آراء

هل حصل الاعتبار بفتنة الحوثي؟

د. محمد بن موسى العامري يكتب: هل حصل الاعتبار بفتنة الحوثي؟


فتنة الحوثي حقيقتها ومضمونها ابتلاء حل بشعبنا اليمني مثلها كمثل أنواع المصائب والمحن والابتلاءات التي يتعرض لها الناس في كل زمان ومكان، فالحروب والخسف والزلازل والفيضانات والجراد والقمل والضفادع التي ذكرها الله في كتابه وربطها بأفعال العباد وتفريطهم كلها رسائل إلهية ونذر للناس ليعتبروا بها ويعودوا إلى رشدهم ليتلمسوا مواطن التفريط والتقصير التي كانت سببا لهذا البلاء.
"وَمَاۤ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِیبَةࣲ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیرࣲ"، "أَوَلَمَّاۤ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِیبَةࣱ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَیۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ". والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها أو جلها تربط المصائب والكوارث بأعمال الناس وتفريطهم، داعيةً إياهم إلى التوبة والرجوع إلى الله والعمل بالأسباب المادية والمعنوية وفق سنن الله التي لاتحابي أحداً ليكشف ما حلّ بهم.
وبالنظر إلى فتنة الحوثي والتأمل في العظات والعبر المقتبسة من هذه الرزية يمكن الوقوف على الآتي:
أولا: تفريط الماضي.. لقد كان جانب التفريط في ما مضى يتمثل في نقاط منها:
‌أ- تفريط النخب الثقافية والسياسية التي تعاملت مع فتنة الحوثي بكثير من الإهمال واللامبالاة منذ تكوينها ونشأتها؛ إذ يفترض في نشوء حركة الحوثي أن تعطى حقها من الدراسات والبحث عن جذورها وعقائدها وهذا ما لم يحصل -بكل أسف- إلا على استحياء، رغم قيام ثورة وجمهورية ليست ببعيدة زمنياً على أصولها وجذورها وخلفياتها ومنطلقاتها، فأين كان دور النخب الثقافية والسياسية؟، وأين كان دور مناهج التعليم؟، وأين كان دور المراكز البحثية عن هذه النشأة التي ظلت تنمو منذ قيام الثورة الخمينية عام 1979م.
‌ب. تفريط النظام السياسي الذي كان أحد المعضلات في نموها بدوافع سياسية كيدية للجوار وللتوجهات السياسية والدينية الأخرى وسلوك إدارة الصراعات عوضاً عن بناء دولة المؤسسات والقانون!
لقد كان النظام السياسي وبعلم أجهزته المختلفة على علم ودراية بارتباط هذه الفئة منذ وقت مبكر بالمشروع الإيراني وأذرعه، وكانت التواصلات تتم بصورة مكشوفة وبتسهيل من الأصابع اللوبية -السلالية- في جهاز الدولة وكانوا يرتحلون للتدريب زرافاتٍ ووحداناً بصورة معلومة، وبتواطؤٍ ساذج من النظام أو ماكر حتى وقع الفأس في الرأس وعلى نفسها جنت براقش.
‌ج - حينما تمرد الحوثي على مؤسسات الدولة وبدأ باقتطاع مديرات في محافظة صعدة صورت هذه التمردات للشعب اليمني على أنها مظلومية لحقت بهذه الفئة، وذلك من التغرير الشديد والمكايدات السياسية التي كانت إحدى المعضلات لترويض النظام السابق من قبل معارضيه! وسواء قيل إن النظام السابق قد فعلها للتخلص من قوى عسكرية مقربة لتمهيد السبيل أمام توريث السلطة أو كان ذلك للمتاجرة السياسية وابتزاز الإقليم المجاور فالنتيجة واحدة، ومؤداها يعود إلى التغابي عن جذورها وخلفياتها وأطماعها المحلية والإقليمية أوالإفراط في الغباء وضعف الانتماء الوطني مصحوباً بهوس الاستئثار بالسلطة وكلا الأمرين كارثي كانت ضريبته من دماء الشعب اليمني ومقدراته.
‌د - وتفريط آخر بعد قيام ثورات الربيع العربي والدعوة لمؤتمر الحوار الوطني وهي المحطة التي استطاعت الحوثية بمكرها أن تمسح شيئاً من العار عنها وتطبع أوضاعها مع السلطة من جهة ومع القوى السياسية من جهة أخرى ومع الشعب الذي ظل يدفع الثمن من دماء أبنائه خلال فترة الحروب الستة التي صورتها بعض القوى السياسية بالعبثية، ما أدى إلى تقبل الحركة الحوثية نسبياً والتعامل معها كحركة سياسية مجردة وغض الطرف عن بعدها العقائدي وواقعها المليشاوي المسلح، وقد كان يفترض الإصغاء لصوت العقل والحجة المنادي بعدم قبولها حركةً سياسية وهي متشبثة بسلاحها وباسطة على أجزاء من أراضي الجمهورية اليمنية خارج إطار السيادة ، والتي جعلت منها منطلقاً في ما بعد لتحركاتها العسكرية المليشاوية لإسقاط مؤسسات الدولة، وتلك إحدى الكبُر الماحقة التي وقعت فيها القوى السياسية سلطةً ومعارضة.
ثانيا: تفريط الحاضر:
ويستمر جانب التفريط حتى يومنا هذا بالرغم من ذهاب عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى ومضي سبع سنينٍ عجافٍ من الحرب المدعومة إيرانياً مع ضلوع جهات دولية مؤثرة بالتغطية على جرائمها لأمر يراد!
رغم ذلك كله ما زال هناك كثير من الناس لم يتعظوا ولم يستفيدوا من دروس فتنة الحوثي وما ألحقته بالشعب اليمني ولعل الإشارة في نقاط تدل على ما سواها:
‌أ - لا يزال كثير من الناس، بما في ذلك نخب سياسية وثقافية غير مدركين لأبعاد وفداحة تغول هذه الفئة وتمكنها من مقاليد السلطة في اليمن -رغم كشف قناعها وشهادتها على نفسها- من خلال ما تقوم به منذ انقلابها وتمردها من العبث بمناهج التعليم وتجريف الهوية اليمنية وعمليات الشحن العقائدي الطائفي والعنصري في جميع المرافق والمنابر التعليمية التي سيطرت عليها بما في ذلك المساجد والمناسبية الطائفية التي أحيتها لنشر أفكارها المتطرفة وبث روح الكراهية بين أبناء الشعب اليمني من جهة وبين جيرانهم من جهة أخرى. فيحاول هؤلاء الناس جاهدين أن يتموضعوا لفئاتهم أو أحزابهم متوهمين أنه بإمكانهم بناء وتأسيس شراكة حقيقية مع الحوثيين، وهذا يدل على سبات عميق وولوج في ظلمات الفقر المعرفي والسياسي لدى هؤلاء الذين سيطرت عليهم مصالحهم الخاصة وعداواتهم الماضوية التي بنيت على سياسة التحريش بين فئات الشعب اليمني من قبل أجهزة السلطة المختلفة منذ قيام ثورة ٢٦ سبتمبر ٦٢م.
‌ب- تصر حركة الحوثي إعلامياً على تسويق نفسها بطريقة خداعية، على أنها مكون يمني متناغم مع ثقافة الشعب اليمني وهويته، وقد نجحت في استقطاب كثير من الناس إلى هذه الشبكة المفخخة رغبةً ورهبةً بينما حقيقتها الجوهرية تتصل بماضيها التعيس الذي دأب عليه أئمة الشيعة الجارودية، كأمثال عبد الله بن حمزة وطغاة الحركة الرسّية القائمة على الغلو والإيغال في القتل والترويع واستباحة دماء المخالفين وقتل الهوية اليمنية بأبعادها المختلفة.
وما لم يكن هناك حراك إعلامي ثقافي عميق يقوم بهدم مرتكزات هذه الطائفة بابعادها العقائدية العنصرية والعسكرية والسياسية، فإن ذلك يعني استمرار مسلسل الغفلة وترك الاعتبار والموعظة، وقد لوحظ في كثير من المحطات خلال فترة الحرب أن منظومة التثقيف والإعلام اليمني سواء الرسمي أو الأهلي أو الحزبي لا يزال أقل من المستوى المطلوب في تجلية حقيقة الحركة الحوثية بأبعادها وفي أحيانٍ كثيرة تنحرف بعض الأصوات عن مسارها وتوجه السهام إلى صديقها -بغفلة- بدلا من عدوها وبوساوس سطحية وقد يكون بعضها موجهاً من جهات لها أجنداتها خارج إطار المصالح اليمنية ومصالح الأشقاء في المملكة العربية السعودية، على وجه الخصوص.
‌ج - من المهم لتقدير الموقف ومعرفة الطريقة المثلى لإخراج الشعب اليمني من محنته التي ألمت به فأهلكت فيه الحرث والنسل أن نعترف -وهذا ليس عيبا- بأن الحركة الحوثية قد نجحت في إدارة صراعها من حيث مركزية قرارها وسعيها لتحقيق أهدافها باحتراف ومهنية ملحوظة لا تخطئها العين، سواء قيل إن هذه المهارات قد اكتسبتها من تاريخها وصراعها مع السلطة أو من خلال تدريبها وإعدادها لدى حليفها الإيراني وأذرعته وما قدمه للحركة من أصناف الدعومات العسكرية والأمنية واللوجستية وغيرها أوقيل إن ما توصلت إليه مرده إلى نقاط الاختلال لدى مخالفيها أوغير ذلك.
هذا الاعتراف سوف يدفعنا حتماً إذا كانت العظة قد وصلت إلى تقويم طريقة الأداء التي تقدمها الجهة المقابلة "الشرعية" في إدارة الصراع خلال سبع سنوات مضت وهي فترة كافية للحكم على مستوى الأداء الذي قدمته سياسيا وعسكريا وأمنيا وإعلاميا وغير ذلك.
والناظر بعين التجرد والإنصاف وبروح النصح والمحبة لوطنه لا يمكن أن يكون راضياً بهذا الأداء المتواضع بغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى ذلك، سواء كانت من ذاتية الشرعية ومكوناتها أو من خارجها أو من كليهما،

فالمنطق يحتم المبادرة إلى إجراء عملية تقييمية شاملة بين منظومة الشرعية وحلفائها من الأشقاء لمعرفة جوانب الخلل بكل صدق وأمانة والتعجيل بإصلاحه ومغادرة مربع التلاوم والتراشق الذي لا يمكن أن يستفيد منه سوى العدو المتربص باليمن وجيرانه خدمةً للمشروع الصفوي الإيراني، فالخطب جلل ولم يعد هناك من مجالٍ للتسويف ويستدعي تنادي الفرقاء وقادة السفينة للوقوف الجاد على مكامن الخلل والعوج وإصلاحه، وليس عيباً في منطق الأزمات أن يخطئ هذا الطرف أو هذا فالجميع وارد عليهم الخطأ، ولكن المعيب حقاً أن يطول التغافل ويقوم كل طرف بإلقاء اللائمة على الطرف الآخر وتلك لا شك إحدى المعضلات التي يجب تجاوزها بكل شجاعة واقتدار.

د - وختام هذا الاعتبار يتمثل في تقييم واقع الحركة الحوثية والتقاط الفرص لتغيير معادلة المعركة في اليمن لصالح الشعب اليمني المنكوب، والمتتبع الحصيف لواقع الحال يكاد يجزم أن الحركة الحوثية قد كشفت سوءتها بنفسها وهتكت أستارها بأعمالها حتى غدت مجردة من كل القيم الوطنية والأخلاقية أمام الشعب اليمني المتربص والمنتظر طيلة هذه المعركة لكل بارق يلوح في الأفق يمكن أن يجد فيه خلاصه وانعتاقه من ظلم هذه الفئة وفاشيتها التي بلغت حداً لا يطاق. ولعل كثيراً من اليمنيين في مناطق سيطرة المليشيا الحوثية يتذكر حالة الرعب والقلق والارتباك التي سادت صفوف المليشيا إبان معارك الجيش في نهم على تخوم العاصمة صنعاء، قبل أن تتراجع قوات الجيش الوطني إلى مأرب، بفعل سلسلة من الإخفاقات التي يجب معالجتها وعدم تكرارها.
ولا أبالغ إن قلت إن حركة الحوثيين تحمل هلاكها بين جنباتها وتضارب المصالح بين أجنحتها قد يكون أسرع الطرق لكتابة نهايتها بأيديها وهذه الحقيقة لم تعد خافية ويدركها القريب والبعيد، على أن هذا لا يعني الركون والانتظار لحين سقوط مشروع الحوثية بنفسه، بل لا بد من حشد كل الطاقات ومعالجة الاختلالات واستدراك ما فات.
وغنيٌ عن الإيضاح أن سبيل الفلاح يتمثل في تكاتف القوى الوطنية المخلصة تحت مظلة الشرعية لإيجاد رؤية واستراتيجية بين منظومة الشرعية من جهة وحلفائها من جهة أخرى، لمعالجة المعضلات.
ويضاف على المستوى الوطني ضرورة الإشارة إلى أن زراعة أو رعاية مكونات ذات طابع جهوي أو عسكري خارج إطار الشرعية لن يؤدي إلا إلى مزيد من تشتت الجهود وتوليد مشكلات إضافية تُستهلك الإمكانات في ترقيعها وبخاصة إذا لم تفلح الجهود في لملمة المكونات الرافضة للمشروع الحوثي الإيراني وتوجيهها إلى العدو المشترك واستمرت هذه الجهات تتغذى و تعمل خارج إطار المنظومة الوطنية الشاملة.
كما أن تفرد جهة بإدارة الصراع فضلا عن الاستئثار به -مهما كان لها من تضحيات جسيمة وصدارة في المشهد الوطني- دون إشراك بقية القوى الوطنية الفاعلة والمخلصة في مواجهة مشروع الحوثي الإيراني سوف يكون له تداعيات كارثية على المستوى الوطني وستكون أولى جهات التضرر هي الجهة المتفردة بالقرار الوطني، إذ الشعب بمختلف تشكيلاته وقواه هو الكفيل بإذن الله تع إلى بهزيمة المشروع الإيراني وأذرعه في اليمن ودون ذلك خرط القتاد!
ومن آثار هذا السلوك ما قد يعتبره كثير من الناس إعفاءً لهم وتنصلاً من المسؤولية الوطنية ولن يعدموا من المعاذير في هذا السبيل، الذي يجعلهم يستمرون في المنطقة الرمادية ناهيك عن ركوب موجة الشماتة من قبل ضعاف العقول وقصيري النظر الذين لا تتجاوز أنظارهم أصابع أقدامهم، ومن المنطق السياسي الرشيد والحكمة الجلية الإجماع يتطلب الإجماع الوطني أفقاً واسعاً وتوفير أكبر قدر من المساحات لتحمل المسؤولية من جميع مكونات الشعب اليمني الصادقة ومغادرة دوائر الوساوس وكثرة الشكوك المعيقة المرتبطة بحزازات ماضوية قد أصبحت جدولاً في محيط هذا المشروع التخريبي الدخيل.
ومن غير تردد نكاد نجزم أن قيام الدولة بمؤسساتها وتمكينها من بسط نفوذها وتفعيل أجهزتها المختلفة بدءا بالمؤسسة العسكرية التي يفترض أن تكون أولى مؤسسات الدولة خضوعا للتقييم والأداء والرقابة وتفعيل مبدأ الثواب والعقاب فيها -دون غمط لأدوارها النضالية وتضحياتها الجسيمة- مرورا ببقية المؤسسات الحكومية التي يجب أن تكون أنموذجاً مؤثراً ومساهما في سقوط تمرد مليشيا الحوثي وإبطال مشروعها الانقلابي شريطة أن تدعم أجهزة الدولة المختلفة بما يمكنها من القيام بمهمتها على الوجه الأكمل مع السعي الحثيث للتخلص من شوائبها ونتوءاتها وبؤر الفساد فيها.
كل ذلك من شأنه أن يسهم وبقوة في عملية إسقاط الانقلاب الحوثي من داخله وزعزعة مقومات بقائه واستمراره.
وإزاء هذه النتيجة التي وصلت إليها الحركة الحوثية هناك دون شك خسائر فادحة تكبدتها وتدمير هائل لبنيتها وترسانتها العسكرية والبشرية بفضل الله أولاً، ثم بجهود الشعب اليمني جيشاً ومقاومةً وأبطالاً من شتى قبائل اليمن، مضافاً إلى ذلك الدعم السخي والإسناد الأخوي الذي يستحق الشكر والتقدير من شعبنا اليمني والمقدم من أشقائه وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية التي كان لها -بعد عون الله- القدح المعلى في تثبيت دعائم الجيش الوطني وصمودالشعب وخلخلة أركان ترسانة الحركة الحوثية الإيرانية، وهو دَينٌ وجميلٌ يُشكر ولا ينكر وعلى أبناء اليمن أن يستذكروه دائما وأبداً لبناء علاقة أخوية واستراتيجية مع جيرانهم الذين يشتركون معه في جميع الروابط الدينية والتاريخية والجغرافية والاجتماعية.

عناوين ذات صلة:

زر الذهاب إلى الأعلى