محمد جميح يكتب عن: نواب الله وإرادة التحكم
عندما تريد جماعة أو شخص ما أن يتحكم في الناس، فلا بد له من أن يمارس عليهم عمليات منتظمة للإسقاط النفسي، تجعل لا وعيهم يراه مختلفاً عنهم، اختلاف الأعلى عن الأدنى، اختلاف من هو متميز عنهم بقدرات يتقبل الناس كونها فيه، على الرغم من أنها قدرات أقرب إلى الوهم والخرافة، ولكن عمليات غسيل الأدمغة تجعل الخرافة ترقى إلى مستوى العقائد التي لا تقبل النقاش، وكم من الخرافات بلغ عند العوام مبلغ العقائد المقدسة!
ومن هنا حرص المتسلطون على إشاعة مبدأ «التسليم» بين الأتباع، من أجل إغلاق أبواب النقاش والمساءلة، وذلك لإدراكهم أن أية مناقشة بسيطة لدعاواهم في التميز والاصطفاء عن الناس ستسقط تلك الدعاوى واحدة بعد الأخرى.
ولكن ما هو أصل فكرة التميز والاصطفاء؟
عندما نذكر التميز فإن الذهن يذهب عادة إلى الخرافة والأسطورة، وعند ذكر الأساطير فإن الذهن يذهب إلى الفلسفات والمعتقدات الدينية القديمة، أو التي لا زال صداها يتردد لدى بعض أهل الأديان المعاصرة.
معلوم أن الفكرة الرئيسية في الفلسفات والأديان هي وجود «إله واحد» حتى لدى الذين قالوا بـ«تعدد الآلهة» ذلك أنهم جعلوا الآلهة المتعددة مجرد مظاهر (أقانيم) متعددة لإله واحد، كما لدى المسيحية التقليدية، هذا الإله الواحد تم النظر إليه في علاقته بالبشر من زوايا مختلفة، هيأت الفرصة للمتسلطين للزعم بأن لديهم علاقة خاصة بالله تميزهم عن غيرهم، الأمر الذي بموجبه أضفوا صفات إلهية على أنفسهم، من أجل السيطرة على الناس عن طريق الدعاية الثيوقراطية المتكئة على الأساطير، تماماً، كما يمارس السحرة وبعض البارعين الروحانيين طقوس السحر والتنويم المغناطيسي على الأشخاص والجماعات، بشتى الوسائل والأساليب.
وقبل الحديث عن الأديان، نشير إلى فكرة الفلاسفة عن علاقة الله بالإنسان، حيث رأى الفلاسفة أن أول ما خلق الله شيء مبهم، وغاية في التعقيد والاستعصاء على الفهم، أطلقوا عليه «العقل الأول» وقالوا إنه هو الذي انبثق عنه الكون، وهو السبب الأول والعلة الأولى للوجود، وهو المدبر لشؤونه، بعد أن ترك الله له أمور المخلوقات. وبعد تفحص الصفات الخارقة التي يتصف بها هذا المخلوق الخارق «العقل الأول» نجد أن الفلاسفة لم يفعلوا أكثر من كونهم نسبوا لهذا العقل/المخلوق كل ما هو للإله/الخالق من صفات الخلق والتدبير والحكم، في انعكاس لرغبة فلسفية في جسر الهوة بين الإله/الحكيم والإنسان/الفيلسوف، بابتكار فكرة «العقل الأول» الذي هو مخلوق فلسفي أكثر من كونه حقيقة مخلوقة.
وبتفويض الله صفاته لهذا العقل أراد الفلاسفة فقط أن يُعلوا من شأن أنفسهم، على اعتبار أنهم هم «أهل العقل الأول» وهم أقرب الناس إليه، فهماً ومعرفة وتجليات. وبمعنى آخر أراد الفيلسوف من خلال ابتكار فكرة «العقل الأول» أن يجعل من نفسه تجلياً بشرياً لهذا العقل الذي يعد نائباً عن الله، فيما يكون «الفيلسوف» نائباً عن هذا العقل الأول، أو ممثلاً له بين الناس، رغبة في التميز عن بقة الناس، سواء فطنت الفلسفة لتلك الرغبة أم لم تفطن.
وقد وصلت الفلسفة على يد نيتشه إلى ابتكار «السوبرمان» الذي بتأمل صفاته نجد أنه لا يختلف عن الصفات الإلهية التي أضفتها الفلسفة القديمة على «العقل الأول» وما ذلك إلا تجسيد لرغبة الإنسان/الفيلسوف في تقمص دور إلهي يميزه عن بقية المخلوقات.
وكما وُجد «النائب الفلسفي» المجرد للإله، والذي تجسد لدى البعض في شخص «الفيلسوف» وُجد كذلك «النائب الناسوتي» الذي أسقطت عليه صفات الله، كما رأينا في المسيحية التي أسقطت صفات الله (الأب) على المسيح (الابن) الذي انبثق عن الأب من خلال الأم (مريم) في انعكاس حرفي للتثليث الفرعوني القديم في أسطورة (أوزيس/الأب، أوزوريس/الأم، حورس/الابن) وهو التثليث الذي أخذه عنهم اليونان وطوروه، ثم انتقل إلى ثقافات عالمية أخرى، بشكل أو بآخر، إلى أن حل في المسيحية، عندما أصبحت ديانة رسمية للرومان، ورثة الإغريق القدماء.
وقد رأينا كيف تم تكييف شخصية المسيح، وأسقطت عليه صفات الله (الأب) ليكون نائباً بشرياً عن الله فترة حياته بين الناس، حسب التصور الناسوتي، لتؤول نيابته فيما بعد للقديس بطرس مؤسس الفاتيكان، ثم تنتقل النيابة ذاتها إلى «بابا الفاتيكان» الذي يمثل اليوم الإرادة الإلهية، باعتباره نائباً لبطرس الذي هو نائب المسيح الذي هو النائب الناسوتي للإله، حسب المثيولوجيا المسيحية.
وبهذا التصور أضفيت على البابا صفات قداسة مكنت «البابوات» على مر العصور من الحكم والسيطرة، حيث كان بابا الفاتيكان بشكل أو بآخر «مالك السلطة ومانحها» وهو من يتوج الملوك، ضمن اتفاقية ضمنية ـ بين الكنيسة والقصر ـ ظلت تحكم أوروبا العصور الوسيطة لقرون عديدة.
ومن نواب الإله المبتكرين ما أطلق عليه المتصوفة المسلمون «القطب» وعند تأمل أقوال المتصوفة في القطب نجد أنها تجاوب صوفي للأفكار التي قامت عليها فلسفة «العقل الأول» أو «المسيح الابن أو الكلمة» على اعتبار أن كل تلك التسميات مجرد أوصاف لموصوف واحد، وترديد لفكرة واحدة، هي فكرة النيابة عن الله، وهي الفكرة التي من خلالها نفذ كثير من الكهنة والأحبار والرهبان ورجال الدين والملوك والأباطرة إلى ما يريدون من التحكم والتسلط والتملك.
وقد تحدث ابن عربي عن «القطب الأعظم» وتحدث عن «الحقيقة المحمدية» و«خاتم الأولياء» على اعتبار أنها أوصف لموصوف واحد، هو ما أطلق عليه «الإنسان الكامل» الذي ينوب عن الله، وذلك تأثراً بأقوال الفلاسفة عن «العقل الأول» وبتصور المسيحيين عن «المسيح/الابن/الكلمة» والمتصوفة عن «القطب» الذي يصدر عنه الكون ويتحكم به.
وكما وُجدت عقيدة «الإله/الإنسان» في شخصية المسيح، ووجدت أصداؤها في أفكار «القطب الأعظم أو الإنسان الكامل» عند الصوفية فإن التشيع المغالي فعل الشيء ذاته بالنسبة لشخصية علي بن أبي طالب، ضمن منظومة من العمليات المتوالية التي سعت لتقديس «الإمام» لا لذاته، ولكن ليمتد التقديس المضفى عليه، ليشمل من يأتي من ذريته، ولهدف واحد لا غير، وهو التسلط باسمه على أقدار الناس وأموالهم باسم الدين والتشيع.
جاء في إحدى خطب «نهج البلاغة» المنسوب لعلي بن أبي طالب في خطبة يكاد يُجمع على أنها مدسوسة عليه أنه قال: «أنا الأول والآخر، أنا الباطن والظاهر.»..، وغير تلك من العبارات والمفاهيم التي لا يمكن نسبتها للسياقات العقدية واللغوية في زمن علي بن أبي طالب، ناهيك على نسبتها له.
واليوم، يعاد بشكل أو بآخر نبش تلك الأوصاف القديمة من أجل صناعة نواب جدد لله في الأرض، باسم «أعلام الهدى» و «أقطاب الرحى» و«سفن النجاة» لا لشيء إلا ليسهل على هؤلاء الانتهازيين التحكم في الشعوب وسرقة أموالها باسم «حق النبي والوصي والولي والإمام، بعيداً عن مفاهيم الدولة المدنية الحديثة.
أخيراً: يخاطب الله نبيه في القرآن الكريم، بقوله: «لستَ عليهم بمسيطر» وإذا كانت تلك هي الحال مع نبي مرسل، فمن أين أتى كل هؤلاء الكهنة الثيوقراطيون بفرية أن لهم الحق في سلطة الشعوب وثرواتها؟!
عن القدس العربي