برقيّات شوق لصنعاء
الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح - نشوان نيوز - برقيّات شوق لصنعاء
البرقيّة الأولى:
كلَّ يومٍ إذا ما خلوتُ لنفسي
وألقيتُ أثقالَها
وشددْتُ الرِّحالَ على سفنِ الذِّكرياتِ،
رأيتُكِ طالعةً في عروقي دماً
في دمي شجراً،
ورأيتُ جدارَ الحصارِ
الذي كانَ يفصلُ ما بينَنا
يتلاشى،
وأذرعَنا تتلاقى،
وأجسادَنا ترتمي في العناقْ.
البرقية الثانية:
كلَّ أمسيةٍ
حينَ يسترجعُ اللَّيلُ أجسادَ أشواقِنا
يتسلَّلُ منْ جسدي طائرُ الشوقِ
يرحلُ منفرداً نحوَ (صنعاءَ)،
ثمَّ يعودُ قُبَيْلَ الصباحِ،
على عينِهِ منْ ترابِ الفراقِ جراحٌ
وفي القلبِ وجهٌ مُدَمَّى
وأوردةُ الرِّيْشِ مبتلَّةٌ بالدُّموعِ
ومحشوَّةٌ برمادِ الحنينْ.
البرقية الثالثة:
هوَ العشقُ مُهْرٌ منَ النارِ
يرتادُ أوديةَ القلبِ
يركضُ في سُرَّةِ الشمسِ..
في قصرِ (غَمْدانَ) أدركَ سِحْرَ الطفولةِ
شَقَّ ثيابَ الصَّبايا،
بساحاتِكِ الخُضْرِ شَبَّ
نما،
فلماذا يشيخُ؟
لماذا غدا قصرُ (غَمْدانَ) سجناً؟
وصارتْ دهاليزُهُ مَخْفَراً
وزنازنَ للعشقِ،
قبراً لأبنائِكِ العاشقينْ.
البرقية الرابعة:
وطنُ الشّاعرِ الأرضُ
وجهُ السَّماءِ قصيدتُهُ
والبحارُ مدائنُ عينيهِ..
- هل صَدَقُوا؟
- لا،
فمذْ غابَ وجهُكِ خلفَ دخانِ الفجيعةِ
صِرْتُ بلا وطنٍ،
تحتَ وجهِ السماءِ
وفوق البحارِ بلا وطنٍ
جرحُكِ النّازفُ المستفزُّ اليمانيُّ
كانَ
وسوفَ يظلُّ الوطنْ.
البرقية الخامسة:
يؤرِّقُني ويعذِّبُني البعدُ،
يسكنُني مطرُ الشوقِ
تسكنُني كائناتُ الحنينِ،
إلى الطّائراتِ شرايينُ قلبيَ مشدودةٌ،
وأغاني العتابِ تُفَجِّرُني
ترتوي منْ دمي،
صوتُ أقداميَ العارياتِ على الطينِ دمعٌ
أصابعُها في الموانئِ مصلوبةٌ،
وَمُسَمَّرَةٌ في العويلْ.
البرقية السادسة:
جسدي في الغيابِ
وروحي حضورٌ، وصوتي،
أنا الطفلُ ما اخْتَرْتُ للجسدِ الاحتراقَ
بنارِ التَّغَرُّبِ عنكِ،
ولكنّهُ وطني اخْتارَ صوتي
وأطلقَني في عيونِ المنافي بكاءً
وَجُرْحاً،
وأخَّرَ موتَ دمي؛
ربما احْتاجَني - حينَ أخَّرَني وطني -
للشَّهادةْ.
البرقية السابعة:
يتوارى النهارُ
يلملِمُ أثوابَهُ البيضُ،
ها هوَ وجهُ المساءِ يدقُّ النوافذَ
يفترشُ الرُّدُهاتِ الطويلةَ،
لا تستطيعُ المصابيحُ أنْ تمنعَ اللَّيلَ
منْ أنْ ينامَ على الطُّرُقاتِ،
ويمتدَّ فوقَ مدينتِنا
فوقَ أنهارِها عارياً.
ليتَ لي قمراً
منْ مصانعِ عينيكِ
يطردُ عنْ عالمي دَوَراتِ الظلامْ.
البرقية الثامنة:
قلتِ لي مَرَّةً:
إنَّ نارَكِ أكبرُ منْ حَجْمِ أفواهِهم،
إنَّ شوقَكِ للماءِ أوسعُ منْ رغبةِ الرَّمْلِ..
ماذا جرى؟
جذوةُ النارِ توشكُ أنْ تنطفي،
والرِّمالُ على الجسدِ الظامئِ الوجهِ تزحفُ؛
لكنَّ قلبَكِ حيثُ البحارُ العميقةُ تهدرُ
حيثُ الرِّياحُ المليئةُ بالنارِ تهدرُ،
قلبُكِ هذا الذي قلتِ لي مَرَّةً:
لنْ يموتَ،
سيبقى فتيّاً
عنيفاً، ونيرانُهُ لا تموتْ.
البرقية التاسعة:
تمرُّ القطاراتُ فوقَ دمي
حينَ تمضي جنوباً
وتبقى عظامي معلَّقَةً
في صخورِ الشَّمالِ..
لماذا إذا اشْتَقْتُ
كانتْ عيونُ القطاراتِ نافذتي
كانَ صوتُ القطاراتِ دمعي؟
لماذا تمزِّقُني، ثمَّ تنفضُني راحةُ الاغترابْ؟!
البرقية العاشرة:
زورقاً أتمنّى،
وهذا الظلامُ الذي يتوسَّطُ ما بينَنا
أتمنّاهُ بحراً لآتي إليكِ..
أنا سيّدُ العاشقينَ،
ومجنونُ ليلى / الترابِ..
أحبُّكِ هل تستطيعينَ إنكارَ صوتي،
مواجيدَنا في ليالي التوجُّسِ؟
هل تستطيعينَ إنكارَ وَجْهيَ؟ لا..
أنْكِري إنْ قَدِرْتِ،
القصائدُ منشورةٌ في النوافذِ
في واجهاتِ المنازلِ،
موقدةٌ في الشِّفاهِ
ومعشبةٌ في عيونِ الجبالْ.
البرقية الحادية عشرة:
اقْتَرَبْنا، ابْتَعَدْنا
ابتعدْنا، اقتربْنا،
ومذْ صارَ قربُكِ بُعْداً وبعدُكِ قُرْباً،
وصارَ دمي لا يطيقُ الفراقَ
وقلبيَ لا يقبلُ الفَصْلَ عنكِ،
انْطَفَأْتْ.
البرقية الثانية عشرة:
في الطريقِ إليكِ نشرْنا موائدَ أشواقِنا،
ودعونا إليها القلوبَ التي أثقلَتْها الدُّموعُ
القلوبَ التي خلعَتْها يدُ البَيْنِ..
ضاقَ فضاءُ الحنينِ
ولم يَتَّسِعْ للقلوبِ المشرَّدَةِ البحرُ.
أينَ نقيمُ موائدَ أشواقِنا
ومواجيدَ غربتِنا؟
ومتى يا مدينةَ قلبي نعودْ؟
البرقية الثالثة عشرة:
الوجوهُ التي تطعنُ العينَ مألوفةٌ
والوجوهُ التي تحملُ الدِّفْءَ للقلبِ
مألوفةٌ..
كيفَ أجمعُ بينَ الوجوهِ التي طعنَتْني
وتلكَ التي حفظَتْني؟!
وكيفَ أبارزُ تلكَ الوجوهَ السَّكاكينَ،
وَهْيَ تُجاملُني؟
أنتِ يا وطنَ القلبِ مثلي،
تضيعينَ بينَ زحامِ الوجوهِ
تضيعينَ في سَأَمِ الفَهْمِ،
لا تقدرينَ على الاختيارْ.
البرقية الرابعة عشرة:
يقولون: إنّكِ أصبحتِ عَجْفاءَ
إنَّ ضروعَكِ صارتْ لجرذانِ (مأربَ)
مزروعةً..
كلَّما ارتفعَ السَّدُّ في وجهِ جوعِ القُرَى
أعملَتْ فيهِ أسنانَها..
يتهاوى،
وتجرفُ أحجارُهُ أوَّلَ الفعلِ منْ خضرةِ
(البُنِّ)،
مطلعَ أغنيةِ الوردِ..
هل صَدَقوا؟
- ربما..
- أنتِ مسكينةٌ يا عجوزَ الزَّمانِ العجوزْ.
البرقية الخامسة عشرة:
حَدَّثَتْني الطيورُ التي هاجرَتْ
والتي كلَّ يومٍ تهاجرُ عنْ حبِّها
وعنِ الشوقِ للشَّجَرِ - البيتِ،
عنْ رعبِها منْ غبارِ المسافاتِ
والموسمِ المُرِّ،
هل تسمعينَ بكاءَ الطيورِ
إذا ما أتى اللَّيلُ،
وانطفأَتْ في الشواطئِ نافذةُ الحُلْمِ
واحترقَتْ في المرايا وجوهُ النهارْ.
البرقية السادسة عشرة:
الطريقُ إليكِ قريبٌ.. بعيدٌ،
وكلَّ صباحٍ أطالعُ وجهَكِ في الماءِ
أقرأُ عينيكِ في كلِّ وجهٍ سؤالاً
وخارطةً للبكاءِ
وفي قهوةِ (البُنِّ) ألقاكِ محروقةً
ومطاردةً،
صرتُ لا أشربُ (البُنَّ)
لنْ أشربَ الماءَ حتى أراكْ.
البرقية السابعة عشرة:
شوارعُكِ الباكياتُ الرَّماديّةُ اللَّونِ،
تسكنُ ذاكرتي
وترافقُني في الرَّحيلِ إلى مدنِ العشقِ
تبكي إذا ما رأينا الشَّوارعَ مغسولةً
والمنازلَ تضحكُ:
تسألُني: كيفَ يخرجُ إنسانُنا
وشوارعُنا منْ زمانِ البكاءْ.
البرقية الثامنة عشرة:
قد تطولُ ليالي الحنينِ
وتمتدُّ أشجارُها في الضُّلوعِ
وتسكنُ أجسادُنا مدناً خصبةَ الماءِ.
لكنّهُ أوَّلُ الحبِّ - عندَ الهوى -
آخرُ الحبِّ،
فلتحْفَظي سِرَّ أشواقِنا
أو فبوحي بِهِ..
فالشواطئُ تعرفُ قِصَّتَنا، والجبالُ.
على ساحةِ العينِ
والقلبِ محفورةٌ أنتِ
نابتةٌ في دمِ الرُّوحِ،
مثمرةٌ في نبيذِ الجسدْ.
البرقية التاسعة عشرة:
غَيَّرَ الحبُّ وجهَ المسافاتِ
صِرْنا قريبينَ ندخلُ في بعضِنا،
مذْ متى وأنا أتجوَّلُ في شفتيكِ
وأنتِ تعيشينَ في كَبِدي؛
فاركضي في شوارعِ قلبي
بأطفالِكِ الحافِيِينَ،
احْرِقي كلَّ بحرٍ يفرِّقُ ما بينَنا
كلَّ رملٍ يحاصرُنا،
وطنُ القلبِ أنتِ وتاريخُهُ
فاخْلَعي ما تبقَّى على الوجهِ
منْ جُرْحِكِ الملَكِيِّ القديمْ.
البرقية العشرون:
آهِ سيّدتي!
طالَ ليلُ الحِدادِ
بعينيكِ جَفَّ نخيلُ الهوى،
أزْهَرَ الحزنُ
أبناؤُكِ الأنقياءُ يموتونَ
يغتربونَ،
متى يا مدينةَ قلبي يعودُ النهارُ
المهاجرُ،
نشربُ نَخْبَ (الطويلِ)
و (عَيْبانَ)،
نأكلُ كَعْكَ الرَّبيعِ،
ونلعبُ بالوردِ في ليلِ (نَيْسانَ)،
يغسلُنا بعدَ دمعِ التَّغَرُّبِ
نهرُ الفَرَحْ؟
القاهرة 1976