تتشعّب وتتعثر العملية الانتقالية التي يقودها الرئيس عبدربّه منصور هادي في اليمن. وفي موازاة ذلك، يتبدّى أنّ الرئيس السابق علي عبدالله صالح سيمضي إلى ما لا نهاية في المناورة، وربّما في الرهان على العودة إلى قصره وقضم السلطة مرة أخرى. وهذا، بطبيعة الحال، ما يزيد التعقيد اليمني تعقيداً، خصوصاً في انعكاس ذلك على التغيرات التي يُفترض أن تطرأ على أدوات السلطة وولاءاتها وأدائها لوظائفها المفترضة. وأبعد من ذلك ما يطال طبيعة الثورة اليمنية والإنجازات التي حققتها، والآفاق المفتوحة أمامها.
لكنْ في هذه الغضون يلوح أنّ الثورة والوضع الذي نجم عنها يملكان خصوصية أخرى ربّما كانت أهمّ وأعمق أثراً من أيّ اعتبار آخر. إنها مسألة الجنوب اليمني المزمنة والبالغة الحساسية.
فمجدّداً تبنى "المؤتمر العام لقوى الحراك" الجنوبي مبدأ الانفصال عن دولة الوحدة التي قامت منتصف 1990، مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الحكم الشيوعي في عدن، داعياً إلى "تحرير الجنوب" من "الاحتلال اليمني" الذي بدأ، بحسب الرواية الجنوبية، مع حرب 1994 التي أخذت الجنوب غزواً وعنوة. وهذا موقف ليس جديداً على أيّة حال، وإن كان التمسك به بعد الثورة يعطيه عمقاً إضافياً يتعدّى الموقف من سلطة سياسية بعينها في صنعاء.
وجدير بالذكر أنّ تظاهرات شعبية في الجنوب كانت قد سبقت انعقاد المؤتمر الحراكي إيّاه، رافعة شعارات الانفصال وتفكيك الوحدة، وهو ما أريد منه الإيحاء بشعبية الشعارات المذكورة، بل بانعقاد أوسع إجماع جنوبي حولها.
إذن، من الطبيعي ألا يشارك مؤتمر الحراك الجنوبي، مدعوماً بإرادة شعبية جنوبية، في "الحوار الوطني" الذي دعا إليه الرئيس منصور هادي، والذي عُوّل عليه أن يكون قاطرة الانتقال إلى يمن ما بعد علي عبدالله صالح. وأهل الجنوب تالياً، وتبعاً لهذه الصورة، لا يعتقدون أنّ إطاحة عبد الله صالح (كائناً ما كان معنى هذه الإطاحة) هي نهاية المطاف بالنسبة إليهم، إذ أنّ مطلبهم هو "الاستقلال" عن كلّ سلطة تقيم في الشمال.
لكنّ الحراك نفسه حراكان اثنان على ما يبدو، وإن كان الرئيس الجنوبي السابق علي سالم البيض يرفض هذه النظرية جملة وتفصيلاً. فقد أوردت بعض الصحف أنّ البيض دعا إلى تأجيل انعقاد المؤتمر في انتظار "تهيئة الأجواء وحلّ الخلافات بين الأطراف والفصائل السياسية" المنخرطة في المعارضة. فحين انعقد المؤتمر غاب أنصاره عنه ليرتبط النشاط باسم رمزه الآخر حسن الباعوم، رئيس المجلس الأعلى للحراك.
والباعوم، مثله مثل سالم البيض، نشأ في البيئة السياسية لـ"الجبهة القومية" التي تفرّعت عن "حركة القوميّين العرب" في الستينيات، وكان من يتولى رعاية صعوده الحزبي ثمّ السياسي الرئيس الجنوبي الراحل سالم ربيع علي. ومع الوحدة في 1990 عُيّن الباعوم مستشاراً لمجلس الرئاسة برتبة نائب لرئيس مجلس الوزراء. لكنه، في حرب 1994، قاتل القوّات الشمالية من موقعه في محافظة شبوة، وأصيب في القتال. وبعد مشاركته في تأسيس "تيّار إصلاح الوحدة اليمنية"، اعتقل في 1997، ثمّ تعرّض لمحاولة اغتيال في 1998. وبالتدريج راح موقفه يتجذر بحيث انتقل من العمل على "إصلاح الوحدة" إلى السعي لإنهائها وتفكيكها و"استقلال الجنوب". وفي 2007 اعتقل الباعوم مجدّداً، قبل أن تخطفه السلطات إبّان الثورة.
وقد تردّد في الصحف مؤخراً أنّ الخلاف (الذي ينفيه البيض) قد نشب بين رفيقي الأمس بعد ظهور اتهامات للبيض بتلقي معونات إيرانية. وهذا ما يسمح بالقول إنّ الخلاف الجنوبي- الجنوبي، والحراكي- الحراكي، إنما يملك، فضلاً عمّا قد يكون له من أبعاد أهلية وداخلية، بُعداً إقليمياً يتصل بالاستقطابات الحادّة في الخليج بين ضفتيه العربية والإيرانية. وهو ما يؤجّجه، بطبيعة الحال، ما بات يُعرف ب"الملفّ النووي" لطهران والمخاوف التي يثيرها لدى جيران إيران من العرب.
ولا تقتصر لوحة اليمن، لاسيّما جنوبه، على تلك التعقيدات البالغة. ذاك أنّه في أواسط يونيو الماضي وجّه الجيش اليمني ضربة موجعة لمسلحي "القاعدة" وذراعها العسكرية المحلية، جماعة "أنصار الشريعة"، في محافظة أبين الجنوبية، كما تمكّن من دخول زنجبار، عاصمة المحافظة، ووضع اليد عليها للمرّة الأولى منذ احتلال المسلحين المتعصّبين لها في مايو 2011.
وبسبب الوضع الجغرافي والاستراتيجي البالغ الحساسية لجنوب اليمن، فإنّ نفوذ "القاعدة" هناك لن يكون أمراً يقبل التسامح معه، أو الانحصار في نطاق جغرافي ضيّق يتجاهله العالم والقوى الغربية تحديداً.
كذلك، وقبل أيّام، كشفت الحكومة اليمنية ما قالت إنه تفاصيل جديدة عن خلايا تجسّس إيرانية في اليمن، تمّ الإعلان عن تفكيكها قبل أسابيع، وأكد منصور هادي أنّ طهران تدعم بالمال والسلاح جماعة "الحوثيّين" في الشمال وفصائل "الحراك" في الجنوب.
ويضاف إلى ذلك كله شبح الاغتيالات الذي يذكر اليمنيّين بالموجة التي شهدتها سنة الحرب في 1994. فقبل أقلّ من أسبوعين جرت محاولة لاغتيال الأمين العامّ للحزب الاشتراكي اليمني ياسين سعيد نعمان الذي لا يزال يؤيّد الحفاظ على الوحدة. وفي الوقت نفسه تقريباً تعرّض وزير النقل اليمني واعد باذيب لمحاولة اغتيال أخرى حصلت في عدن.
وفي هذه المعاني جميعاً يقف اليمن، لاسيّما الجنوب، في محطة وسطى بين النموذجين الليبي (حيث أمكن، حتى إشعار آخر، ضبط التناقضات الجهوية والمناطقية) والسوداني (حيث انفصل الجنوب، عبر استفتاء شعبي عن الشمال وأقام دولته المستقلة).
ولكنْ كائناً ما كان الأمر، يبقى القلق على اليمن في محله. وليس من المبالغة القول إنّ الاحتضان الواسع لما يريده سكّان الجنوب، والعمل على أن ينشأ هناك وضع سياسي يختارونه، ويكون مشرعاً على الديمقراطية، هو ما يسدّ الطريق على فراغات سياسية وأمنية أكبر تهدّد الجميع ولا يستفيد أحد منها.