من الأرشيف

تركيا بين الرمزية التاريخية والمعاصرة وصراع المصالح الاقتصادية

يراقب الاوروبيون خطاب الأتراك الموجه هذه الايام نحو أوروبا بحذر شديد وبدرجة عالية من الحساسية والاهتمام.. وبعيداً عن الضجيج الاعلامي فإن هذا الخطاب يحظى بتحليل خاص ودقيق من قبل المراكز السياسية المختصة لقراءة ما يحمله من مضامين، خاصة وأن الاتهام بالنازية والفاشية لأنظمة أوروبية رسمياً قد حرك موجات هائلة من السخط ومن الخوف معاً في المجتمعات الأوروبية.

أوروبا على ما تتميز به من استقرار وتقدم... تعيش حالة من الخوف الناشئ عن التطورات الداخلية التي يخشى أن تتقلص فيها مساحة التعايش والانفتاح على العالم وخاصة بعد أصبح العالم من وجهة بعض نخبها المؤثرة مجرد عنوان للهجرة اليها، أو متآمر عليها، أو مصدر قلق على أمنها واقتصادها.

يصور اليمين الاوروبي المتطرف ومعه قطاعات واسعة من النخب السياسية والثقافية والإعلامية الليبرالية الخطاب التركي بأنه يعبر عن رؤية المسلمين لأوروبا مما يدفع من وجهة نظرهم بخطاب أوروبي متطرف تجاه الاسلام، ورغم أن هذه النخب تعبر بالعلن عن قلقها ورفضها لهذا الخطاب الصادر من قلب اوروبا المعاصرة، إلا انهم وفي قرارة انفسهم يرونه خطاباً يليق بالخطاب الرسمي "المتشدد"، من وجهة نظرهم، القادم من الضفة الاخرى.

ويستدلون على ذلك بالإشارات المتكررة للخطاب الرسمي التركي لما يسميه "فوبيا الاسلام" لدى اوروبا، وهو ما يجعل الصراع الجيوسياسي بين الطرفين محشواً بصيغ معقدة من تاريخ الصراع الديني.

هذا الخطاب أنعش خطاب اليمين المتطرف تجاه الاسلام، وبدأ يكسبه المبررات وسط المجتمع الاوروبي على نطاق واسع... الأمر الذي يجعل مسئولية تركيا حاسمة في العودة بالخلاف إلى وضعه الطبيعي، أي إطاره السياسي والاقتصادي، وعلى النحو الذي يسحب من التطرّف الاوروبي أي مبررات لتغذية الصراع على اساس ديني.. وهذا بالطبع لا يعني أن تركيا تتحمل مسؤولية ما يجري الان، ولكن لما تمثله من رمزية تاريخية ومعاصرة للإسلام في أوروبا.

تطور تركيا يوقظ هواجس تاريخية في هذه القارة.. ولذلك فإنه لا بد أن يرتبط هذا التطور المعاصر بصيغ سياسية للتعايش والتفاهم، وبأدوات تدير المصالح المشتركة على نحو يطمئن الجميع.

الصراع السياسي الاقتصادي لا بد أن يبقى في نطاق مفاهيمه المجردة من التنوع والاختلاف الديني والثقافي الذي يثير إشكالات لا يمكن أن تقدم أساساً لحل الخلافات بين الامم إلا باعتبارها معتقداً لكل أمة.. لا يجوز التعدي عليه.. كما لا يجوز حشره في الصراع السياسي والاقتصادي أو توظيفه كمظلة للمصالح المادية المتصادمة على الارض.. يجب أن يظل عنواناً للتعايش والتفاهم وتيسير العلاقات الدولية لا تعقيدها.

*سفير اليمن في بريطانيا

زر الذهاب إلى الأعلى