على تغريبة ابن زريق البغدادي

الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح - نشوان نيوز - على تغريبة ابن زريق البغدادي

غادر ابن زريق بغداد، تاركاً زوجته، التي أحبها

كثيراً، وفي الغربة مات كمداً، وعند وسادته

عُثِرَ على قصيدته التي يتحرّق فيها شوقاً إلى

الحبيبة، التي اضطر لفراقها تحت وطأة الفقر

بكى.. فأورقَتِ الأشجانَ أدمعُهُ
وأثمرَتْ شَجَرَ الأحزانِ أضلُعُهُ

النارُ تكتبُ في عينيهِ لوعَتَهُ
ويحفرُ الشَّوقُ فيها ما يُلَوِّعُهُ

ناءٍ تغرَّبَ في الأيّامِ زورقُهُ
وتاهَ في ظلماتِ الأرضِ مَشْرَعُهُ

تَغَرَّبَتْ في نَواهُ كُلُّ نافذةٍ
منْ خَلْفِها الوطنُ الدّامي يُرَوِّعُهُ

ما ليلةٌ منْ بناتِ العمرِ مهدرةٌ
إلاّ وتؤلِمُهُ الذِّكْرَى، وتوجِعُهُ

تُرَى يعودُ إلى أحضانِ قريتِهِ
تَضُمُّهُ أمُّهُ الثَّكْلَى، وترضعُهُ

عيناهُ ما ذاقَتا نُعْمَى، ولا عرفَتْ
جفونُهُ الغَمْضَ إلاّ ارتَدَّ يفجعُهُ

ينامُ في عَدَنٍ، في حُلْْمِ يقظتِهِ
وينثني وعلى الأشواكِ مضجِعُهُ

ويشتكي لِذَمارٍ هَمَّ رحلتِهِ
فتنكرُ الرِّيحُ شَكْواهُ، وتبلَعُهُ

تقاسمتْهُ الدُّروبُ السُّودُ، واشتعلَتْ
أقدامُهُ، في فيافيهِ، وأذرعُهُ

عيناهُ في المنفى

تحدِّقانِ للرَّمادْ

تحترقانِ شوقاً عاصفاً

لعلَّ (رَخَّ) سندبادْ

ينهضُ منْ رمادِهِ

يعيدُهُ للوطنِ القاطنِ في أعماقِهِ..

للوطنِ الميلادْ.

لم تصنعِ الأماني الخضرُ منفاهُ

ولا توهَّجَتْ في قلبِهِ أحلامُ سندبادْ،

لم يهجرِ (الكَرْخَ) لأنّهُ أحبَّ المالَ..

مالُ الأرضِ في (بغدادْ).

والشرقُ والغربُ

سحابةٌ تمطرُ في (بغدادْ)

لكنّهُ أحبَّ وجهَ الشمسِ،

حينَما (الكَرْخُ)

ووجهُ (بغدادَ) ملطَّخٌ بالقارِ

بالسَّوادْ..

فاحتضنَ الرَّحيلُ وجهَهُ الباكي

أَسْلَمَهُ المنفى إلى المنفى،

منْ قبضةِ الظلامِ الوثنيِّ للظلامْ

والقمرُ الذي وَدَّعَهُ بالأمسِ

يرتمي في الأَسْرِ..

تأكلُ القُضْبانُ وجهَهُ الجديدْ.

منْ ينفضُ الأشجانَ حولَ قبرِهِ؟

منْ ينفضُ الرَّمادْ؟

تقيَّحَتْ أيّامُهُ رُعْباً

تناثرَتْ على طريقِهِ أسئلةٌ

جريحةُ الأبعادْ.

ماذا أكونُ؟ لمنْ أبكي؟ ألا وطنٌ
في ظِلِّهِ يرتوي عمري، وأزرعُهُ؟

قد كانَ لي، ثمَّ أضناني تمزُّقُهُ
وهالني في ظلامِ اللَّيلِ مصرعُهُ

(وَدَّعْتُهُ، وَبِوِدّي لو يُوَدِّعُني
صَفْوُ الحياةِ، وأني لا أودِّعُهُ)

بعدْتُ عنهُ لأبكيهِ، وأبعثَهُ
منْ قبرِهِ، هل أنا بالبعدِ أخدعُهُ؟

أكادُ ألمحُ عنْ بُعْدٍ طلائعَهُ
تقيمُ جسرَ أمانينا، وتشرِعُهُ

الميِّتُ الحيُّ.. كم نَشْقَى بغفوتِهِ
وكم يطيلُ مآسينا تَمَنُّعُهُ

يدنو، وينأى، وفي عيني مواجعُهُ
وفي الضميرِ مراياهُ، ومخدعُهُ

حملتُهُ بينَ أفكاري على عجلٍ
فما تركتُ سوى ما كانَ يفزعُهُ

متى تغادرُ كهفَ الأمسِ، تهجرُهُ
تعيدُ معبدَ (بلقيسٍ) ، وترفعُهُ؟

يا أنتَ، يا وطنَ الأحزانِ، يا حُلُماً
أحيا بِهِ وَهْوَ إلهامي، ومرجعُهُ

بلا وطنْ

تفتَّتَتْ أقدامُهُ على طريقِ اللَّيلِ

والشَّجَنْ

يرضعُ في عينيهِ جُرْحَ (يعقوبَ)،

تخونُهُ ذاكرةُ النَّفْيِ،

ويوسفُ اختفى عريانَ،

لا قميصَ..

هل يردُّ ضوءَ عينيهِ

ويوسفَ المشرَّدَ، الزمنْ؟

تذبلُ،

تبهتُ الأشياءُ في عالَمِهِ الأعمى..

عالَمِهِ المسدودْ،

تطعنُهُ مخافرُ الحدودْ

والرِّيحُ - خيلُ النَّفْيِ-

لا تَني تحملُ ظلَّهُ

تنشرُهُ غمامةً ظامئةً على التلالْ

تزرعُهُ دمعاً على جبالِ الوطنِ الجريحِ،

في حقولِ الجدبِ،

نيراناً على الرِّمالْ.

- حبيبتي

- مدينتي

لا صوتَ

لا نشيجَ، لا بكاءْ..

تصاعدَتْ منْ بئرِ (يوسفَ) الأصداءْ:

- عريانَ لا قميصَ لي أبعثُهُ في العِيْرْ،

- هل تبعثُ المدينةُ النّائمةُ الخرساءْ

بشارةً - إليهِ - قطعةً منْ ثوبِ عرسِها الجديدْ؟

صنعاءُ طالَ انتظارُ الفَجْرِ واحترقَتْ
خيولُهُ، وبكى - حزناً - تضرُّعُهُ

كلُّ العوانسِ في أحيائِنا ولدَتْ
وأنتِ عانسُ حيٍّ طالَ مهجعُهُ

هَيّا احْبَلي جبلاً، هيا احْبَلي بطلاً
ومنْ غزيرِ دمانا سوفَ نرضعُهُ

كنتِ الولودَ.. لماذا أجدبَتْ؟ ومتى
جبالُكِ الشُّمُّ، يا صنعاءُ، تطلعُهُ؟

وليدُنا القادمُ المحبوبُ، كم ذهبَتْ
أحلامُنا تتَمَلاّهُ، وتبدعُهُ

كنّا رأيناهُ في (أيلولَ) ممتشقاً
حسامَهُ، في ضلوعِ اللَّيلِ يدفعُهُ

فما لَنا، في منافي الشمسِ نطلبُهُ
كيفَ اختفى أينَ يا صنعاءُ موقعُهُ؟

إنْ كانَ يشكو هزالاً نحنُ نطعمُهُ
أو كانَ يخشى ظلاماً نحنُ نخلعُهُ

لا تخجلي منْ ضحايانا، فكلُّ دمٍ
يراقُ، في الجسدِ المهزولِ مجمعُهُ

وكلُّ ذَرَّةِ رملٍ فيكِ وجهُ فَتَىً
منْ أجلِ عينيكِ يا صنعاءُ مصرعُهُ

متى يئوبْ؟

تحترقُ النجومُ في عينيهِ والدُّروبْ

مغترباً في ثوبِ (عوليسَ)،

فلا ريحُ الشَّمالِ أشفقَتْ على زورقِهِ

اللاّهثِ في بحارِها،

ولا نوارسُ الجنوبْ

صنعاءُ ترتدي غربتَهُ

حيناً غلائلَ الفَجْرِ،

وأحياناً ستائرَ الغروبْ.

يلمحُها في القمرِ الفِضِّيِّ

تارةً صبيةً سمراءْ

تعشقُها عيونُ الشمسِ والأنهارْ،

وتارةً يلمحُها - في قبضةِ الموتِ -

عجوزاً رَثَّةً عمياءْ

تثيرُ حزنَ اللَّيلِ والنهارْ،

منسيّةً في جُزُرِ النَّفْيِ،

على المرافئِ القديمةْ

راحلةً مقيمةْ.

تحملُها عيناهُ، مبحراً وقاطناً

يسألُ عنها الشّاطئَ الأحمرَ

يسألُ التلالَ الخضرَ، والسُّهوبَ..

- لا أحدْ

إلاّ ظلالُ امرأةٍ ثَكْلَى،

وَعَلَمٌ تنصبُهُ الرِّيحُ على الجنوبْ،

وزورقٌ خاوٍ، تُرَجِّعُ المياهُ حولَهُ؛

متى يئوبْ؟

متى يئوبْ؟

أستودعُ اللهَ في (صنعاءَ) لي قمراً
في الأسْرِ، سبتمبرُ المهجورُ مطلعُهُ

رأيتُهُ في ظلامِ اللَّيلِ مشتعلاً
وهزَّني في سُباتِ الكهفِ مدفعُهُ

أعادَ وجهَ بلادي بعدَ غربتِهِ
وكانَ يحلمُ.. أنّا لا نضيِّعُهُ

لكنَّهُ ضاعَ، في أبعادِ خيبتِنا
لا الوجهُ باقٍ ولا منْ جاءَ يرجعُهُ

حلمتُ لو أنني في الصَّحْوِ أشهدُهُ
وددْتُ لو أنني في الحُلْمِ أسمعُهُ!

هل يقدِرُ الشِّعْرُ منفيّاً، يردُّ لهُ
بريقَهُ، ومنَ الأشواقِ يجمعُهُ؟!

تكسَّرَتْ في اغترابي كلُّ قافيةٍ
وعَقَّني منْ خيولِ الشِّعْرِ أروعُهُ

لم يبقَ غيرُ نداءاتٍ مُجَرَّحَةٍ
يشدو بها الوترُ الباكي؛ فتلسعُهُ

أبكي بها، وَهْيَ تبكيني، ويجرحُني
أنينُها.. وعلى جُرْحي تُوَقِّعُهُ

جعلتُها صوتَ أشواقي إلى بلدٍ
الشِّعْرُ صوتُ هواهُ، وَهْوَ منبعُهُ

الشاعرُ (الضِّلِّيْلْ)

يكتبُ بالدَّمْعِ منَ المنفى،

قصائدَ العودةِ في أعماقِهِ

ينتظرُ الرَّحيلْ

تجترُّ لحنَ النَّفْيِ في انتظارِها

ترسمُ في حوائطِ المساءِ وجهَ الشَّوْقْ،

تسائلُ الشمسَ متى تعودْ؟

تسألُ طائرَ (الأصيلْ).

الجسدُ النحيلْ..

تمضغُهُ الغربةُ (قاتاً) يابساً

تشربُهُ على مقاهي الحزنِ (بُنّاً) نازحاً،

يشيخُ.. يَسّاقطُ لَحْمُهُ

عظامُ كبريائِهِ تصرخُ في عباءةِ

الدَّخيلْ

متى يعودُ للدِّيارْ؟

يشتاقُ، آهِ لو على أبوابِ (مأربَ) الغرقى

يموتُ واقفاً

تحضرُ دفنَهُ أعمدةُ السَّدِّ العتيقِ

والأحجارْ

تحضرُهُ حقولُ (البُنِّ) والنخيلْ

تنشرُ حولَ قبرِهِ

ظلاًّ منَ انتصارِها النّائي

وبيرقاً للحُلُمِ الجميلْ

للقادمِ الجميلْ.

القاهرة 19/9/1973م

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى