(نتج الوضع الراهن في قطاع غزة عمليا عن "حل السلطة" طبقا لمواصفاتها حسب اتفاقيات أوسلو كجزء من عملية السلام، حيث تم فك الارتباط بين هذه العملية وبين إقامة سلطة وطنية فلسطينية حقا قائمة فعلا بالرغم من الاحتلال)
إعلان محمود عباس عدم رغبته في ترشيح نفسه مجددا لرئاسة سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، وبخاصة إعلانه عن "خطوات أخرى" يزمع اتخاذها، احتجاجا على انحياز إدارة باراك أوباما الأميركية إلى الموقف الإسرائيلي من استئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية ..
مما أفقده، أو كاد يفقده الأمل في عملية السلام نفسها التي عجز وصولها إلى طريق مسدود منذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام ألفين عن دفعه إلى اليأس منها -- قد جدد مطالبة سياسية فلسطينية واسعة تتجاوز الانقسام الفلسطيني الراهن بين حركتي حماس وفتح، بل إنها أقدم بكثير من هذا الانقسام، بحل السلطة الفلسطينية التي انبثقت عن اتفاقيات أوسلو.
إن التحذير الذي أطلقه مؤخرا رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير صائب عريقات من انهيار السلطة إذا فشلت الجهود الأميركية في تحريك "عملية السلام" يذكر بان وجود السلطة نفسه كان جزءا من هذه العملية، ومن المنطقي الاستنتاج بأن انهيار العملية يستتبع انهيار السلطة وإلا تحولت هذه السلطة إلى مجرد جزء "فلسطيني" من آليات الاحتلال لإطالة أمده.
وتتخذ هذه المطالبة أهمية خاصة في ضوء إعلان عريقات عن فشل المفاوضات، وتلويحه وغيره من القيادات الفلسطينية – مثل كبير مفاوضات الوضع النهائي السابق وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ورئيس وزراء سلطة الحكم الذاتي الأسبق أحمد قريع وأمين عام الجبهة الشعبية وعضو اللجنة التنفيذية للمنظمة الأسير أحمد سعادات من بين آخرين -- باستبدال "حل الدولتين" بالدعوة إلى "حل الدولة الواحدة"، ودعوات أخرى إلى "دولة ثنائية القومية"، ثم مؤخرا الدعوة إلى تسلم منظمة التحرير صلاحيات المجلس التشريعي لسلطة الحكم الذاتي لتحاشي حدوث فراغ "دستوري" وسياسي نتيجة تعذر إجراء انتخابات تشريعية للسلطة في الموعد المقرر بسبب الانقسام الفلسطيني، وغير ذلك من ظواهر الأزمة التي يعيشها الوضع الوطني الفلسطيني سواء داخليا أم على مستوى "عملية السلام" أو على صعيد المقاومة.
وكل هذا مؤشر قوي إلى أن الحركة الوطنية الفلسطينية هي على مفترق طرق حاليا، فكل الدعوات السابقة تنسف "إعلان الاستقلال الفلسطيني" عام 1988 الذي كان الأساس لكل العمل الوطني الفلسطيني منذ ذلك الحين وحتى الآن، وبالتالي فإن التسرع في اتخاذ قرارات متعجلة قبل إجراء مراجعة وطنية نقدية ذاتية لكل المسيرة التي أعقبت ذلك الإعلان سوف يزيد الأزمة الوطنية الفلسطينية تعقيدا، فعواقب أي حل متعجل لسلطة الحكم الذاتي لن تقل خطورة عن العواقب التي ما زال الوضع الفلسطيني يعاني منها نتيجة قرار القيادة التفاوضية لمنظمة التحرير التخلي عن المقاومة واعتبارها "إرهابا" مما قاد إلى الانقسام الراهن، ومثل هذه المراجعة تقتضي توافقا وطنيا فلسطينيا مسبقا تزداد الحاجة الماسة إليه الآن أكثر من أي وقت مضى.
لكن المفارقة أنه بالرغم من الطريق المسدود الذي تعيشه عملية السلام منذ تسع سنوات فإنه يجري في الوقت نفسه تعويم السلطة بمنح الدول المانحة ودعمهما السياسي ومباركة الاحتلال، بينما ينفض الدعم الشعبي لها كما أثبتت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة التي حملت حركة حماس المعارضة لهذه العملية إلى السلطة، ليجري استخدام الانقسام الفلسطيني اللاحق كساتر دخاني يغطي على الحقيقة الأهم المتمثلة في انفصام العلاقة الجدلية بين استمرار عملية السلام وبين استمرار السلطة، وهذا الانفصام هو الإطار الموضوعي للمطالبة بحل السلطة، وهذه بدورها مطالبة تتردد في إطار منظمة التحرير التي انخرطت في عملية السلام والتي تتخذ السلطة منها عنوانا لها -- لم يعد مقنعا على نطاق واسع في الأوساط الفلسطينية -- مما أعطى مصداقية قوية لطعن حماس في مصداقية المنظمة ولحملتها على دور السلطة.
وإذا كان اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين عام 1995 إعلانا مدويا عن المعارضة الإسرائيلية الواسعة لاتفاقيات أوسلو التي انبثقت السلطة عنها، بدليل انتخاب رئيس وزراء دولة الاحتلال الحالي بنيامين نتنياهو في ولايته الأولى وهزيمة شمعون بيريز الشريك الآخر لرابين، والتي أعلن خلف رابين اللاحق أرييل شارون عن "موتها"، فإن إعادة احتلال المناطق المخصصة للسلطة بموجب تلك الاتفاقيات عام 2002 ثم حصار شريك رابين الفلسطيني فيها الراحل ياسر عرفات داخل مقره حتى تسميمه واستشهاده عام 2004 كان بدوره بمثابة قراءة الفاتحة على تلك الاتفاقيات، ليصبح التساؤل حول الهدف من استمرار وجود السلطة أكثر إلحاحا والجدل حول دورها أكثر حدة وطنية.
لكن السلطة ظلت معلقة بين الرؤية الإسرائيلية لدورها كوكيل للإدارة المدنية للحاكم العسكري الإسرائيلي يعطى وجها فلسطينيا للاحتلال يغطي على مشروعه الاستيطاني من جهة ويحسن صورة إسرائيل عالميا كدولة ساعية للسلام بدل رؤيتها على حقيقتها كدولة احتلال من جهة ثانية، وبين الرؤية الفلسطينية لها كسلطة "وطنية" انتقالية تمهد لقيام دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967. ولم يعد هناك شك الآن في أن غالبية لا بأس بها من الشعب الفلسطيني أصبحت تتبنى الرؤية الإسرائيلية لهذه السلطة ودورها كما يستدل من تجدد المطالبة بحلها.
ولهذه المطالبة مسوغات قوية، إذ لم يعد الفلسطينيون يميزون بين كون السلطة الفلسطينية ذراعا لمنظمة التحرير الفلسطينية أم ذراعا للاحتلال، فالمطالبون منهم بحلها لا يطلبون حلها في حد ذاته، بل يطلبون انتزاعها من دور لها يرونه منسقا ومنسقا (بفتح السين ثم بكسرها) مع دولة الاحتلال وإعادة هذا الدور إلى حضن منظمة التحرير لخدمة برنامجها السياسي فقط، ويرون في استمرار تهميش دور المنظمة والمماطلة في تفعيلها وفي الجهود الحثيثة لاستبدال دور المنظمة بدور السلطة إصرارا على الاندفاع في الاتجاه الآخر يزيد في تدهور مصداقية السلطة "الوطنية" وطنيا.
وهنا لا بد من تسجيل حقيقة واقعة على الأرض تغذي الطعن في هذه المصداقية، فالسلطة المطالب بحلها موجودة في رام الله، أما تلك الموجودة في غزة والتي تطالب سلطة رام الله بحلها لأنها تعتبرها سلطة "انقلاب" عليها فإن شبهة الخلط المماثل في الدور الذي تقوم به ليست موضع أي جدل فلسطيني، ويقتصر الجدل الوطني الفلسطيني بشأنها على الخشية من تكرار حركة حماس التي تقودها لتجربة حركة فتح في احتكار السلطة لنفسها، إضافة إلى الجدل حول أسلوب "الحسم العسكري" الذي لجأت حماس إليه، لكنه جدل لا يطال "وطنيتها"، بالرغم من الحملات الإعلامية التي تشنها رام الله عليها قائلة إن حسمها العسكري واحتكارها للسلطة في القطاع المحاصر يخدمان دولة الاحتلال.
وكان تعليق عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة ونائب الأمين العام للجبهة الشعبية عبد الرحيم ملوح، خلال ندوة في جامعة بيرزيت مؤخرا، على مشروع رئيس وزراء السلطة في رام الله سلام فياض لانجاز بناء مؤسسات دولة فلسطينية خلال عامين بقوله إن هذا المشروع يصلح لقطاع غزة ولا يصلح للضفة الغربية إشارة واقعية إلى المفارقة الكامنة في حقيقة أن اتفاق "شركاء السلام" على فرض الحصار على القطاع وتخفيفه في الضفة، بهدف عقد مقارنة بين القطاع وبين الضفة تقود كما يأملون إلى انفضاض التأييد الشعبي لحماس وحشده "اقتصاديا" لصالح فتح والمنظمة والسلطة، قد تحول عمليا إلى مقارنة مختلفة تماما بين الحركتين وبين برنامجيهما.
فعلى سبيل المثال انمحت تماما في القطاع تقسيمات اتفاقيات أوسلو للأرض المحتلة إلى مناطق ألف وباء وجيم بينما تستمر هذه التقسيمات في الضفة، بالنسبة للسلطة في الأقل، وانمحى تماما أي دور للحاكم العسكري للاحتلال في الإدارة المدنية في القطاع بينما يستمر عمل السلطة كنسخة كربونية باللغة العربية ووجه فلسطيني للإدارة المدنية الإسرائيلية، وانمحى تماما أي تنسيق لقوى الأمن الفلسطينية مع الاحتلال في القطاع وتحول دور هذه القوى إلى حماية الشعب الفلسطيني من اجتياحات ومداهمات واعتقالات قوات الاحتلال والتصدي لها بينما يستمر في الضفة التنسيق الأمني بين هذه القوى وبين القوة المحتلة، وانمحى تماما التناقض بين السلطة وبين فصائل المقاومة وحل محله التنسيق الوطني بين الجانبين في القطاع بينما يستمر التناقض بين السلطة وبين المقاومة في الضفة ليتمخض عن حملة المطاردة والاعتقالات المتواصلة للمقاومين إما بالتنسيق الأمني مع الاحتلال أو بتبادل الأدوار معه، وانمحى تماما اعتماد بقاء السلطة على مدى التزامها بالشروط السياسية للمعونات الخارجية في القطاع بينما يستمر اعتماد السلطة في بقائها على التزامها بهذه الشروط في الضفة، إلخ.، لينطبق وصف "الوطنية" على السلطة في غزة أكثر من انطباقه على نظيرتها في الضفة بالرغم من استمرار الأخيرة في وصف الأولى ب"الانقلابية"، وهذا الوصف الأخير إن كانت له مسوغات ظاهرة "عسكريا" في غزة فإن مظاهر المسوغات "السياسية والأمنية" ليست أقل وفرة لوصف السلطة في رام الله أيضا بال"انقلابية" لأنها انقلبت بدعم وتحريض خارجيين على نتائج الانتخابات التشريعية عام 2006 فأفلتت من حصار ما زال يطبق خانقا على القطاع.
لقد نتج الوضع الراهن في القطاع عمليا عن "حل السلطة" طبقا لمواصفاتها حسب اتفاقيات أوسلو كجزء من عملية السلام، حيث تم فك الارتباط بين هذه العملية وبين إقامة سلطة وطنية فلسطينية حقا قائمة فعلا بالرغم من الاحتلال ومن الشروط السياسية التي يفرضها "شركاء السلام" للاعتراف بسلطة فلسطينية، ويجرى التعتيم على هذه الحقيقة الوطنية الفلسطينية بنشر غيوم سوداء كثيفة من التضليل الإعلامي الذي يختار مصطلحات مأخوذة من قاموس الاحتلال لوصفها مثلا بال"ظلامية"، من أجل منع الاعتراف العربي والدولي بشرعيتها لصالح الاستمرار في الاعتراف بشرعية السلطة النقيضة لها التي ما كان لها أن تستمر دون موافقة الاحتلال وحلفائه الدوليين وبخاصة الأميركيين منهم.
لكن اعتراف الاحتلال وحلفائه بأي سلطة فلسطينية هو سلاح ذو حدين، فهو من ناحية يرتهن هذه السلطة لشروطه وإملاءاته، غير أنه من ناحية ثانية يرسخ اعترافا دوليا أوسع منه بحقيقة أن الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967 ليست جزءا من دولة الاحتلال الإسرائيلي وأن السلطة الفلسطينية فيها ليست جزءا من سلطة الاحتلال وأن صلاحيات الحكم الذاتي لهذه السلطة مرشحة للتحول إلى سلطات دولة كاملة أو منقوصة السيادة، وحل السلطة كمخرج للتخلص من شروط الاحتلال وإملاءاته ينطوي كذلك على خسارة اعتراف دولي لا تقل أهميته عن انتزاع النضال الوطني الفلسطيني للاعتراف الدولي بوجود شعب فلسطيني ثم بوجود ممثل شرعي له.
فحل السلطة ليس هو الحل المطلوب، فالاعتراف الدولي بها بما يعنيه من أن المناطق المفترض أنها تديرها ذاتيا هي ملك للشعب الفلسطيني وليست جزءا من دولة الاحتلال وبأن سلطة الحكم الذاتي في هذه المناطق المحتلة مرشحة للتحول إلى سلطة دولة هو مكسب دبلوماسي لا يجوز استسهال التخلي عنه بتسرع، مثله مثل الاعتراف الدولي بوجود ممثل شرعي للشعب الفلسطيني، بل إن انسحاب السلطة واستبدالها هو المطلوب، سواء على طريقة غزة أم بأي طريقة أخرى، أو بدقة أكثر استبدال دورها الحالي بدور يماثل دور السلطة الوطنية في القطاع، بغض النظر عن الحركة الوطنية التي تتولى دفة القيادة،.
ف"الأنظمة السياسية" متبدلة طال الزمن أم قصر. وبما أن استبدال سلطة الحكم الذاتي في رام الله أو استبدال دورها ليس خيارا فلسطينيا خالصا، ولا تعتبر إمكانياته الفلسطينية واقعية حسب الواقع القائم، وبما أن استمرار بقاء هذه السلطة لم يعد ترتيبا انتقاليا مرتبطا بأي عملية سلام قائمة أو واعدة، فإن الحل يكمن في انسحاب السلطة من دور الوكيل المحلي للاحتلال في الشؤون المدنية، وإعادة رعاية هذه الشؤون إلى الإدارة المدنية للحاكم العسكري للاحتلال الملزم برعايتها طبقا للقانون الدولي، وترك الاحتلال في مواجهة الشعب الخاضع له دون أي وسيط فلسطيني، والعودة إلى حضن الشعب والوحدة الوطنية الفلسطينية، فهذا الشعب الذي تدين المنظمة لانتفاضته الأولى بدخولها إلى أرض الوطن قادر على إعادة السلطة لها، وعلى إعادتها إلى السلطة. لكن العقبة الأكبر أمام تخلي السلطة عن دورها تكمن في أنها قد أصبحت تعتمد على اعتراف الاحتلال وحلفائه بشرعيتها أكثر من اعتمادها على أن تستمد شرعيتها من شعبها فقط.
* كاتب عربي من فلسطين
[email protected]*