الأحداث الدائرة في جنوب - شرق أوكرانيا تعيد إلى الأذهان مجريات الحرب الأهلية في اليمن عام 1994. آنذاك، احتدم الصراع بين جزأي بلد أنشئ بشكل مصطنع، كان لكل جزءٍ منهما نخبته، وقاعدته الاقتصادية، ونمط حياته، بما يختلف عما لدى الجزء الآخر.
وفضلا عن ذلك، انخرطت في النزاع دول مجاورة، دعمت الانفصاليين في بداية الأمر، لكنها سرعان ما نفضت أيديها منه، تاركة الطرفين وشأنهما.
شارك الرئيس الأوكراني، بيوتر بوروشينكو، بحماسة في كل المفاوضات، كما فعل الرئيس اليمني، علي عبد الله صالح، قبل عشرين عاماً. وعلى الرغم من وقوفه، قولاً، إلى جانب حل المشكلة سلمياً، فإنه يبدو، في الواقع، قد اتخذ قراره الحاسم بإلحاق الهزيمة بالانفصاليين. ويرى الأوكرانيون أنفسهم أن الحرب في جنوب شرق البلاد من نتائج الصراع بين طواغيت المال على السلطة والممتلكات. وأحد هؤلاء، رينات أخميتوف، الذي يسيطر على هذا الجزء من البلد، وقد سبق أن اقترح على بوروشينكو التفاوض، غير أن الرئيس الأوكراني الجديد قد أحس بطعم النصر، كما يتضح من سلوكه، ولم يعد مستعداً لتقديم تنازلات.
والآن، أي مصير ينتظر شرق أوكرانيا؟
لم يشأ الثائرون في هذا الجزء من أوكرانيا تدمير رمزي المقاومة، مدينتي سلافيانسك وكروماتورسك، وتحويل كل منهما إلى ستالينغراد جديدة، وإنما تراجعوا باتجاه دوينتسك ولوغانسك، المدينتين الأكبر والأكثر أهمية. لكنهم، على الأرجح، لن يتمكنوا من الصمود هنا أيضا، إذ تتمتع كييف بتفوق كبير، من حيث العدد والعتاد. ولقد نجحت السلطات الأوكرانية في تنظيم عمليات تموين الجيش، وتزويده بما يحتاجه، وفي إصلاح مدرعاته المعطوبة على جناح السرعة.
ما من شيء يمكنه تغيير الوضع، سوى التدخل الكثيف من طرف روسيا، غير أن الكرملين لا يريد الانجرار إلى هذا النزاع المعقد الذي لا يعد بأية منافع للجانب الروسي.
وتشير وسائل الإعلام إلى أن أجهزة الأمن الروسية لا تسمح، الآن، باجتياز الحدود للمتطوعين الراغبين في الانضمام إلى فصائل الثائرين الأوكرانيين.
لقد أنجزت الانتفاضة في جنوب شرق أوكرانيا عملها، أي أنها حولت أنظار كييف عن شبه جزيرة القرم التي باتت روسيةً بصورة نهائية. وموسكو لن تجازف بتعريض نفسها لعقوبات غربية جديدة، ولذلك، لن تحارب من أجل مقاطعتي المناجم، دوينتسك ولوغانسك. انتهت الحرب الأهلية في اليمن بالاستيلاء على عدن، بعد فصلٍ دامٍ أشبه بالمذبحة. وفي أوكرانيا، قد يُكتب لدوينتسك ولوغانسك المصير نفسه الذي كتب لعدن اليمنية.
سيكون خصوم بوروشينكو أمام خيارٍ وحيد، فإما الصمود والموت دفاعاً عن المدينتين، أو الفرار إلى روسيا. من المرجح أن يختار الثائرون الاحتمال الثاني، فكثيرون منهم متزوجون، يعيلون أسرهم.
وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن مئات آلاف من الأوكرانيين الناطقين بالروسية قد لجأوا إلى الأراضي الروسية. ومن المستبعد أن يكونوا جميعاً قد أدرجوا على قوائم اللاجئين (فهذه عملية بيروقراطية معقدة). بل إن كثيرين منهم قد حلوا عند أقارب ومعارف لهم، على أمل انتهاء الحرب، والعودة إلى ديارهم، غير أن الحرب ستتلوها، على أغلب الظن، عمليات اضطهاد وتطهير، حتى إن عسكريين أوكرانيين يتحدثون عن إقامة معسكرات اعتقال للثائرين. ولذلك، طريق العودة مغلق بوجه عديدين من هؤلاء. وسيتوزع بعض اللاجئين في ربوع روسيا، وقد يجد بعضهم الآخر أنفسهم في القرم، حيث الحاجة لأناس من أصل سلافي قادرين على العمل، وموالين لموسكو.
نهاية دراما الحرب لا تعني طي صفحة النزاع، بل إنه سينتقل، على الأرجح، إلى طور الكمون، كما حدث في اليمن، حيث لا تزال أصوات الانفصاليين تسمع حتى الآن. لم تنتف الأسباب التي كانت وراء اندلاع الحرب في أوكرانيا. ومن بينها، ربما، العملية القسرية لفرض "اللغة الأوكرانية" على سكان شرق البلاد الناطقين بالروسية، وكذلك اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي تتعارض ومصلحة العاملين في مجالي المناجم والتعدين، فضلاً عن الصراع على السلطة بين القوى ذات الميول الأوروبية وتلك ذات الميول الروسية.
أما روسيا، فسوف تخرج من الأزمة بخسائر كبيرة، تضر بصورتها وسمعتها، فبعد ضم القرم، كان يُنتظر منها خطوات أكثر حزماً في الدفاع عن الروس في أوكرانيا. وفي المحصلة، سوف يتهم الغرب موسكو بالعدوان، بينما سيتهم شرق أوكرانيا الكرملين بالخيانة.