تتأهب بلادنا لتحطيم الرقم القياسي في معدلات تغيير الدساتير، فقد شهد اليمن منذ قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر العديد من الدساتير والتعديلات الدستورية، حيث ظل كل حاكم أو رئيس يخيط الدستور على مقاسه وبالطريقة التي تخدم توجهاته واستمراره في السلطة، ووفقاً لهذا المنطق، فقد كان لكل رئيس دستوراً أو على الاقل مشروعاً لتعديل الدستور، بداية بدستور المشير السلال في الشمال ودستور قحطان الشعبي في الجنوب عقب قيام الدولتين الشطيرتين، ومروراً بالدساتير والتعديلات الدستورية، التي اعقبتهما حتى دستور دولة الوحدة، الذي كان حصيلة اتفاق بين زعيمي الشطرين علي عبد الله صالح وعلي سالم البيض، وصولاً إلى دستور الدولة الاتحادية، الذي سيتم الانتهاء من إعداد مسودته خلال اليومين القادمين، وهو الدستور الذي يوصف بأنه من أغلى الدساتير على مستوى العالم أكان ذلك من حيث الكلفة المالية أو الفترة الزمنية التي استغرقتها صياغة نصوصه وبنوده أو من حيث عدد الرحلات التي قامت بها اللجنة المكلفة بإعداده إلى بعض البلدان بهدف الاستفادة من تجاربها في هذا المضمار..!
وبعيداً عن السلبيات والطريقة التي رافقت صياغة مسودة الدستور الجديد فإن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نحن متوافقون على المبادئ الكبرى والقضايا الجوهرية، التي نريد ان يتضمنها هذا الدستور؟ ونعني بذلك التوافق حول المسائل، التي نعرف ونلمس منذ الآن أنها ليست موضع توافق تام، إن لم تكن موضع اختلاف في وجهات النظر والآراء على اعتبار انه إذا ما كانت الاجابة بغير ذلك فإننا الذين قد ندخل في أزمة جديدة عنوانها: الصراع على الدستور، وهو صراع قد لا تحكمه ضوابط أو معايير محددة.
ولعلنا لا نحتاج إلى الكثير من النظر أو التوقف امام القضايا، التي تبدو اليوم موضع اختلاف في الآراء، لكونها التي لا تتجاوز ثلاث قضايا هي: شكل الدولة الاتحادية وهل تريدها الاغلبية من اقليمين أو من ستة أقاليم، ولا شك أن هذه القضية هي الاكثر إثارة وجدلاً، ونخشى أن تصبح مثار فتنة أو صراع يخرج عن حدود التجاذب السلمي إلى الصراع العنيف..
أما القضية الثانية فتتعلق بنظام الحكم وهل نريده رئاسياً أو برلمانياً أو مختلطاً أم غير ذلك.. أما الثالثة ترتبط بمصادر التشريع وموقع الشريعة الاسلامية منها، وهل نريدها المصدر الوحيد أما المصدر الرئيس أم غير ذلك..
وفي هذا الجانب يأتي التأكيد على التحفظات، التي عبّر عنها أنصار الله وكذا الحزب الاشتراكي حول ما يتصل بتقسيم اليمن إلى ستة أقاليم، وكذا تحفظ التيار السلفي على النظام الفيدرالي أو الاتحادي وتمسك المؤتمر والإصلاح بصيغة الأقاليم الستة، ورفضهما التراجع عن هذه الصيغة، حيث وأن مثل هذه المواقف جاءت كاشفة عن الغموض، الذي لا يزال يحيط بالتوافق على مخرجات الحوار، بل ان الادق من ذلك أنها من كشفت عن أن ما اطلقنا عليه توافقاً من الناحية النظرية هو من الناحية الفعلية وواقع الممارسة ليس اكثر من توافق ظاهري أو شكلي معطل بعد أن تغيرت قواعد اللعبة، وأصبح من يمتلك القوة على الأرض هو من يفرض صيغة التوافق ومضامينها والأسس التي تقام عليها.
وهذا الواقع ليس غريباً على الرئيس أو الحكومة أو حتى النخبة السياسية، فالجميع يعلم أن الكثير من المتغيرات قد حدثت على المشهد السياسي خلال الفترة الماضية، وأن تجاهل مثل هذا الامر إنما هو الذي سيزيد الوضع تعقيداً وتشابكاً كل ما اقتربنا من استحقاقات الاستفتاء على الدستور؛ ولتلافي مثل هذه العقبات التي قد تضيف إلى مشاكل اليمن أثقالاً جديدة وتضع الاستحقاق الدستوري أمام احتمالات التأجيل فإن المصلحة الوطنية تقتضي من الرئيس عبدربه منصور هادي المبادرة باتخاذ موقف متقدم يدعو من خلاله إلى ميثاق شرف بين مختلف التيارات والمكونات الوطنية لما من شأنه ضبط ايقاع الاختلافات وتعزيز قيم التصالح والتسامح والتوافق حول ما قد يظهر محل تباين أو خلاف حول مضامين مسودة الدستور الجديد.
لا أريد أن أبدو متشائماً في مناخ يراد فيه للجميع أن يكونوا متفائلين، لكن ومهما كانت دوافع التفاؤل وصيغ التعبير عنه فإنه لن يكون ذا قيمة إيجابية من دون تقدير اللحظة التاريخية، التى نحن فيها، فالواقع انه لا يكفي الكلام العام والشعارات العريضة حول التوافق الذي تحقق داخل مؤتمر الحوار فقد شبعنا بمثل هذا الكلام خلال الاشهر الماضية حتى بدا تكراره مدعاة للخوف والتوجس، إن لم يغدُ مدعاة للتندر والسخرية من قبل أبناء الشعب، الذين كانوا يعوّلون على مخرجات الحوار انتشال وطنهم من واقعه المأزوم، إلا أن التأخير في تنفيذ تلك المخرجات كان كافياً لتكريس الاحباط في نفوسهم.
أما التشاؤم فإنه الذي يطل برأسه من خلال الوضع الخانق، الذي يتخبط فيه اليمن، وهو ما قد يضع الاستحقاق الدستوري والتعويل على نتائجه في مهب الريح، وذلك ما قد يدفع بالبعض إلى التساؤل.. وما هو الحل إذن؟ والجواب في تقديري يتلخص في قيام الرئيس ب (تنفيس) هذا الاختناق من خلال دعوة كافة القوى السياسية إلى تحمل مسؤوليتها والعمل على تحقيق المصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي والعمل على حل أي خلاف حول مضامين الدستور عن طريق الجلوس مع لجنة الرقابة على تنفيذ مخرجات الحوار، والتي يمكن لها تقريب وجهات النظر بما يحقق التوافق والالتفاف حول الدستور الجديد وبما يجعل من هذا الدستور معبراً عن التراضي الوطني و قناعات الناس واختياراتهم..
لو ان اصحاب مشروع (الماجنا كارتا) الذين قاموا بإرساء ميثاق للحريات في بريطانيا العظمى عام1215م عادوا للحياة لأشفقوا على اليمنيين، الذين لم يسئموا من جرجرة عصبياتهم المجروحة والمقتولة والمنحورة ولقالوا لهم أيضاً ان خلافكم حول الدستور هو خلاف عبثي لا معنى له فالعبرة ليس في كتابة النصوص وإنما بتجاوب هذه النصوص مع متطلبات الواقع وتطبيقها، فالنصوص ليست هي الغاية اذا ما توفرت القناعات بدليل أن دولة ديموقراطية كبريطانيا هي من يحتكم شعبها منذ اكثر من 800 عام لدستور غير مدون أو مكتوب، هذا إن لم يصرخوا فينا جميعاً توقفوا عن طرح السؤال: هل نحلب البقرة أولاً أم المعزة؟!