آراءأرشيف الرأيالفكر والرأي

اليمنيون في ميزان الفكر الهادوي!!

(1)
لأن جزءا كبيرا من تاريخ الحكام الهادويين في اليمن كان ملطخا بالحروب والدماء والقتل والتخريب؛ فقد اهتم مؤرخون من الأتباع عند كتابة تاريخ الأئمة بفبركة شيء من الأخبار الغريبة، والبطولات الكاذبة، والإنجازات الوهمية.. وتطرف بعضهم لتبرير ذلك التاريخ الدموي بإلصاق تهم الكفر والزندقة والفسق بخصومهم من اليمنيين وغير اليمنيين؛ حتى تبدو الأعمال الهمجية للأئمة بأنها مبررة ومقبولة شرعا لأنها نصرة للدين الحنيف! وإذا كنا سنأتي مستقبلا لاستعراض صفحات من ذلك التاريخ الدامي؛ إلا أننا اليوم سنستعرض ما نظنه الأساس العقدي أو الفكري الذي أنتج قرونا من الدماء والصراعات المأساوية التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد على رؤوس اليمنيين!

وقد مرَّ بنا في الحلقة الثانية كيف وصف(علي بن محمد بن عبيد الله العلوي) مؤلف سيرة الهادي يحيى بن الحسين الأمة الإسلامية –دون تفريق بين الحكام والمحكومين من سواد الأمة- بكل نقيصة بدءا من الحسد لأهل البيت وانتهاء بالكفر بربهم ونقض كتاب خالقهم ومرورا بإتباع الهوى...إلخ. وفي سيرة الهادي لمؤلفه الذي عاصره وشارك في حملاته؛ نماذج عديدة من الأقوال والأوصاف والحكايات التي تتماهى مع المشهور من تراث غلاة الشيعة والخوارج في استحلال تكفير المخالفين والمنافسين ؛وحتى العامة الذين لا حول لهم ولا إرب لهم في السلطة والملك؛ واتهامهم بما يشين كرامة المسلم وعرضه فضلا عن استحلال قتلهم، وسبي نسائهم، ونهب أموالهم وتخريب ممتلكاتهم! وكل ذلك ورد في سيرة الهادي ؛وسير عديد من الأئمة؛ على سبل المباهاة والتفاخر وربما التقرب إلى الله كقول مؤلف سيرة الهادي عن أبيه ص40 (ما كنا ننزل منزلا إلا خرج يحيى بن الحسين حتى يتنزح منا ساعة ثم يبكي وينتحب كما تنتحب المرأة الثكلى على الإسلام وعلى الأمة الضالة المضلة!!) ولذلك حفظت تلك المؤلفات للتاريخ صفحات دامية سوداء بأقلامهم وأقلام الأتباع فضلا عما سجله الآخرون من المؤرخين!

(2)

ومن تلك النماذج مثلا ما هو مسيء للشرف والعرض عند اليمنيين وغيرهم، ولا ندري كيف سوغوا لأنفسهم نشره فضلا عن تصديقه؛ فقد جاء في سيرة الهادي من وصف لحال مجموعة من اليمنيين في منطقة تسمى (بيت ذؤد) كانت بيد الدعام بن إبراهيم بالقرب من (أثافت)؛ زعم المؤلف أن بعضا من أهل تلك المنطقة جاءوا إلى الهادي يشكون مما يفعله جند الدعام الذين وصفوهم بأنهم (فسّاق، يشربون الخمر، ويركبون الذكور، ويفجرون بالنساء علانية...) حتى يصل الأمر إلى ما هو أنكى؛ إذ ينقل كاتب السيرة عمن يصفهم بالثقة (إنه كان في عسكر الدعام في بيت ذؤد أربعمائة امرأة فاجرة يظهرون الفجور علانية لا يستترون بذلك بل يتحاكم العسكر فيهنّ إلى سلاطينهم وعمالهم، وكانوا كل عشية يجتمعون إلى باب سلطانهم الفاسق فيلعبن بين يديه، وينشرن شعورهم، ويبدين زينتهن، ويظهرن محاسنهن، ويلبسن أرق ما يقدرن عليه من الثياب ليبدو ما خفي من أبدانهن فيأتي العسكر فإذا هوى الرجل منهم واحدة دفع إليها دراهم بحضرة من يحضر معهم؛ فلعلها لا تروح إليه تلك الليلة، فإذا أصبح أتى إلى السلطان وأعلمه أن ملعونته لم ترح إليه وقد أخذت دراهمه فيأمر السلطان عند ذلك بأدبها وبأن تصير إلى صاحبها...)(1)

وصحيح أن وجود المنكرات في مجتمع مسلمين ليس مستبعدا لكن أن يكون على هذه الشاكلة وفي ذلك الزمن في نهاية القرن الثالث الهجري فأمر يرجح وجود قصد سياسي وراءه .. ولاحظوا كيف أن مجرد منطقة يطلق عليها (بيت ذؤد) وليس مخلافا أو عاصمة كبغداد أو حتى صنعاء.. و مع ذلك كان يوجد فيها (400) امرأة محترفة بغاء وكأنها لوس أنجلوس! فكم إذن كان عدد النساء العفيفات؟ وكم كان سكان المنطقة أصلا بذكورهم وإناثهم، كبارا وصغارا.. المدنيين والعسكر؟ وأعرف أن هناك من سيحاول أن يدافع عن صحة الحكاية، وأنه لا يمنع من أن تكون (بيت ذؤد) مدينة كبيرة عامرة بالسكان الشرقاء وقليلي الدين على حد سواء.. لكن ما رأيكم في أن سيرة الهادي نفسها تورد في نفس الموضع حكاية تندرج ضمن تزييف وعي الأتباع لكنها تشكك بطريقة غير مباشرة بأصل الحكاية؛ إذ تزعم أن الهادي عندما وصل إلى (أثافت) وجاءه أهل بيت ذؤد –هكذا بدون تحديد عددهم وهل كانوا وفدا أم جماهير حاشدة!- يستغيثون به من منكرات الدعام وعسكره المذكورة سابقا؛ فما كان من الهادي إلا أن (وجه معهم رجلا من بني عمه) إلى بيت ذؤد للأمر بالمعروف وإزالة ذلك المنكر العظيم.. فخرج جميع من كان هنالك من ولاة الدعام من البلد (لاحظوا: صيغة الجمع: ولاة وليس واليا واحدا) فأمر مأمور الهادي بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونفي الفواحش!

هكذا ببساطة شديدة لا مثيل لها.. يصل مندوب واحد من الإمام ( لم يكونوا خاضعين له لكيلا يقال لنا إن الإمام أحمد كان يرسل عسكريا واحدا فتخضع له قبيلة بكاملها!) مع الشاكين فيخرج الفسقة الولاة وحشمهم وخدامهم والعسكر (وبالتأكيد خرجت معهم الـ400 فاجرة فليس من المعقول أن تنزل عليهم الحشمة فجأة ويبايعن مندوب الإمام بمجرد وصوله على الأمر بالمعروف ونفي الفواحش) ويتركون القرية أو المدينة أو الامبراطورية سلما بلا حرب ولا معركة صغيرة أو حتى مناظرة سريعة يدافعون فيها عن مسلكهم ووطنهم.. بل ولم يصنعوا كما فعل الملأ من مستشاريي وقادة بلقيس عليها السلام عندما طلبت مشورتهم في طلب نبي الله سليمان عليه السلام أن يتركوا دينهم ويؤمنوا بالإسلام.. فصحيح أنهم فوضوا ملكتهم باتخاذ القرار إلا أنهم على الأقل لوحوا لها بأنهم أصحاب قوة وبأس شديد على استعداد للقتال إن رأت ذلك!

وهل يعقل أن العسكري اليمني الذي يشارع السلطان –بلا حياء ودين- من أجل امرأة بغي أخذت نقوده ولم تلتزم له وتفي بوعدها؛ يترك (بيت ذؤد) هو وآلاف العساكر (من الضروري أن يكونوا آلاف؛ فإذا كان عدد البغايا 400 فكم سيكون عدد الزبائن وغيرهم مما تحتاجهم هذه الصناعة المزدهرة؟) ويخرجون تاركين مدينة ألف ليلة وليلة بدون قتال؟

وفي سيرة الهادي حكاية أخرى في هذا السياق لكنها أشد هولا، وأخجل من إيرادها هنا، وهي موجودة في صفحة 125في خبر أهل الأعصوم –على مقربة يوم من خيوان- مما لا يتخيل أن يفعله الملاحدة فضلا عن مسلمين من الأفعال القبيحة حتى أفتى الهادي أن قتالهم مقدم على قتال الروم!

[ ولعل مما يشكك في رواية انتشار الفجور في (بيت ذؤد) ما أوردته سيرة الهادي عن كرامة منسوبة للهادي نفسه مع (بيت ذؤد) إذ يقول المؤلف نصا: سمعت رجالا من أهل اليمن من موضع يقال له: بيت ذؤد تقول ليحيى بن الحسين: يا بن رسول الله وردت بنا في سفرك الأول فبايعناك فدعوت الله لنا أن يكفينا الفتنة؛ فما رأينا بعدك فتنة! ولقد كانت الفتن حولنا فما رأينا إلا خيرا ببركة دعائك لنا!](2).. فها هم بيت ذؤد يقرون أنهم عاشوا في خير وبلا فتن بفضل دعاء الهادي لهم عند مروره بهم في خروجه الأول لليمن 280ه.. فمن أين إذن جاءت حكاية فساد سلطانهم وعسكره وال400 بغي إلخ الحكاية؟ أمر من اثنين: إما والحكاية مختلقة وإما أن هناك (بيت ذؤد) أخرى، وهو أمر يحتاج إلى إثباتات قاطعة لا تحتمل الرد.

(3)

بصورة معتمدة يتحدث الهادوية الأوائل على أن دخول الهادي إلى اليمن كان بمثابة إدخال لليمنيين إلى الإسلام أو إعادتهم للإسلام الصحيح(!) أو كما اشتهر عن القاضي أحمد بن صالح أبو الرجال قوله: (نعمتان في الإسلام –أي على اليمن- الأولى الإمام الهادي الذي أنقذهم من المذهب الباطني والجبر والتشبيه، والثانية: القاضي جعفر الذي أنقذهم من مذهب التطريف)(3)

ودعونا من الحديث التقليدي عن صعدة وما حولها وكأنها اليمن شاملا كاملا.. فالثابت أن لا اليمن ولا المناطق التي كانت مسرحا أساسيا لسلطان الأئمة الهادوية عرفت الأمن والاستقرار بفعل مجيء الهادي أو إدخال كتب الفكر المعتزلي.. ولم يستوطن المذهب الهادوي في مناطقه المعروفة إلا بعد مئات السنين من الحروب والهيمنة ونشر المذهب بقوة الدولة الداعمة له! وظل الجزء الكبير من اليمن على مذهب أهل السنة والجماعة: عقديا وفقهيا لا يعترفون للأئمة بنعمة بل بنقمة، ووجد من يرد على بشارة القاضي أبوالرجال بما يعاكسها مضمونا، وهو الرأي الوارد عن المؤرخ اليمني/ عمر بن أبي سمرة الجعدي صاحب كتاب/ طبقات فقهاء اليمن بقوله: إن اليمن أصيبت بظهور فتنتين: الأولى ظهور القرامطة بقيادة علي بن الفضل –وهم إحدى فرق الشيعة الغلاة- والثانية: ظهور الإمام يحيى بن الحسين!(4)

ونجد هنا أنه من المفيد الاستدلال في هذه المقام بكلام باحث مثل الدكتور/ أحمد علي مطهر المأخذي في دراسته وتحقيقه لكتاب/ منهاج الوصول إلى معيار العقول في علم الأصول للإمام/ المهدي أحمد بن يحيى المرتضى؛ حيث أقر بأن ( اليمن لم ير الاستقرار السياسي، ولم ينعم بالأمان والرخاء منذ أن انفصل عن الدولة العباسية أيام الخليفة المعتمد بالله.. حتى يصل إلى القول: وإن المناطق الزيدية لم تكن بأقل سوءا من المناطق الأخرى، فقد تنافس الأئمة فيما بينهم على الإمامة، وشن المتنافسون دائما وأبدا !! حروبا ضد بعضهم البعض بحيث تكون الغلبة لمن هو أقوى، وهذا التنافس والصراع على السلطة قد جعل البلاد غير مستقرة وغير آمنة..)(5)

[ للتذكير فقط؛ فإن تهمة (الجبر والتشبيه) توجه عادة لأهل السنة، وأهل اليمن كما سلف كانوا عند مجيء الهادي في أغلبهم إن لم يكونوا كلهم من أهل السنة وما يزالون. وما يزال غلاة الهادوية الجارودية حتى اليوم يرمون مخالفيهم من اليمنيين بأنهم أهل جبر وتشبيه – أي يعتقدون أن الإنسان مجبور على فعل الخير والشر بلا إرادة واختيار منه، ويشبهون الله تع إلى بالمخلوقين في صفاته- ويصنفون عادة في كثير من كتب المذهب بأنهم: كفار تأويل.. حتى أراد الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم أن يعاملهم كذلك عند توليه السلطة وليسوا كمواطنين كما هو متداول الآن؛ فيفرض عليهم دفع الخراج مثل غير المسلمين!](6)

(4)

وفي مواطن عديدة سوف نجد في صفحات التاريخ الهادوي إشارات واضحة على أن الهادي كان يعد نفسه وأنصاره هم المسلمون وخصومه شيئا آخر.. أو كما أورد كاتب سيرته:

- (سمعته يوما يقول: والله ما دعوتنا هذه إلا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم مثلا بمثل.. حتى يقول: ما يمنع أهل الأموال من القيام معنا إذا أخذنا ما يجب عليهم، وما يمنع الفقراء! من القيام معنا إذا لم نستاثر بشيء من الأموال دونهم؟ والله ما يمنعهم من ذلك إلا ما منع من كان قبلهم من القيام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وما يمنعهم إلا أن دعوتنا مثل دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم!! )(7)

( وسمعته مرة يقول: والله ما أعلم اليوم راية مثل راية بدر إلا رايتنا)(8)

( والله لأن ثني لي الوساد واستوت لي البلاد ليعبدنّ الله حقا حقا.. ولأظهرنّ دين محمد عليه وعلى آله السلام على الاستواء..)(9)

ووصف مؤلف سيرته أتباع الهادي وخصومه ( واقتتلوا حتى وقع بينهم قتلى فقتل من المسلمين رجل من همدان من العهرا – من أتباع الهادي- وقتل من أصحاب الدعام رجل..)(10).. وفي إحدى الوقائع كان رجل يرجم الهادي بالحجارة فقال لرجل من أصحابه: خذ هذا السهم فارم به هذا الكافر(11)!

الهوامش:

1- سيرة الهادي ص 94.
2- نفسه ص65.
3- انظر مثلا هامش 1ص49من الفروق الواضحة البهية للعلامة محمد الكبسين ولوامع الأنوار للعلامة مجد الدين المؤيدي، جزء 2 ص37.
4-انظر هجر العلم ومعاقله في اليمن للقاضي إسماعيل الأكوع، جزء1 ص119.
5- منهاج الوصول إلى معيار العقول في علم الأصول للإمام المهدي أحمد المرتضى، تحقيق ودراسة الدكتور/ أحمد علي المأخذي،ط1،ص24و25.
6- انظر التاج المذهب في أحكام المذهب للقاضي/ أحمد قاسم العنسي، الجزء الرابع عند الحديث عن أحكام الردة وحكم المرتد فقد جاء في ص497 ( واما الكافر المتأول كالمجبر والمشبه ونحوهما فعند أهل المذهب أنه كالمرتد لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف.... وقيل بل هو كالذمي.. وقيل بل حكم المتأول كالمسلم في أحكام الدنيا في قبول شهادته وخبره ويدفن في مقابر المسلمين ويصلى خلفه ونحو ذلك وله حكم الكفار في الآخرة فقط!!
7- سيرة الهادي ص49.
8- نفسه ص50.
9- نفسه ص52.
10-نفسه ص97.
11- نفسه ص104.

زر الذهاب إلى الأعلى