الفلوجة المحاصرة: طعام الماشية أكلة رسمية.. وثمن الطحين مليون وربع!
جوعى محاصرون فوق رؤوسهم قصف عشوائي لا يرحم رضيعًا ولا شيخًا، تختلط عليهم أصوات بكاء الصغار الجوعى وأصوات مكبرات المساجد المستغيثة للتبرع بالدم، على إثر مجازر أوقعتها الحكومة فيهم، وتنظيم مُسلّح، يفرض بعنجهية، أوامر لمُحاصر جائع، بارتداء زيّ ما!
منذ أكثر من عام، ومدينة الفلوجة بمحافظة الأنبار العراقية، مُحاصرة بلا غذاء أو دواء، بخاصة قبل خمسة أشهر، عندما بدأ الحصار المُحكم، حيث لا سبيل للدخول أو الخروج، كما الحال مع الكهرباء والمياه، والمُشتقات النفطية، في بلاد النفط. يرى أهالي المدينة المنكوبة، أن الجميع يقف ضدها: الحكومة العراقية والميليشيات الداعمة لها، وإيران، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
فقط في الفلوجة سترى خُبز النوى
يُحاول مُصطفى المحمدي (35 عامًا) أن يتماسك وهو يحكي لـ«ساسة بوست» عن مشاغله اليومية. رب الأسرة المكونة من 17 فردًا، يُحاول الوصول إلى قدرٍ كافٍ من نوى التمر لصناعة الخُبز منه غذاءً لأسرته.
قال لنا المحمدي، إنه ذهب صباحًا لشراء كيلوين من نوى التمر، سعر الكيلو الواحد ثلاثة آلاف دينار عراقي (3 دولارات أمريكية). طحنتها الزوجة، ثُم عجنتها بالماء وصنعت منها الخُبز، الوجبة الوحيدة للأسرة لهذا اليوم. يقول مُصطفى المحمدي: «أجتهد كي أُمكّن أسرتي من تناول وجبة واحدة لهذا اليوم».
تحدثنا أيضًا إلى شقيق مُصطفى «أبو ياسر» الوحيد في أسرته الذي استطاع الخروج من الفلوجة في ديسمبر (كانون الأوّل) 2014. الحقيقة أن أبا ياسر لم يحمل جديدًا عن الوضع في الفلوجة المُحاصرة، إذ أكّد أيضًا على أن خبز القمح استُبدل بخبز نوى التمر، والغذاء أحيانًا يكون علف الحيوانات.
بقرة واحدة يشرب منها الجميع!
قصة مُثيرة روتها لنا أم مصطفى، عن «محطة الرزق»، وهو الاسم المُتداول لبقرة حلوب مصير أطفال إحدى مناطق الفلوجة مُرتبط بها، لذا فإن أهاليها يتكتمون عليها قدر المُستطاع. «الناس يلتزمون في طوابير ليلًا ونهارًا، ليأخذ كلُّ واحدٍ كوبًا من حليب البقرة، لأطفاله».
البقرة محطة الرزق، تملكها أرملة، «وهبت حليبها لوجه الله»، كما تقول أم مُصطفى، وتزيد: «إذا لم يمت الأم أو الأب جوعًا في الفلوجة، فإنهما يموتان قهرًا وعجزًا أمام أطفالهما الباكين من الجوع».
انتحار الجوعى
قبل أيام، انتشر مقطعٌ مصور لحادث انتحار أُم من الفلوجة، مع أبنائها، في نهر الفرات. كانت الصورة مُفجعة بالنسبة لمن رآها من خارج المدينة العراقية المُحاصرة، لكن أهالي المدينة اعتادوا الأمر، فسلسلة من الانتحارات لأسر كاملة، تحدث دوريًّا، بسبب الجوع غالبًا.
أبو حافظ (30 عامًا)، يقول إن جاره قد رأى عصر أحد الأيام القريبة، شابين أقدما على الانتحار بإلقاء نفسيهما من أعلى جسر على نهر الفرات. لكن القصة الأكثر فجعًا بالنسبة للرجل الثلاثيني، كانت انتحار صديقه قبل شهرين؛ «لأن خُبزه ما عنده»، بتعبير أبي حافظ، الذي يُفسر إقدام صديقه على ذلك، بأنّه لم يستطع الانتظار طويلًا أمام عجزه عن سد جوع أسرته المكونة من زوجته وثلاث بنات وولد واحد. يقول أبو حافظ: «كانوا يبكون من الجوع، فشنق نفسه للتخلص من الشعور بالعجز».
الحكومة العراقية و«تنظيم الدولة»
منذ عام، ويسيطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الفلوجة. لكنّ شيئًا مما قامت ثورة العشائر من أجله لم يحدث، لقد ازداد الوضع سوءًا، ومع «تنظيم الدولة»، أثقلت كواهل أهالي المدينة، بأوامر على شاكلة «لبس البوشية» بالنسبة للنساء، و«إطلاق اللحى» و«تقصير الثوب» بالنسبة للرجال.
بات سكان المدينة بين ناري حكم «تنظيم الدولة»، وحصار الحكومة العراقية والميليشيات الشيعية. وفقًا لأبي حسن (45 عامًا)، فإن قصف الحكومة للمدينة عشوائيُّ، ما يؤدي إلى سقوط عشرات القتلى يوميًّا. يجهش أبو حسن بالبكاء، قبل أن يُجاهد ليتماسك، ويُكمل: «الفلوجة بها أكثر من 150 ألفًا من الأبرياء، الذين يعيشون تحت مطرقة داعش والميليشيات الحكومية العراقية».
حملة «الفلوجة تُقتل جوعًا»
العديد من الحملات التي حاول أهالي المُحاصرين، ونشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إطلاقها؛ بُغية إظهار حقيقة الوضع «المأساوي» لأهالي الفلوجة. من هذه الحملات، كانت حملة «الفلوجة تُقتل جوعًا»، التي أنشأ القائمون عليها صفحة على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، وصل عدد المُشتركين بها إلى أكثر من 30 ألفًا.
التقى «ساسة بوست» بأحد القائمين على الحملة، ويُدعى محمد العلواني. يستمر العلواني في سرد تفاصيل المعاناة اليومية. وبحسبه فإن نحو طفل رضيع يموت كل بضع ساعات، حددها بخمس ساعات. حتمًا هذا الرقم مُفجع، كحقيقة أنّ الناس باتوا يأكلون أي شيء تقع أيديهم عليه، كعشب الخبّاز، الذي اعتاد الأهالي إطعامه للماشية. وبالإضافة إلى خبز نوى التمر، ثمّة نوع آخر يُصنع من بعض علف الطيور، المُسمى «الدخن».
هدف الحملة التي يعمل العلواني بها مُتطوعًا، هو «إنقاذ أهالي الفلوجة بغض النظر عن النزاعات وأطرافها». لكن الواقع المُقابل لطموحات هؤلاء الشباب، هو أن هذه النزاعات ما تزال قائمةً بلا حل لائح في الأفق. «لم يعد الوضع مُحتملًا»، كما يقول العلواني، مُدللًا على ذلك، بأن سعر الطحين وصل إلى مليون وربع المليون دينار عراقي ما يعادل نحو 1150 دلار تقريبا!