البكاء بين يَدَيْ صنعاء

الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح - نشوان نيوز - البكاء بين يَدَيْ صنعاء

للحبِّ فوقَ رمالِها طللُ
منْ حولِهِ نبكي، ونحتفلُ

نقشتْهُ كَفُّ الشوقِ في دَمِنا
وطوتْهُ في أعماقِنا المقلُ

هوَ حُلْمُنا الباقي، ومعبدُنا
وصلاتُنا، والحبُّ والغزلُ

منْ أجْلِها تصفو مودَّتُنا
ولِحُبِّها نشقى، ونقتتلُ

شابتْ مآسينا، وفرحتُنا
وتمزَّقَتْ في دربِها الدُّولُ

وشبابُها الرَّيّانُ ما برحَتْ
أزهارُهُ تندى، وتكتملُ

صنعاءُ يا أنشودةً عبقَتْ
وأجادَ في إنشادِها الأزلُ

إنْ أبعدتْني عنكِ عاصفةٌ
وتفرَّقَتْ ما بينَنا السُّبُلُ

فأنا على حُبّي، وفي خجلٍ
روحي إلى عينيكِ تبتهلُ

ألقاكِ منتصراً ومنكسراً
وعلى جناحِ الشعرِ أرتحلُ

يجتاحُني شوقٌ، ويسحقُني
شوقٌ، وفي التَّذْكارِ أشتعلُ

ما نجمةٌ في الأفْقِ عابرةٌ
إلاّ هتفتُ بها: متى نصلُ؟

ومتى على الكفَّينِ راحمةً
هذا الغريبَ الدّارِ ينتقلُ

(نُقُمٌ) تُلَوِّحُ لي منائرُهُ
عَبْرَ البحارِ، وتومئُ الشُّعَلُ

إني، إلى صنعاءَ، يحملُني
وجهُ النهارِ، وترحلُ الأُصُلُ

وأعودُ طفلاً كلَّما ذُكِرَتْ
ويغيبُ وَسْطَ حريقيَ الرَّجُلُ

فمتى تظلِّلُني مآذنُها،
ويضيءُ منْ أحضانِها الجبلُ؟

لم يبقَ في الأيّامِ منْ سعةٍ
حانَ الرَّحيلُ، ونوَّرَ الأجلُ

أأموتُ يا صنعايَ مغترباً
لا الدَّمعُ يدنيني، ولا القُبَلُ؟

أوراقُ أيّامي، أبعثرُها
وأعيشُ.. لا يأسٌ ولا أملُ

يا أمَّنا جاعتْ مواسِمُنا
واستبطأَتْ أمطارَها اليمنُ

أكلَ الذُّبابُ جنينَ فرحتِها
وسَطا على أشبالِها الوهنُ

كانتْ تظنُّ الصيفَ قادمةً
أمطارُهُ، والخِصْبُ، واللَّبَنُ

لكنّها - وا هَوْلَ ما شَهِدَتْ! -
لا الخيلُ تعصمُها، ولا القُنَنُ

غرقَتْ بِوَحْلِ العمرِ، وانطفأَتْ
في ليلِها الشُّطْآنُ، والسُّفُنُ

واستسلمَتْ للجدبِ لا (كَرِبٌ)
يروي مواسِمَها، ولا (يزنُ)

كانتْ تخافُ الموتَ منْ (حسنٍ)
فأماتَها منْ خوفِها (حسنُ)

وتمرَّدَتْ ليلاً على وثنٍ
فاغتالَها في فَجْرِها وثنُ

أبكي على أيّامِنا اندثرَتْ
أشواقُها، والحُلْمُ، والمدُنُ

ويقولُ لي صحبي: كفى حَزَناً
ماذا يفيدُ الدمعُ والحَزَنُ؟

أألامُ يا أمّاهُ إنْ يبسَتْ
عيني، وأثمرَ حولَها الشجنُ؟

أبكي شباباً جَلَّ مصرعُهم
في ليلةٍ وضّاحةٍ دفنوا

رحلوا بلا زادٍ، بلا كفنٍ
أجفانُنا وقلوبُنا الكفنُ

سأظلُّ أبكيهم، ويغسلُهم
عَبْرَ التغرُّبِ دمعيَ الهتِنُ

حتى تَضِجَّ الأرضُ ثائرةً
ويصيحَ منْ أعماقِها الوطنُ

لَبَّيْكِ يا (صنعاءُ) نحنُ هنا
لا الموتُ يدركُنا، ولا الزمنُ

فُرْسانُ عصرِ الشمسِ ما بَرِحَتْ
راياتُهم تدنو، وتقترنُ

أرأيتِهم؟ في الأرضِ منْ دَمِهم
عَبَقٌ، وفي أجفانِها وَسَنُ

وسماسرُ البترولِ تصلبُهم
أحلامُنا الجوعى، وتمتهنُ

خانوا فما ربحتْ تجارتُهم
ومشتْ على أشلائِهم (عَدَنُ)

للغادرينَ النارُ تحصدُهم
ولكِ الخلودُ الخِصْبُ يا يَمَنُ.

1972م

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى