حتى مصر،الدولة الأقدم في التاريخ،لم تسلم من زمن الأحلام الصغيرة،والأرواح البليدة،بعد أن كانت منجماً للأحلام الكبيرة،والعقول العظيمة عبر عشرات السنين.
فقد أعلن بعض أهالي مدينة بورسعيد عن نضالهم من أجل الاستقلال عن جمهورية مصر العربية!.. وقبل ذلك،أعلن بعض شباب النوبة عن تشكيل تجمع سياسي يطالب باستقلال النوبة في جنوب مصر!..
بورسعيد غاضبة مشتعلة في الأساس بسبب أحكام القضاء الخاصة بضحايا النادي الأهلي في ملعب بور سعيد..بينما يشعر بعض النوبيين بالغبن والحرمان نتيجة ما يعتقدونه إهمالاً لهم من قبل الحكومات المصرية المتعاقبة!
وفي الواقع أن الدعوتين الغريبتين هما مجرّد عَرَضٍ من أعراض الحمّى الخطيرة التي تجتاح المنطقة بعد سنتين من زلزال ثورات الشباب العربي,.. وإذا كان الزلزال قد هدأ،فإن الإعصار الذي أعقبه ما يزال ثائراً عاصفاً،يوشك أن يأخذ في طريقه كل شيء! وما كان لذلك أن يحدث إلاُّ بسبب الحكام الذين ملكوا كل شيء إلاُّ قلوب شعوبهم!
أهي نوبة حمّى،أم عاصفة جنون؟!..
مهما تكن الإجابة،فإن الحقيقة المحزنة هي أننا نعيش زمن الأحلام الصغيرة، والعقول البليدة، والأرواح العاجزة التي لا تطير أو تحلّق أبداً لأنها في الأساس بلا أجنحة!
كان المرحوم الأستاذ أحمد حسين المروني -الثائر والشاعر ورجل التنوير- يرفض السخرية من أحلام العصافير، قائلاً: "إنها تطير، وتحلّق،وتغرّد"!
والأجدر أن نَسْخَرَ من أحلام الصراصير! التي لا تكاد تغادر عفونة أماكنها، وإذا غادرت فإنها لا تعرف إلى أين!.. إنها تهيم على وجهها،ث م ما تلبث أن تنقلب على ظهرها لأتفه الأسباب,.. وتموت!".
كان الأستاذ المروني يعتقد أن الوعي والمعرفة هما سبيل اليمنيين للخلاص من الجهل والتخلف ،وما زلت أتذكر سخريته البديعة من الإعلام الذي لا يقوم بواجبه التنويري،قائلاً بلهجته خفيفة الدم: "ما قد معانا من الإعلام إلّا إعْ بس!.. وما قد معانا من التلفزيون إلا التلف بس!".
نعم، لا خلاص لليمنيين إلا بالوعي والمعرفة.. الوعي بالذات، والمعرفة بالعالم,.. وكما أن الوعي مرتبطٌ بالفهم، فإن المعرفة مرتبطة بالعلم، وفي كل الأحوال فإن الوعي سابقٌ على المعرفة.. بمعنى أن الوعي بالذات سابق على المعرفة بالعالم. وإذن،فلا معرفة دون أن يسبقها وعيٌ وفهم! لذلك،فإن معركة الفهم محتدمة الآن في اليمن،بشراسةٍ لم يسبق لها مثيل،ومن علامات هذه الشراسة ضرب الكهرباء، والإنترنت، والألياف الضوئية! أي ضرب كل ما له علاقة بالضوء.. أي بالفهم!
لا بُدّ-حسب الخطة- أن يغرق المواطن في الظلام، والجوع، واللامبالاة، والدراجات النارية! وبذلك فإنه لن يفهم! وربما كفر بكل ما قد فهمه وآمن به منذ سنوات.. وهذا هو الحاصل! لا يريدون لإنسان هذه البلاد أن يفهم وأن يعرف،لأنهم يريدونه عقلاً فارغاً يمكنهم ملؤه بما يريدون,..
يريدونه قاطع طريق محترفاً،أو مهرّجاً في المهرجانات المضحكة المبكية،وفي أحسن الأحوال،مجرّد كومة لحم تمشي على قدمين لا تعرف عدوّها من صديقها,.. ولا تعيش حاضرها، ولا تسأل عن مستقبلها..،ولا حقيقة الحلول لمشاكلها!
لا يريدون لإنسان هذه البلاد أن يفهم وأن يعرف، لأنهم يريدونه حجر عثرةٍ لكل حلم، وحفرةً قاتلة لكل أمل.. يريدونه ثائراً من أجل قريته، أو محافظته كي تعمّ الفوضى، بدل أن يكون ثائراً من أجل شعبه كله، طالباً العدل، والمساواة، والقانون والنظام على الجميع وللجميع.