من الأرشيف

حتى أنتَ يا بروتس!‏

كانت الخناجر تلمع، والطعنات تتوالى، بينما يوليوس قيصر لا يعرف كيف يتّقي الطعنات ‏التي تنهمر عليه من كل الجهات!.. كانت الصدمةُ قد عقدت لسانه، وشلّت كيانه، وهو يرى ‏أصدقاءه يتناوشونه بخناجر الغدر، ويتناهشونه بسيوف المؤامرة!.. كان القيصر يتهاوى حين ‏أحسّ بطعنةٍ تُوْغِل في ظهره،.. وعندما التفتَ ممسكاً باليدِ الغادرة، صرخَ من هول المفاجأة! ‏فقد كانت يَدَ حاجبه وأمين سرّه بروتس!.. نظرَ في عيني حاجبه وأمين سرّه غير مصدّق ‏صارخاً بعبارته المشتعلة بالألم.. حتّى أنت يا بروتس!‏

أما أنا فقد صرخت قبل أيام وأنا أتابع لقاءً تلفزيونيا مع الدكتور أحمد عوض بن مبارك أمين ‏عام مؤتمر الحوار الوطني عشيّة ذكرى سبتمبر العظيم! وهو يقول: "إن الأزمة في اليمن ‏ليست أزمة سياسية.. بل هي أزمة هُويّة"!.. صرختُ ملءَ أحزان الوطن وجراحه.. ملء ‏عيون الشهداء وأحلامهم.. صرختُ ملء ذلك الليل الموحش الصامت : حتى أنت يا عوض!.. ‏علينا العوض وعلى الوطن السلام!‏

في اليمن أزمة هويّة! تقول ذلك بلا مواربة أو دبلوماسية وأنت الذي يجيد مضغ الكلام ‏وتقليبه! كأنك تُشرْعِن للقادم، وتمهّد للمجهول الذي أصبح معلوماً..! لو سمعك سائق سيارة ‏أجرة في لبنان لضحك وأضحك! أو سمعك حلاقٌ في الجزائر لبكى وأبكى!.. في اليمن أزمة ‏هويّة!.. لم يقُلها أحد عبر خمسة آلاف سنة من عمر حضارة وثقافة هذا البلد!.. اليمن الذي ‏أعطى للعرب هويتهم يعيش أزمة هويّة!.. كيف ؟!.. كان الأحرى بك أن تقول.. النخب ‏السياسية تعيش أزمة معرفة بالوطن وثقافته الثريّة وبتاريخه الممتد عبر آلاف السنين.‏

ما نعيشه الآن أيها الأمين المبجّل ليس أزمة هويّة، بل أزمة انحطاط سياسي وإداري ‏وأخلاقي.. أزمة انحدرت حتى أصبحت أزمة سياسية من الدرجة العاشرة! وذلك أنها جمعت ‏كل موبقات العمل السياسي والحزبي المتخلف والمشخْصَن.. موبقاتٌ طاغيةٌ وحاضرة، وإذا ‏أردتَ أن أعدّدها فسأفعل! وإن كان يصعب حصرُها! ويكفي أن أشير إلى تحويل ثورة الشباب ‏إلى ثروة للمتقاسمين، وتحويل توحيد الجيش إلى نهب للمعسكرات ومخازن السلاح تحت ‏بصر وسمع الجميع!.. والضرب المستمر لنفط البلاد وثروتها، وكهربائها وطاقتها دون عقابٍ ‏لأحد! والارتهان للخارج كما لم يحدث من قبل.. ارتهان للأموال السرّية والسلاح المهرّب ‏ونفوذ السفراء ومجلس الأمن!.. حتى أننا استدعينا خبراء أجانب لكتابة الدستور الجديد!.. مع ‏أن الوطن العربي زاخرٌ بعلماء وفقهاء دستوريين وأفذاذ مختصين كان يمكن الاستعانة بهم.. ‏لكن الخبراء الأجانب لهم طعم مختلف!.. وفضيلتهم الكبرى أنهم لا يعرفون هويّة اليمن! ولا ‏يعرفون حضارته وثقافته وأدواره عبر التاريخ!.. وحتى أجور أعضاء مؤتمر الحوار بالدولار ‏بلا حياءٍ أو خجلٍ من الشعب الذي بات غير مصدّق ما يراه ويسمعه!.. حقّاً.. للجهل أن يتحدث ‏عن أزمة الهويّة ما دام الدولار هو الحاكم الفعلي في مملكة الموفنبيك!‏

لماذا تكريس هذا الهراء الذي يتحدث عن الهويّة اليمنية ؟.. ولماذا إهانة اليمن وتاريخه ‏وأدواره الحضارية؟.. مع أننا نعرف على وجه التأكيد أنه لا علاقة للهويّة اليمنية بأزمات ‏السياسة والسياسيين في اليمن.. كما أنه لا علاقة لفئران مأرب القديمة والجديدة بهويّة اليمن ‏الحضارية، فالشعب بات يعرف أنها لعبة في الظلام لتمرير مشاريع التقسيم والتقليم!‏

اليمن يعيش أزمة انحطاط سياسي لم يعرفها في تاريخه.. وهي كذلك لأنها أزمة نهْب ‏ونهّابين.. أزمة قسمة ومقتسمين، وفساد ومفسدين!.. أزمة نخبٍ تتقاتل على مصالحها الخاصة، ‏وتفتك بكل مقدّس وحلم وأملٍ وقيمة!.. تفتك حتى بالتاريخ والشخصية اليمنية!‏

كيف يجوز أن نحسب كل هذا الانحطاط السياسي على الشعب اليمني! الشعب الذي خرج ‏ثائرا بالملايين يطلب التغيير الحقيقي،.. ولم يكن في باله أبدا، أن يتم استغلال ثورته للتشكيك ‏في الهويّة اليمنية توطئةً لما وراء الأكمة!.. وفي الواقع أن ما وراء الأكمة أصبح أمامها ‏الآن!.. كل شيء أصبح ظاهرا وفاقعا وفاجعاً.. وكأننا في مهرجانٍ للعُري السياسي، أو كرنفالٍ ‏للجنون!‏

زر الذهاب إلى الأعلى