الأقاليم مرحلة ستنتهي.. والناتج العملي، إذا ما سار اليمن في هذا الطريق، هو على الأرجح التقسيم إلى إقطاعيات ومناطق خضراء. وكل ما حدث بمؤتمر الحوار هو محاولة القوى الدولية الكبرى انتزاع شرعية لأفعالها وأفعال القوى التابعة لها وإزاحة ما تبقى من الدولة والممتلكات العامة من أيدي الداخل واقتسامها بين الخارج. تحت شعارات براقة بالتغيير ومحاربة مراكز القوى التقليدية... وما إلى ذلك من الشعارات والتبريرات.
***
ولنأخذ أمثلة على المغالطات السياسية والتضليل: تتحدث وثائق مؤتمر الحوار وتصريحات الرئيس عبدربه منصور هادي وبيانات المبعوث الأممي جمال بن عمر، عن "دولة موحدة" على أساس "اتحادي"، ويعلم أدنى متخصص أو مراقب، أن هذا الكلام غير دقيق، فالدولة إما موحدة أو اتحادية، ويمكن أن تجمع صفات مشتركة.. لكن هذا أولاً وأخيراً يعتمد على قوة ورسوخ الدولة المركزية.
ويتحدث رئيس الجمهورية أيضا عن أن الخطوات الاتحادية لا تمس وحدة البلاد، والمعلوم أن الانتقال من دولة موحدة إلى اتحادية بالمعنى الفدرالي والموضح في وثائق الحوار يعني تقسيم السيادة وتقسيم الدولة إلى كيانات مستقلة ذاتياً سلطة (تشريعية، تنفيذية، قضائية). ينقصها خطوة واحدة للانفصال التام.
ويقول الرئيس هادي والمدافعون عن المخرجات بشكل عام، إن العالم يتجه نحو النظام الاتحادي وإنه "النظام الحديث على مستوى العالم ومعظم الدول" بتعبير الرئيس، والمدقق يعلم أن هذا الطرح ينطلق من مغالطة واستخفاف، إذا المعروف أن الدول الاتحادية تصل نحو 30 دولة، أغلبها نشأت باتحاد كيانات متفرقة، مقابل وجود ما يزيد عن 170 دولة بسيطة.. ثم إن كل دولة حسب ظروفها. بالإضافة إلى أن الدول الحديثة التي تتحول من موحدة إلى اتحادية أغلبها وقعت في مصيدة التدخلات الدولية والنكبات، مثل السودان، والصومال، والعراق، والبوسنة والهرسك، وكلها دول تم فدرلتها بواسطة فرق دولية في فنادق، وبآلية وفريق نفسه الآن يعمل في اليمن. وأغلب هذه الدول لا تزال في دوامات داخلية تمنع نهوضها على المدى القريب.
إن هذه المغالطات المقدمة من أعلى مستوى مسؤول، وفي قضايا مصيرية- يفترض أن تتم خطواتها على قدر عالٍ من الشفافية والدقة والحساسية - ما هي إلا دليل على مدى الإجراءات الخطيرة المتخذة التي تنذر بالمجهول.
**
من خلال دراستنا في موضوع الفيدرالية وتجارب تطبيقها العربية والدولية، ومن خلال قراءتنا ومتابعتنا لمؤتمر الحوار منذ انطلاقه قائماً على المناصفة الشطرية، ومن خلال النظر إلى تطورات الوضع اليمني كجزء من خارطة تشهد نوعاً متسارعاً من التحولات، توصلنا، إلى أن الفيدرالية والأقاليم - في هذا الوضع - ليست سوى خطوة للعودة إلى مرحلة سبقت الدولة، وبعد الوصول إلى نقطة اللادعوة - لا قدر الله - سيختفي الحديث عن الأقاليم والدولة الاتحادية ويصارع الناس في دوائر اجتماعية ومناطقية ضيقة لن يفرغوا منها.
الأقاليم موضوع يؤدي إلى تشتيت جهود الناس عن مشروع بناء الدولة والحفاظ على منجزات الدولة الوطنية وجهود المجموع الوطني خلال العقود الماضية ويتنازلون عنها، فبدلاً عن أن نفكر ببلدنا ككتلة واحدة، نسلم بالأمر الواقع المفروض بقوة التخريب والضغط الدولي، وتتوزع جهود الكادر الوطني وكل ذي قدرة، ليبحث كل عن ذاته ووطنه في دائرة ضيقة اسمها الإقليم، ليس لها أي بناء مؤسسي أو شخصية كيان سياسي راسخ على أرض الواقع. وما إن يبدأ بالانشغال ببناء ما لن يتمكن من بنائه أو إنجاحه بسهولة، إلا وقد ضاعت فرصة الدولة البسيطة والشعب الواحد، التي كانت قد قطعت عقوداً من الزمن.
واللامركزية - في ظل هكذا وضع محلي ودولي - وهم كبير، وليست أكثر من طعم مسموم للتناول، فالعالم في الواقع يتجه نحو المركزية بحكم القطب الأوحد والقوى المهيمنة. وإن نزع السلطة من صنعاء، في ظل ضعف الدولة وعدم وجود مؤسسات للأقاليم، لن يكون للسلطات محلية، بل إن كل عاصمة من عواصم الأقاليم والمحافظات ستفقد ما لديها من صلاحيات في ظل الدولة الوطنية. وتنتقل إلى مركزية شديدة، وهي مركزية العواصم الخارجية التي تتقاسم بلادنا الآن (العواصم الخارجية لا تتعامل في الخارج مثل الداخل فيها). فهذه الدول لها رجالها الذين تستعد لتنصيبهم في الأقاليم وإدامة الفوضى. وإلا ما معنى هذه التشجيع والمباركة لخطوة يدرك أدنى قارئ محايد للصورة أنها مستحيلة التطبيق في هذا الوضع، لأبسط الأسباب وهو الميزانية المالية التي لا تكفي الحكومة الحالية، فكيف يمكن أن تغطي حكومات بعدد الأقاليم والمحافظات؟ ولماذا هذا التغني بنجاح الحوار، وأنتم تعلمون ما يجري على الأمر الواقع من صراعات مسلحة واستهداف للجيش والأمن وتدهور في أداء مؤسسات الدولة وتصاعد النعرات المناطقية؟ بماذا يهنئون اليمنيين؟
اليمن إذا ما واصلت القوى السياسية هذا الطريق، على أبواب حفرة قد تكون من ذلك النوع من النكبات التاريخية، كالتي تعرض لها الصومال والعراق. فالنكبة من الداخل تكون بنظام استبدادي أو إدارة فاسدة، أما عندما يصبح الوطن ملعباً للقوى الدولية فإن النكبات تكون من نوع قد يمتد لعقود.
ونذكر - في هذا السياق - أن المرحلة القادمة لا يستبعد فيها تدخل دولي مباشر لاستهداف كل من يحاول إنقاذ ما تبقى من الدولة بحجة أنه يعرقل التسوية. والقرار القادم من مجلس قد يكون أول قرار يشير ليمن غير موحد، طبقاً لنتائج مؤتمر الحوار الذي أقر نتائج شطرية واتحادية.
**
لا تغرفوا من "السواقي الضحلة" بالحديث عن التمديد أو البقاء في السلطة أو المحاصصة، هذا كله ليس سوى مرحلة. الهدف أبعد من وهو استهداف هو الجمهورية اليمنية وإيجاد فلسطين وعراق وصومال في كل دولة بواسطة أهلها. وأنتم تعلمون أين ذهب العراق وسوريا.. والسودان وليبيا يلحقان بالقلاقل والتحديات.. والتغيير المقر في مؤتمر الحوار يستهدف تكسير الدولة أرضاً ومجتمعاً وسلطة.. وبالتالي التحديات الحالية هي تحديات وجودية وليس متعلقة بعنصر واحد من عناصر الدولة متمثلاً، في من يحكم وكيف يحكم؟.
كان لنا دولة قد قطعت شوطاً كبيراً في المنطقة، دولة ديمقراطية موحدة وبلد واعد.. وموقع استراتيجي.. استغرقت ماكينة الفوضى الهلاكة العديد من السنوات لإقناع الناس بالتخلي عنها، وبعدها قد لا نجد أفضل منها. وإننا نشبه ذلك الذي ذهب لشراء "تيس" وفي الطريق توزعت عصابة من ثلاثة في أماكن متفرقة. عندما مر من الأول، سأله: بكم اشتريت هذا الكلب؟ فتعجب من السؤال، قطع مسافةً ورأى الآخر، فكرر نفس السؤال، فبدأ يشك بالأمر. وواصل المسافة، حتى رأى الثالث، لماذا هذا الكلب؟. صدق الرجل. وفرط به. فأخذه اللصوص.
**
ليست هذا تشاؤماً، بقدر ما هو تحذير من مخاطر واقعية ومسارات محتملة، إذا ما استمر القفز إلى المجهول والخطاب السياسي المضلل. وليست هذه النتائج حتمية على اليمنيين، بل لا يزال بأيديهم الحفاظ على البلاد ومواجهة التحديات.
(مشاركة أعدت كمداخلة في ندوة بقسم العلوم السياسية بجامعة صنعاء الخميس الماضي).