في مصارعة الثيران ثمّة مؤامرة مُعْلَنَةٌ يتم تنفيذُها أمام الجميع ، قبل أن تبدأ اللعبةُ القاتلة . إنها أشبه بفترة انتقالية تُهيّئُ الثورَ بإرهاقه وإنهاكِهْ ، وتُكسِّرُ قُرونَ عِنادِهْ ، وتحدُّ مِنْ جُمُوحِ طِرَادِهْ ، وتهدُّ مَتْنَ قُوّتِهِ وزِنادِهْ ،.. كي يصبح مجرّد نعجةٍ سائمة ، لِجَوْلةٍ قريبةٍ قادمة !
والحكايةُ تبدأ فور دخول الثورِ الجامح الثائر إلى الحَلَبَة ، ليجد أمامه حصاناً مُدرّعاً بالحديد ، يَعْتَليْهِ رجلٌ يحملُ حَرْبةً هائلةً ، ومهمّته أن يُنْهِكَ الثورَ ، ويُدميه بالطّعن المُوغِلِ في سِنامِهِ الضخم ، وتِرْقُوَتِهِ النافرة .. يحدث ذلك قبل أن تبدأ اللعبة !.. وما إن يُكمل الرجلُ مهمّته حتى يغادر الساحة بحصانه وحربته البشعة ، وليدخل فارسٌ آخر كأنّهُ هُوَ !.. ذو لباسٍ أبيض موشّى بالذهب ،.. يدخلُ مختالاً كملك ، حاملاً الخِرْقَةَ الحمراءَ في يَدْ ، والسّكاكين الطويلة اللامعة في اليد الأخرى ! بينما يقف الثّورُ المنهَكُ مغتسلاً بدمائه وحيرته ، وبالكاد تحمله قوائمه ! والغريب أن تشتعل أكُفُّ النخبة الصّاخبة بالتصفيق للفارس الذي يتبخترُ متراقصاً أمام ثورٍ مُدَمّى .. نِصْفَ ميّت !
وتبدأ اللعبةُ غير المتكافئة ، بين الثور المُثْخَنِ بالجراح ، وسكاكين الفارس اللامعة ،.. وبالطبع ، فإن النتيجة تصبح من قبيل تحصيل الحاصل ! فالثور المسكين يظلُّ يلاحق بلا جدوى ، خِرْقَةَ أحلامه القانية الحمراء المتوهّجة في يَدِ الفارس الذي يُلوِّحُ لَهُ بِها مُخادِعاً ، متراقصاً ، مُتنقّلاً ..مقترباً .. مبتعداً !
حتى أنّه في لحظة غرور يُوْلي الثورَ ظهره غيرَ خائفٍ منه ، أو حتى ناظرٍ إليه ! ولتنفجر النُّخبة الحاضرة تصفيقاً ، وتصفيراً ، وتقف مهلّلةً مبهورةً بالفارس السّاطع بنياشينه وسكاكينه !..
وحينها ، يكون الثورُ قَدْ كفَّ عن الحركة إعياءً ويأساً !
ثم إنّهُ لم يعد يرى شيئاً !.. فهو لا يُفرّق بين خِرقَةِ الأحلام الحمراء ، وسكاكين الفارس البيضاء !.. بين سياج الحَلَبَة وهياج النُّخبة !..
بين السّكاكين تَنْغَرِزُ في لَحْمِه ، وصيحات الغضب تَنْغَرِزُ في أذنه !..
إنّ عينيه غائمتان مكسورتان ، وَ رُوْحَهُ دائخةٌ هامدة بعد أن أصبح كل شيء أمامه يدورُ ويدورْ .. الساحةُ ، والفرسان ، والأصوات والألوان والوجوه والسكاكين .. الأرض والسماء .. كل شيء يدور ويبعث على الغثيان !..
وفجأةً ، يشعر أنّ الظلام يغمُرُ كلّ شيء .. السّكاكين فقط تلمعُ كأنيابٍ جائعة ، بينما الصّخَبُ يَرُجّ المكان ، والفوضى تصبح هي النظام !
يقف الثور لاهثاً ، مستسلماً ، غائماً بين الحياة والموت .. وينظر إلى خيال الفارس الذي يتراقص أمامه داعياً له بما يشبه الرجاء ، وبلسان حالٍ يوشك أن يقول .. أرجوك .. أعرف ما تريد !.. تعال وخلّصني من العذاب .. وقطّع كيف ما تشاء !.