" أنتم، ليس لكم من عمل سوى أن تَقتُلوا أو تُقتَلوا". أردت من الاستهلال بهذه العبارة، تبيان نظرة وانطباع المجتمع وبعض مثقفيه وساسته إزاء شريحة كبيرة ومؤثرة في المجتمع اليمني، يقع على عاتقها الائتمار بأمر الوطن، في حماية ترابه، واستتباب أمنه واستقراره؛ ألا وهي القوات المسلحة وقوات الأمن. وقد استعرت هذه العبارة بعد ورودها على لسان أكاديمي يمني من حملة الشهادات العليا، في نقاش حاد جرى بينه وبين أحد العسكريين المثقفين، ممن لم يسعفهم القدر إتمام تعليمهم الجامعي، وقد أفضى ذلك إلى انسحاب صديقنا الأكاديمي من المجلس مغاضبا.
في حقيقة الأمر، لم يكن ذلك الأكاديمي على خطأ، قياسا على ما يجري في بلد كاليمن، وقد خانه التعبير في ذلك كما يبدو، حين ساق ذلك على سبيل التعميم، وألغى كل فعل سلمي إيجابي يمكن أن يؤديه العسكر، وقد يكون محقا لو كان قوله: إن ما يُراد من العسكري، هو أن يَقتل، وأن لا يدع نفسه في موضع المقتول، وهذا كله ظاهرة عالمية مأسوف عليها، يجسدها القادة الجهلة، الذين يُلقون بأفرادهم إلى حِمام الموت، بوعي أو دون وعي بما يجري، ودون حساب لنتائج ذلك التصرف، وبالتالي، يصبح الجندي منذ لحظة قيده في سجلات الخدمة مشروع قتيل مؤجل.
في المفهوم البسيط للحرب، ينصرف المعنى إلى ذلك الفعل المنظم الذي تحشد له الطاقات المختلفة، في ظروف الخطر العسكري الذي يداهم دولة ما، سواء كان مصدر الخطر خارجيا أو داخليا، من انقسامات عسكرية وسياسية واجتماعية، وهذا الأخير، على نحو ما يجري في اليمن هذه الأيام. ولذلك، فإن من ضمن تلك الطاقات، القوة البشرية العسكرية التي تعتبر مادة الحرب وأداة القتال، وهو أمر لا يبرر مدلول العبارة التي استفتحت بها المقال، ذلك أن احتراف الجندية ليس بالضرورة احتراف للقتل، بقدر ما هو انخراط في ميدان دفاعي إعماري، على الصفة التي كانت تراود حركة الثالث عشر من يونيو عام 1974م، عندما رفعت شعار: الجيش للحرب والإعمار؛ مع فهم دلالة الحرب هنا، بأنها تعني الدفاع، اتساقا مع مسمى الوزارة التي يتبعونها، وتمشيا مع التوجه العالمي- ولو شكليا- في هذا الجانب.
والمشاهَد في الكثير من الدول التي شهدت حروبا ونزاعات مسلحة داخلية وخارجية، خاصة دول العالم الثالث، ومنها اليمن، الدفع بحديثي السن والخدمة في معظم أعمال القتال، في الأنساق الأولى، وفي التحركات الأمنية الخطرة، التي يعرف فداحة نتائجها قُدامى العسكر، فيندفع هؤلاء الحدثاء باستبسال، وبروح المغامرة والتفاني المنغرسة فيهم، والتزاما بأوامر قادتهم الذين ترخُص في سبيل رضاهم نفوسهم، إن رأوا فيهم استحقاق تلك التضحية. وقد يقضي الجميع في كثير من الفتن والنزاعات، سواء من فئة الأفراد أو الضباط، مع تعالي أصوات التحريض بالتنكيل والتقتيل ضد فئة ما، والتشدق الجهادي بالدعوات الدينية المضللة، التي تساق في غير مقاصدها، في أسواق الفتوى التي يستنبتها الفرقاء، في ظروف الحروب والنزاعات المسلحة، وفي الاضطرابات السياسية والدينية.
عَود على بدء، أين موقع الجندي اليمني مما يجري اليوم في بلده، اليمن؟ لقد حاولت الدساتير والقوانين التي جاءت مع ولادة النظام الجمهوري في الشمال والجنوب، أو بعد تحقيق الوحدة عام 1990م، تحييد قوات الجيش وقوات الأمن عما قد يعتري البلد من أزمات، بحيث لا يجري الاستعانة بها لحسم الموقف لصالح طرف ما، فانخدع المخلصون والسذج من القادة والجند-على السواء- أن القوات المسلحة على ما يجب أن تكون عليه، أداة دفاع وإعمار، وهو ما أوقع الكثير من الجند والقادة في توابيت الموت، بعد أن طالتهم أذرع المنايا، وقد كان ذلك قدرهم المحتوم على أي حال!!
إن مسألة تحييد أي قوة، أو عزلها عن أي أعمال عنف أو صراع بين مختلف أجنحة السلطة الحاكمة، يجب أن توضع لها أدواتها وآلياتها الدقيقة الواضحة المعالم، التي لا تؤْثر شخصا أو فئة، وتحت أي مبرر، في ظل منظومة قيادية وإدارية راقية، وفي ظل إجماع وطني حقيقي. إذ كيف يمكن أن يُطلب من الجندي أو الضابط تلك الحيادية في ظل سيادة مفاهيم تجعل من تشكيل ما، كالكتيبة أو اللواء أو الفرقة تتبع تبعية مؤدلجة زيد أو عمرو من القادة؟ بل قد تُنعت تلك التشكيلات بأسمائهم، فيقال: كتيبة فلان، ولواء فلان، بل وتحرر المحررات الرسمية على هذه الصفة. نعم، كيف يطلب ذلك من العسكري، وراتبه الذي يتقاضاه شهريا يجري التحكم به أو اجتزاؤه، ومصادرته إلى غير خزينة الدولة؟ فضلا عن الحقوق الأخرى التي لا تعرف طريقها إليه، وكيف يمكن ذلك-أيضا- وقد بلغ حب القادة مبلغا في قلوب بعض الجنود والمقربين، وهم يكتحلون بالنظر إليهم صباح مساء، عشرات السنين دون تغيير، حتى ولو لاقوا منهم العسف والقهر؟!!
لقد جرَّ بعض القادة العسكريين في هذه الثورة أو الأزمة، جروا تشكيلات عسكرية كبيرة أو متوسطة إلى غير الغرض الذي حددته الدساتير والقوانين، سواء في السلطة أو المعارضة، واندفع بعض منتسبي الجيش والأمن بصورة علنية، وببزتهم العسكرية، إلى صفوف أي من الفريقين، لتحديد موافقهم مما يجري، على حد قولهم، وقد أُشكل عليهم الأمر، بل وانقطع البعض عن أعمالهم تحت مبرر مؤازرة الثوار وخوفا من أن يطاله العقاب، فكانت الانشقاقات تترى في كل اتجاه، سواء باتجاه جماعة الثوار أو باتجاه السلطة، ونشطت عمليات الاستقطاب والتلويح بالمناصب في مقابل تلك الولاءات، على طرفي النزاع.
هذا العسكري، الذي يقول عنه البعض: أن وظيفته هي أن يَقتُل أو يُقتَل، وأنه ضمن شريحة مجتمعية مستهلِكة، غير منتجة -على حد وصف برلماني منظِّر- وأنه لم يعد لمنظومته التي ينضوي فيها(الجيش) من عمل، في ظل الاتفاقيات المبرمة حول ترسيم الحدود بين اليمن ودول الجوار، وأن الجيش مجرد أداة للاستعراض العسكري في الميادين، وأداة قمع أو إخماد لأي تمرد ضد النظام، ها هو اليوم قد بلغ من الحظوة ما لا يصدّقه عاقل، بل أنه بولغ في المزايدة في تطلعاته وطموحاته وأعبائه الحياتية التي تجوهل عنها طويلا، من قبل أناس كانوا جميعا بالأمس هم من يديرون شئونه، واليوم نراهم دعاة إصلاح لشأنه وتطلعاته، بإطلاق الوعود الفضفاضة في كل اتجاه يخصه، وبالتلويح بإعادة النظر في هيكلة أجوره وتحسين أوضاعه، لكن ذلك سيكون لعنة مؤجلة إن لم تتجسد حقيقة ملموسة في المستقبل.
هذا العسكري، كم دُفع به في معتركات خاسرة، وكم فقدنا من فلذات الأكباد، في نزوات عنترية طائشة، ومغامرات غير معلومة الغاية والأهداف، أجرت غزيرا دموع الأمهات والآباء والأبناء والأزواج، وربما كان سعيد الحظ من فقد أحد أعضائه، وليته نال حظا من الالتفات نحوه ممن دفعوا به في أتون الصراع، تعبيرا عن العرفان والوفاء له.
هذا العسكري الذي يدفع به في الاتجاه الخطأ، ليقتل عسكريا مثله، بعد أن يلقى بزته العسكرية -دون سلاحه- ويولى وجهه شطر قبيلته عندما يداهمها خطر ما، سواء كان من طرف قبيلة أخرى أو من جانب الدولة ذاتها، علم ذلك أو لم يعلم. لَكَم ساء به الحظ أن صار حارسا في مزرعة أو عمارة، أو خادما في منزل أو مرفق خاص من ممتلكات القادة السيئين، ولربما ألجأه حظه العاثر أن يكون من رجال المهمات القذرة.
* باحث في شئون النزاعات المسلحة والبيئة