ليس هناك أسوأ على الفكر البشري من أن يعيش بين تناقضات يقف عاجزاً عن تفسيرها, وحائراً في الغموض الذي يلف تفاصيل مشاهد تلك المتناقضات.
كعادتي في التصفح للأخبار في فترة مابعد العصر أتفاجأ بسيل من المتناقضات الإخبارية ومعي كل القراء والمتابعين والمهتمين بالشأن السياسي اليمني, إلى درجة أكون فيها كالأطرش في الزفة.
عينة من أخبار يوم واحد فقط تبعث على التشاؤم والقلق في بلد كان يجب عليه بعد إجراء اكبر عملية حوارية تاريخية أن يجسد كل قيم الحوار الذي تم الاتفاق عليها, واحترام المبادئ التي توافق عليها الجميع.
بالأمس تصفحت الأخبار كانت عنوانيها كالتالي «مسلحو الحوثي يقتلوا جنديين في هجوم على موقع عسكري ويهدموا منزل مواطن في همدان» وخبر آخر «بعد يوم واحد من أوامر بانسحاب الجيش منها.. الحوثيون يحتلون مدينة ضروان القريبة من العاصمة» ثم تعرج على مواقع آخر لتفاجئك بنفس الأخبار المقززة «الحوثي يرفض تسليم الأسلحة والانسحاب من عمران» و«محافظ الجوف يناشد إرسال كتائب عسكرية لاستلام مواقع محررة بالجوف ومأرب» وغيرها من الأخبار التي تجعلك تدرك أن البلد أمام إرهاب منظم من قبل ميلشيات انقلبت على كل مخرجات الحوار, وتحدت بقوتها كل الدعوات الدولية لإيقاف الحرب.
كل شيء في البلد هذه لم يعد مفهوماً, ولم يعد مقبولاً أبداً, خيانات تتو إلى من أجل تصفيات حسابات سابقة, تخلٍ عن القيم الوطنية إرضاءً لرغبات دولية, متاجرة بالدماء من أجل كسب المزيد من المال الحرام والرضاء الخارجي.
في العالم المتحضر يقدم المسؤول إقالته لمجرد خطأ بسيط جداً، ففي الولايات المتحدة الأمريكية قدم وزير التجارة الأمريكي جون برايسون استقالته بعد عشرة أيام من تسببه في حادثي مرور بولاية كاليفورنيا, وفي كوريا قدم رئيس الوزراء الكوري الجنوبي جونج هونج وون استقالته على خلفية غرق عبارة في منطقة سيوال جنوب البلاد أدى إلى مقتل أكثر من 170 شخصاً.
وقبل حوالي شهرين من الآن قدم وزير الدفاع المالي سومايلو بوبي ميغا، استقالته بعد مرور أسبوع على المواجهات الدامية بين الجيش الحكومي والحركات الأزوادية المسلحة بمدينة كيدال، أقصى شمال شرقي مالي, وفي شهر مارس من العام الحالي قدم وزير الدفاع الأوكراني إيغور تينيوخ استقالته بسبب طريقة إدارته الأزمة مع روسيا.
وفي السويد قدم وزير الدفاع السويدي ستين تولجفورز في عام 2012م استقالته إثر تقارير أفادت بأن السويد تعتزم مساعدة إحدى الدول العربية في إقامة مصنع للأسلحة, وفي ليبيا قدم وزير الدفاع الليبي محمد البرغثي استقالته على خلفية استمرار الحصار الذي فرضه مسلحون على وزارتي العدل والخارجية , وفي 2009م قدم قائد الجيش الألماني استقالته من منصبه بسبب الغارة الجوية التي شنتها طائرات حلف شمال الأطلسي (الناتو) والتي تسببت في مقتل العديد من المدنيين.
هنا في اليمن تحدث مئات الكوارث الإنسانية وعشرات المآسي البشرية ولا يحرك المسؤول عن تلك الكوارث أي ساكن , جنود يقتلون ومعسكرات تسقط ومحافظات تتهاوى بيد مجموعات مسلحة , وانفلات أمني يهدد ما تبقى من استقرار جزئي , لكن ماذا لو أن ما حدث في اليمن حدث في أي دولة أخرى؟ ماذا لو سقطت معسكرات في أيدي مجموعات مسلحة؟ باعتقادي أن ذلك لن يقتصر على استقالة وزير بعينه بل ستستقيل حكومة بأكملها, إن لم تحل إلى محاكم متخصصة بتهمة الخيانة العظمى.
ومع الوضع المثير للخوف تنقلب المعادلة في اليمن ويتحول التواطؤ إلى شرف مقدس, والتهديد إلى تصريح مرور, والسكوت إلى شجاعة نادرة.