بالضغط على الولايات المتحدة لمنحه مركبات مدرعة وطائرات حربية وسيارات إسعاف مخصصة على وجه التحديد لدعم حملته ضد المتمردين الحوثيين. فقال صالح لبرينان: 'الحوثيون هم أعداؤكم أيضاً'.

لكن واجه برينان ذلك الطلب بالرفض، وقد اقتُبس وهو يقول لصالح ما يلي: 'القانون يمنع الحكومة الأميركية من تقديم أي دعم عسكري للحكومة اليمنية لتُستعمل ضد الحوثيين بما أن الحكومة الأميركية تعتبر تلك الجماعة حركة تمرد محلية'.

لكن في تلك الفترة، كان صالح وقادته العسكريون قد بدؤوا أصلاً باستغلال وحدة مكافحة الإرهاب المدعومة من الولايات المتحدة، فقد أدت فرق الكوماندوز اليمنية، التي حصلت على تمويل وتدريب ومعدات من الولايات المتحدة وبريطانيا منذ عام 2002، دوراً رئيساً في محاربة 'القاعدة' في اليمن. كما أنهم استخدموا مركبات مدرعة وسيارات 'هامفي' أميركية ضد الحوثيين، بحسب ما يذكر السفير الأميركي حينها ستيفن سيش في وثيقة مسربة أخرى.

كتب سيش في ديسمبر 2009: 'لقد تجاهلت حكومة الجمهورية اليمنية التي تريد هزم الحوثيين بأي ثمن مخاوف الحكومة الأميركية بشأن نشر وحدة مكافحة الإرهاب في محافظة صعدة. ثبت أن وحدة مكافحة الإرهاب عاجزة عن ملاحقة الأهداف الإرهابية الأصلية من عناصر 'القاعدة' في شبه الجزيرة العربية بينما خضعت لضغوط كبرى في محافظة صعدة'.

أقدمت الولايات المتحدة هذه السنة على مضاعفة مساعداتها العسكرية لليمن في محاولة لتشجيع حكومة صالح على بذل المزيد لمحاربة ما يعتبره معظم المسؤولين في إدارة الرئيس باراك أوباما أعنف فرع لتنظيم 'القاعدة' في العالم.

لقد رُبط اسم 'القاعدة في شبه الجزيرة العربية'- وهي عبارة عن اتحاد من جماعات سعودية ويمنية تابعة ل'القاعدة'، مركزها اليمن- بالمحاولة الفاشلة لتفجير طائرة متجهة إلى ديترويت، في ديسمبر 2009، وحادثة المتفجرات الأخيرة المدسوسة في خراطيش الطباعة، بالإضافة إلى اعتداءات أخرى، نجح بعضها وفشل بعضها الآخر، تستهدف الأميركيين وحلفاءهم.

وفقاً لتقييم أجرته الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، عام 2006، يفتقر الجيش اليمني وغيره من القوات النظامية إلى التدريب والمعدات، ويشوبها الفساد، وتملك عشرات آلاف 'الجنود الوهميين' المسجلين على جدول الرواتب ليتمكن القادة العسكريون والقادة القبليون وغيرهم من سحب رواتب هؤلاء الجنود الوهميين وبيع معداتهم في السوق السوداء.

نتيجةً لذلك، ركزت الولايات المتحدة وبريطانيا على محاولة بناء وحدات قوات خاصة (كوماندوز) يمنية، بقيادة ابن صالح وابن أخيه، على أمل أن يستعملها اليمن ضد 'القاعدة'. وبحسب ما تذكره إحدى الوثائق المسربة، أنفقت الولايات المتحدة، منذ عام 2002، أكثر من 115 مليون دولار لتوفير معدات للقوات اليمنية المكافِحة للإرهاب، بما في ذلك 5 ملايين دولار للتدريب العسكري، في عام 2009 وحده.

وفي التسريبات المتعلقة بالسفير الأميركي ستيفين سيش، في ديسمبر 2009، يؤكد مسؤولون عسكريون، ذُكرت أسماء بعضهم بينما بقيت هوية بعضهم الآخر مجهولة، أن اليمن بدل مهمة وحدة مكافحة الإرهاب تحديداً وجعلها تحارب المتمردين اليمنيين، وهو بذلك تجاهل الاحتجاجات الأميركية التي أصرت على أن أفراد القوات الخاصة اليمنية يجب أن يحاربوا 'القاعدة' حصراً.

في المقابل، شدد كولونيل يمني أمام مسؤولين سياسيين في السفارة الأميركية، في ديسمبر 2009، على أن 'الحرب ضد الحوثيين ليست مصدر إلهاء بالنسبة إلى معركة مكافحة الإرهاب، بل هي تشكل صلب تلك المعركة'.

الحوثيون هم شيعيون من المذهب الزيدي شكلوا حركة تمرد بقيادة إحدى العائلات، وقد بدؤوا بمحاربة القوات اليمنية عام 2004. يقول الحوثيون إنهم يسعون إلى بسط سيادة أكبر في شمال اليمن. لقد مرت الحرب حتى الآن بست جولات. وعلى الرغم من تجميد الصراع راهناً، فلا أحد يثق بأن المعركة انتهت بشكل كامل، وحتى الآن، هُجر ما يفوق المئتي ألف شخص على الأقل بسبب تلك المعارك.

على الرغم من ادعاءات صالح المتكررة بأنهم على ارتباط ب'القاعدة' وإيران في آن، فإنه لا وجود لأي أدلة دامغة تدين الحوثيين، ومن غير المرجح أن تتحالف 'القاعدة'- جماعة إسلامية سنّية تعتبر الشيعة المسلمين كافرين ويجب قتلهم- مع جماعة شيعية. كذلك، وردت أقاويل المسؤولين الأميركيين في مكان آخر من الوثائق المسربة، حيث ينكرون الادعاء القائل بأن إيران تزود الحوثيين بالمعدات.

على صعيد آخر، تتهم جماعات الحقوق الدولية والمدنيون في منطقة التمرد حكومة صالح باستعمال استراتيجيات متهورة تؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، وتشمل تلك الاستراتيجيات نشر مروحيات وطائرات حربية لقصف الأحياء المدنية في الشمال. كذلك، منعت حكومة صالح الصحافيين من السفر إلى محافظة صعدة.

كذلك، يواجه صالح حركة تمرد ناشئة في جنوب اليمن، ويقول اليمنيون في الشمال والجنوب إن النظام الذي يحكمهم منذ أكثر من ثلاثين عاماً يسيء إلى مناطقهم على مستوى الوظائف والتنمية.

صحيح أن الحوثيين أطلقوا شعارات معادية لإسرائيل والولايات المتحدة، لكن لم يثبت أنهم نفذوا أي اعتداءات خارج حدود اليمن. لقد رفضت الولايات المتحدة طوال سنوات مطالب اليمن بتصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية.

يُقال إن صالح قصف البلدات التي تؤوي المتمردين الحوثيين، خلال معظم سنوات العقد الماضي، لكنه كان أكثر تساهلاً مع قادة 'القاعدة' في اليمن، فاتبع استراتيجية تهدف إلى محاولة التعايش معهم بدل قتلهم. وخلال موعد غداء مع مبعوث أميركي، عام 2007، روى صالح أنه اجتمع منذ أسبوعين مع جمال البدوي، مصمم العملية التفجيرية التي نفذتها 'القاعدة' عام 2000 ضد المدمرة الأميركية 'إس.إس.كول'، ما أسفر عن مقتل 17 شخصاً. أقسم صالح للمبعوث الأميركي بأن البدوي- بعد أن أطلق اليمن سراحه رغم إدانته بجريمة تفجير المدمِّرة كول- يخضع للإقامة الجبرية وهو لايزال 'تحت أنظاره'... لكن لايزال مكان البدوي اليوم مجهولاً.

يذكر السفير الأميركي السابق لدى اليمن ستيفين سيش في الوثائق المسربة عنه أن القوات التي دربتها الولايات المتحدة تتلقى 'خسائر هائلة' في المعركة القائمة ضد المتمردين في الشمال، لأن قوات العمليات الخاصة الأميركية ساعدت في تدريب الكوماندوز لتسريع عمليات المداهمة بدل وقف القتال.

ووفقاً لأحد المصادر التي لم تفصح الوثيقة عنها، يريد اليمنيون تكييف طريقة تدريب وحدة مكافحة الإرهاب وفق أسلوب مشابه للأسلوب الذي يعتمده الأميركيون في أفغانستان، 'ما يشير إلى أن وحدة مكافحة الإرهاب تتوقع متابعة استعمال قواتها في محافظة صعدة'، بحسب ما كتب سيش.

ويقول الدبلوماسي الأميركي في هذا الإطار: 'مع أن الأميركيين عبروا عن مخاوفهم بشأن تبديل مهمة القوات والمعدات العسكرية، فمن الواضح أن الأمر لم يؤدِّ إلى أي تغيير ملحوظ يدفع حكومة الجمهورية اليمنية إلى تحويل تركيزها من الحوثيين إلى (القاعدة) في شبه الجزيرة العربية'.

لطالما حذر ناقدو حكومة صالح من اليمنيين من أن القوات الأمنية التابعة لصالح ستحوّل على الأرجح كل مساعدة عسكرية أميركية مخخصة لمحاربة 'القاعدة' لاستعمالها ضد الانفصاليين في الجنوب والمتمردين في الشمال.

كذلك، نشرت مصادر عسكرية أميركية، عام 2009، شائعات متكررة عن محافظة صعدة، مفادها أن الأميركيين أنفسهم تم رصدهم في منطقة الحرب الشمالية، علماً أنه من السهل أن يخطئ اليمنيون بين كوماندوز يمنيين على درجة عالية من التسلح وكوماندوز أميركيين.

في مقابلة أجريتُها مع أحد أبرز تجار الأسلحة اليمنيين، في العاصمة اليمنية صنعاء، في شهر أغسطس، أخبرني أن البنادق وسيارات 'الهامفي' الأميركية الصنع كانت تُستعمل في المعركة القائمة بين الحوثيين والحكومة في صعدة، لكن سرعان ما قلل دبلوماسيون أميركيون وبريطانيون من أهمية ذلك الاحتمال، مشددين في تصريحاتهم العلنية، خلال منتدى عُقد في لندن لمناقشة الشأن اليمني، في شهر نوفمبر، على أن حكومتي بلدَيْهم كانتا تعملان بجهد لمعرفة طريقة استعمال المساعدات العسكرية التي منحها الغرب لليمن.

لكن تشير تعليقات السفير سيش إلى أن الدبلوماسيين الأميركيين كانوا يعرفون في تلك الفترة أن صالح وقواته الأمنية كانوا يستعملون التدريب والتمويل والمعدات الأميركية ضد المتمردين في الشمال.

يرفض الدبلوماسيون الأميركيون عموماً التعليق على وثائق معينة من تلك التي سربها موقع 'ويكيليكس'. لم ترد السفارة الأميركية في صنعاء مثلاً على رسالة إلكترونية تسأل عن حصول أي تغيير في الوضع لمنع اليمن من استعمال التدريب والتمويل والمعدات الأميركية ضد المعارضة المحلية مستقبلاً.

بحسب قول مستشار البيت الأبيض في مجال مكافحة الإرهاب جون برينان، لم يتضح بعد ما إذا كان شرعياً أن تستمر الولايات المتحدة بمقاربتها المتساهلة تجاه استعمال اليمن للتدريب والتمويل الأميركي، وربما المعدات الأميركية. وقال هيرست هانوم، أستاذ في القانون الدولي في جامعة تافتس، إن الولايات المتحدة ستنتهك على الأرجح القانون الدولي في حال ساهمت القوات الأميركية مباشرةً في المعركة اليمنية ضد المتمردين. لكن يضيف مايكل ج. غلينون، أستاذ آخر في القانون الدولي في جامعة تافتس، قائلاً: 'لكن يبقى القانون الأميركي بهذا الشأن مليئاً بالغموض والثغرات وبنود التنازلات التنفيذية'.

لكن حتى لو لم تكن تلك المقاربة غير شرعية، فإنها تبقى غير حكيمة. يعني السماح لليمن بجر الولايات المتحدة إلى دعم جيش مرتزقة تابع للرئيس صالح ضد خصوم محليين له، على أمل أن يستعمل دعمها ضد 'القاعدة' أيضاً، انتصاراً للتمنيات على عامل الخبرة.

صحيح أن الصراع مع الحوثيين يُعتبر من أكثر الصراعات غموضاً في العالم، إلا أن معالمه تتضح تدريجياً مع مرور السنوات، فقد دخلت المملكة العربية السعودية ذلك الصراع في السنة الماضية، مستعملة طائراتها الحربية لقصف مواقع الحوثيين داخل اليمن (كما تؤكد الوثائق المسرّبة). يُذكَر أن المملكة العربية السعودية قد تزيد دعمها لخطوة تقديم مساعدات عسكرية أميركية أكثر تطوراً إلى اليمن.

كان دبلوماسيون أميركيون حينها يشعرون بالقلق من دخول إيران حلبة الصراع إلى جانب المتمردين الشيعة، لكن أثبتت جميع الأدلة أن إيران تصرفت بحكمة شديدة حين امتنعت عن ذلك. باختصار، يجب إعادة النظام إلى استراتيجية الولايات المتحدة التي لا تحتاج إلى منطقة حرب ثالثة ولا إلى حرب إقليمية في الشرق الأوسط.

زر الذهاب إلى الأعلى