يحلو لي في الكثير من الأحيان، أن أقرأ المستقبل بعيون الماضي، دون أن أجرد هذا المستقبل من خصوصية أحداثه؛ لأن الماضي والمستقبل -على تباينهما- نسيج واحد، وإن اختلفت ألوان خيوط ذلك النسيج.
كما أنني لا أعتقد بتاتا بمقولة المحبطين:" ليس بالإمكان أبدع مما كان" لأن الفكرة الوليدة -على هذا التوصيف السلبي- ستفقد ديناميتها وتجددها، ولذلك ينبغي إزاء أي فكرة وليدة، الإصرار الذكي في أن تكون منطلقا جديدا لبلوغ كامل معالمها، وعليه؛ فليسأل كلٌ منا نفسه: هل أدركنا ما أحدثه الفعل الثوري من تهاوٍ في بنية النظام الكهل؟ وهل انتقلنا-فعلا- من ساحة النضال إلى ساحة تواصل النضال؟
بالرغم من التشابك الوثيق بين المراحل المختلفة التي تخللتها الثورة في اليمن التي طوتها جميعا مرحلة ما قبل التوقيع على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وكذا المراحل التالية لما بعد التوقيع، التي أولها تشكيل الحكومة، فإن لكل مرحلة ظروفها التي تميزها، وملامحها التي تطبعها، ودرجة حساسيتها التي تنفرد بها، ومع ذلك، فإن مرحلة تواصل النضال -هذه- إنما هي تتويج لسابقتها، وامتداد لجريان أيامها الثورية التي لم تبلغ المصب بعد، حيث ماتزال القيم الموجبة لمحصلتها المرجوة يتوقف تدفقها على إيقاع حراك شبابها المرابط في الساحات الثورية وفي المعاقل الأخرى للثورة.
لا يخفى على الجميع أن العقبة الكأداء التي ترنح عندها النظام هي الساحات الثورية؛ منطلقات الثوار وملعب حراكهم العاتي، التي حاول النظام منذ المراحل الأولى للعمل الثوري إفراغها من شبابها ومكوناتها الأخرى، ليسهل عليه تشتيتهم ومن ثم إجهاض ثورتهم، لكنه لم يستطع تحقيق غاياته تلك، رغم جبروته وقوته ومراوغته ومكره، ومن هنا؛ فإن بقاءها وتطوير آلية عملها هو الضمانة الأولى والحقيقية لاستمرار حيويتها، ولتحقيق أهدافها، ولدعم وتقويم الصوت المعبر عنها في تشكيلة الحكومة القادمة، بل إن إفراغ هذه الساحات من الشباب سيكون كارثي النتائج،- دون القياس على ما جرى في مصر- بل سيذكرنا تجاهل ذلك، بالخطأ الذي ارتكبه الرماة في غزوة أحد، وقد خالفوا أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمرابطة في الجبل وعدم البَراح، ولعل المبتغى التكتيكي قريب من ما يجري وإن اختلف الرجال.
كما إن مما يحدق بالعمل الثوري في هذه المرحلة؛ ما يتسرب من معلومات عن دوائر مقربة من النظام السابق، مفادها: وجود مساعٍ حثيثة من جانب رجاله لشراء الذمم والأصوات الصحافية والإعلامية التي دعمت وتدعم الحراك الثوري، والسعي لكسبها بشتى وسائل الجذب والإغراء، من خلال استغلال مسألة التجاهل المتوقع وغير المقصود لبعض عناصره في بنية النظام السياسي القادم، وبخاصة في أوساط الشباب المغمورين من غير المتحزبين، وهذه العملية على خطورتها، إلا أنها ستغربل الكثير من أصحاب الولاءات الوطنية المصطنعة واللاهثين خلف المغانم، عمن سواهم من راسخي المبادئ والقيم الوطنية التي لا تتزعزع.
وقد بدت ممهدات ذلك الاستقطاب في ما عرف بالعفو العام الذي أصدره الرئيس صالح عمن وصفوا ب"مرتكبي الحماقات خلال الأزمة" وذلك بعد أربعة أيام من التوقيع على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية في الرياض، في الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي، وستجد هذه الخطوة طريقها في ظل بقاء أحد دعامات الكيان السياسي للنظام السابق، وهو حزبه؛ المؤتمر الشعبي العام، الذي أعطته المبادرة الخليجية حصة النصف من مقاعد الحكومة القادمة، وزيادة عن ذلك كله؛ فإن الاستعداد المتوقع لمرحلة ما بعد التوقيع من جانب المؤتمر، سيكون بالغ الأثر في مجريات القادم، اعتمادا على خبرته الطويلة في صناعة الأزمات وإفشال الاتفاقات، بما يملكه من رجال في القاعدة التنفيذية الواسعة في مؤسسات الدولة، وما سيترتب عليه من حدوث أخطاء في هذه المرحلة في الجانب الآخر الظافر بالنصف الآخر من المقاعد بفعل الحراك الثوري.
في حقيقة الأمر، لم يعد من الصعب التنبؤ أو التكهن بالمزيد مما سيجري من أعمال الثورة المضادة في المرحلة الحالية، لاسيما أن المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية يكتنفها بعض الغموض الأمر الذي قد يدعم أدوات وأدوار وأجهزة العمل السياسي السابق، فضلا عن مسألة انتخابات الرئيس القادم في ظل مرشح توافقي واحد؛ هو النائب عبدربه منصور هادي، الذي سيعاني حرجا كبيرا بين كونه محط آمال كل الأطراف، وما هو مطلوب منه في مسألة لها اهميتها الكبيرة في مستقبل اليمن، ألا وهي إعادة هيكلة الجيش والأمن اللذين مكنا سلفه من التمسك بالكرسي الرئاسي أكثر من ثلاثة عقود.
وعلى ذلك، أتصور أن الرئيس صالح سيسعى لأن يجعل من هيكلة منظومتي الجيش والأمن أمرا غير ذي جدوى، وهذا بالطبع على افتراض إن تصل العلمية التغييرية إلى هذا الموقع وفق المبادرة الخليجية، وسيكون ذلك المسعى واضحا من خلال إحياء النزعة المتطرفة في هاتين المنظومتين تجاه الأحزاب الأخرى التي تشارك إلى جانب حزب المؤتمر في الحراك السياسي القادم، وفق الكيفية التي ستجري عليها تلك الهيكلة، ووطنية الأشخاص الذين سيوكل لهم ذلك.
ولذلك، يجب أن توضع منظومتا الدفاع والأمن بعيدا عن التوظيف السياسي لأي من طرفي العمل السياسي القادم، والسعي الحثيث لإعادة هيكلتهما وفق رؤية وطنية صرفة، وفي أقرب وقت، ما لم فإن العملية السياسية التي رمت إليها المبادرة وآلتها التنفيذية ستكون في مهب الريح، وسيعود معها الجميع إلى معترك دام آخر، ويموت معها الوفاق السلمي.
ربما يحسب البعض أن مثل هذا الطرح يبدو تشاؤميا ومبالغا فيه، لكن الماضي الذي خبِرنا به الرئيس صالح لعقود مضت؛ يجعلنا نأخذ برأي الهرثمي- صاحب الخليفة المأمون- حين قال: " اجعل الحذر رأس مكيدتك، فإنه قليل ما تكون عورة مع حذر، أو تضييع مع سوء ظن.." وما يبرر للثوار الحذر والحيطة، مفردات خطابات الرئيس صالح التي قال في بعضها: إنه إن خرج من السلطة، فإنه سيخرج إلى المعارضة عبر حزبه، ولكي يجعل من بقائه أكثر ارتباطا بحزبه قال في المؤتمر الذي عقده الحزب بعد عودته من الرياض قبل التوقيع على المبادرة: إن رحيله عن السلطة يعني رحيل المؤتمر الشعبي العام، ثم وضع رقما خرافيا عزاه إلى تعداد منتسبي حزبه الذين زعم رحيلهم عن السلطة رحيل الحزب!!
أما النائب عبد ربه منصور هادي؛ فإن عليه مسئولية وطنية كبرى، سيذكره التاريخ فيها بما سيقدمه لهذا الوطن في هذه المحنة، وهو الآن مازال يخطو طريق تنفيذ المبادرة -كما يبدو لي- على نحو خطو موسى-عليه السلام- مع إحدى ابنتي شعيب -عليه السلام- وهما في طريقهما إلى أبيها يوم أن دعته إليه، حين كانت تسير خلفه وتوعز إليه أن يمضي يمينا أو يسارا، حتى بلغا الدار، لكن الفارق بين المشهدين أن قصة من مضى الاستدلال بهما قد وصلا بسلام إلى دار شعيب، في حين يظل مشهد الوصول اليوم إلى البيت اليمني الآمن محاطا بكثير من الحيل والمكر السياسي، وحتما؛ لن يفلح الساحرون!!
*باحث في شئون النزاعات المسلحة والبيئة