'نقف من الجميع على مسافة واحدة'.. مفهوم أو مصطلح طالما سمعناه يتردد في الأشهر الأخيرة من وزراء أو محافظين ومسئولين رفيعي المستوى؛ كان لوزير الدفاع اللواء محمد ناصر احمد النصيب الأكبر في استعماله ضمن أي حديث يتصل بموقف القوات المسلحة مما يجري في عمران وارحب وهمدان وغيرها من اقتتال ومواجهات دامية بين جماعة الحوثي من جهة وأفراد اللواء 310 وبعض القوى القبلية المحسوبة على التجمع اليمني للإصلاح..
وزير الدفاع حينما يقول إن القوات المسلحة تقف من الجميع على مسافة واحدة إنما يحاول أن يضع في أذهان الناس صورة طيبة عن الجيش الذي التزم الحياد ولم يميل إلى أي من طرفي الصراع على اعتبار أن المعارك الدائرة في عمران وبعض مناطق صنعاء هي من وجهة نظره لا تعني الدولة لأنها ليست طرفاً فيها ولا يد لها في إشعالها ولذلك فهي من تقف على مسافة واحدة من كل الأفرقاء في تلك الحرب العبثية التي يسقط فيها يوميا العشرات من الضحايا.
واذا ما كان الوقوف على مسافة واحدة سليماً من حيث المبدأ عند تعامل السلطة الحاكمة مع قضايا السياسة وأطرافها, فانه يتحول إلى تعبير فج يسئ إلى سمعة الدولة ومكانتها اذا ما تعلق الأمر بحالة حرب طاحنة بين فريقين ينتميين إلى هذه الدولة سواء كانت المواجهات بين الحوثيين والجيش أو الحوثيين والإصلاح, فما دام وهناك حرب فان واجب الدولة إيقاف نزيف الدم وردع وزجر كل من يحاول العبث بالسكينة العامة وأعادته إلى جادة الصواب وأي قول بالوقوف على مسافة واحدة إنما يعني الهروب إلى "اللا موقف" وإظهار الدولة في حالة عجز عن القيام بمسئولياتها الدستورية والقانونية .
ولعل القائمين على شان الدولة يدركون تماماً انه لا يوجد شيء اسمه "الحياد" حينما تستيقظ الفتنة من رقادها وتشتعل النار بين مواطن ومواطن وقبيلة وقبيلة وحزب وجماعة وطرف وأخر وإنما توجد هناك حقيقة موضوعية وهي أن مهمة الدولة الأساسية ألاّ تسمح للحروب والصراعات العنيفة أن تنخر في النسيج الاجتماعي أو تعيق تنفيذ مخرجات الحوار الوطني التي تشكل اليوم السبيل الوحيد المتاح للحفاظ على ما تبقى من التوازن السياسي والاجتماعي الهش حتى يتسنى العبور بالبلاد إلى مرحلة الاستقرار.
لاشك أن خطاب زعيم جماعة أنصار الله عبدالملك الحوثي المتلفز الذي بثته قناة المسيرة التابعة للجماعة امس الأول بشأن الحرب في عمران والتي قال: إن الهدف منها هو تمكين تنظيم القاعدة من السيطرة على المناطق القريبة من العاصمة صنعاء هو خطاب لم يحمل جديداً باستثناء تحذيره من مخطط إقليمي يسعى إلى إثارة الفوضى ونقل التجربة السورية إلى اليمن أما غير ذلك فلم يتطرق عبدالملك الحوثي إلى الأسباب الكامنة وراء استمرار الحرب في عمران والعوامل الذي دفعت بجماعته إلى إذكاء هذه الحرب بل انه الذي لم يتناول الدوافع التي قادت حركته للخروج من صعدة والتمدد على رقعة جغرافية باتت تفوق مساحة بعض البلدان العربية ك"لبنان أو البحرين أو قطر" مع انه وجماعته كان محصوراً في 2004م في نطاق جغرافي لا يتعدى عشرة كيلو مترات والأكثر من ذلك أن عبد الملك الحوثي لم يقدم في هذا الخطاب كما في غيره ما يبرر به منطق الحرب أصلاً خصوصاً وان جماعته هي من ظلت تقول إنها وطوال حروبها الستة الماضية لم تكن سوى مدافعة على النفس.
وبصرف النظر عن حقيقة وطبيعة الصراع بين الحوثيين والإصلاح والتحول المفاجئ في علاقة هذين الطرفين اللذين خرجا معا إلى الساحات عام 2011م للمطالبة بإسقاط نظام صالح وانخراطا في مؤتمر الحوار وجلسا إلى جوار بعضهم البعض وانطلقا في تقديم رؤاهما السياسية بشأن الدولة المدنية الحديثة إلى درجة وجدنا فيها رئيس المجلس السياسي لأنصار الله" صالح هبره" يصلي خلف القيادي الإصلاحي محمد قحطان والعكس أيضاً مع ذلك فان أخطر ما في الأمر أن المؤشرات الآخذة في الصعود تنبئ عن أن هناك من يحاول جر البلاد إلى حرب طائفية أو مذهبية تسيل فيها الدماء لعشرات السنوات .
وأمام ما يلوح في الأفق من خطر ماحق, فان الدولة معنية بالإسراع في إيقاف حرب عمران وغيرها من الحروب وسحب الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من الحوثيين وكافة الجماعات والقوى المسلحة قبل ذلك, فإنها- أي الدولة- مطالبة بالابتعاد عن أسلوب الترقيع في قضايا لا تقبل الترقيع أو مسك العصا من المنتصف وتبرير أي قصور بالوقوف على مسافة واحدة من المتصارعين الذين دائما ما يقفون على مسافات متباعدة فيما بينهم، إذ ليس من المنطق أن يخرج مسئول أياً كان ليقول للناس: إننا نقف من الجميع على مسافة واحدة لاستحالة تطبيق هذه القاعدة بين القاتل والمقتول والضحية والجلاد والظالم والمظلوم واذا ما كان هناك من يريد أن يقود اليمنيين إلى الغرق في المهالك والفتن والحروب التي لا يذوقون بعدها طعماً للراحة والأمن والاستقرار, فان هذه المسافة كافية لإشاعة ما هو أفظع من كل ذلك.