[esi views ttl="1"]
arpo28

القرن الأفريقي: الأهمية الإستراتيجية.. والصراعات الداخلية

عتبر منطقة القرن الأفريقي واحدة من المناطق الإستراتيجية بالغة الأهمية في التقسيم الجيوبوليتيكي للعالم. فقد استحوذت طيلة التاريخ القديم والحديث على أهمية محورية في حركة المواصلات البحرية، علاوة على امتلاكها لعوامل جذب داخلية،

سواء بفعل مواردها الطبيعية أو بسبب ما يتفاعل بها من تناقضات عرقية وسياسية وحضارية مختلفة، شأنها شأن جميع المناطق الإستراتيجية الهامة.

وهي تعد أكثر اتساعا وأشد تأثيرا عنها من الناحية الجغرافية. ذلك أنها على الصعيد الجغرافي تضم فقط كلا من الصومال وأثيوبيا وأرتيريا وجيبوتي، أما على المستوى الجيوبوليتيكي، فإن المنطقة تشمل أيضا العديد من الدول والقوى التي تتفاعل وتتبادل علاقات التأثر والتأثير فيما بينها، مما يجعل منطقة القرن الأفريقي جيوبوليتكيا يضم مساحة هائلة من الدول التي تمتد عبر النتوء الشرقي للساحل الشمالي الشرقي لأفريقيا، المطل على خليج عدن والمحيط الهندي والمداخل الجنوبية للبحر الأحمر، والممتد من الداخل حتى حدود أثيوبيا وكينيا والسودان والصومال، ويمكن كذلك في هذا الإطار الإشارة بصفة خاصة إلى اليمن والسودان وكينيا بوصفها دولا ترتبط بعلاقات بالغة الخصوصية مع القرن الأفريقي.

وعلى هذا الأساس، فإن منطقة القرن الأفريقي تستمد قدرا من الأهمية من قيمتها الإستراتيجية من ارتباطها الوثيق بالبحر الأحمر، والذي يعتبر بدوره من أهم طرق المواصلات البحرية في العالم، لاسيما باعتباره حلقة الوصل بين الشرق والغرب.
وقد ازدادت هذه الأهمية بطبيعة الحال مع اكتشاف النفط في الخليج العربي وإيران وشبه الجزيرة العربية، والاعتماد على البحر الأحمر لنقله إلى الغرب، ثم تضافرت مع هذه الأهمية دوافع أخرى للقوتين العظميين وقتذاك في صراعهما العالمي تتعلق بالاحتواء وبسط النفوذ والولاء الأيديولوجي وما إلى ذلك.

ولقد شهدت هذه المنطقة خلال الأعوام الماضية، تطورات بالغة الأهمية، لم تقتصر تأثيراتها على دولها فحسب، إنما امتدت للسياسة الدولية، تتعلق بحالة تواتر عمليات إعادة التركيب وبناء العلاقات بين دول القرن الأفريقي التي شهدت منذ أقدم العصور توترات ونزاعات لازالت مستمرة إلى وقتنا الحالي.

كل هذه المعطيات المشار إليها سابقا، أعطت لهذه المنطقة نوعا من التميز خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث أخضعت لدرجة عالية من الاستقطاب من جانب الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا بعد تفكك الإتحاد السوفياتي، إذ أدت الأهمية الإستراتيجية للقرن الأفريقي إلى احتدام التنافس الدولي عليه منذ الستينات، حيث بدأ ذلك من خلال استغلال الصراعات الإقليمية بين دول المنطقة، لا سيما بين الصومال وأثيوبيا، والتي نبعت في الواقع بسبب الحدود الموروثة من العهد الاستعماري، وهي المشكلات التي ضلت منذ ذلك الوقت سببا لأزمة عنيفة في المنطقة، وصلت في عامي1964 و1977 إلى درجة الانفجار العسكري المدوي.

أما من حيث المصادر التي تتعلق بالصراع الإقليمي والداخلي فإن هذه المنطقة تمتاز بطبيعة بالغة التعقيد نابعة من تعدد أبعاد ومستويات الصراع في المنطقة وهو ما يبدو واضحا في أن الخلافات الحدودية بين دول المنطقة تختزل في داخلها صراعات ضارية بين القوميات في أثيوبيا والصومال وكينيا وجيبوتي وأرتيريا، كما تتداخل في ذلك أيضا الأبعاد الحضارية والدينية والعرقية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، أما التعدد في مستويات الصراع فيبدو واضحا في أن المنطقة شهدت أشكالا شتى من الصراعات تراوحت ما بين الحروب النظامية واسعة النطاق وحروب الاستقلال والحروب الأهلية والانقلابات العسكرية.

ومع ذلك يمكن إرجاع معظم صراعات القرن الأفريقي إلى مصدرين رئيسين هما:
- أولا: الموروثات الاستعمارية: ويتضح ذلك في أن الخريطة السياسية لمنطقة القرن الأفريقي عقب الاستقلال تناقضت إلى حد كبير مع التوزيعات القومية والعرقية والإقليمية والقبلية واللغوية، حيث فرض الاستعمار حدودا مصطنعة بين دول المنطقة، وأثرت هذه الحدود المصطنعة تأثيرا سلبيا خاصة على الصومال، حيث أصبح مقسما إلى خمسة مناطق، أضف إلى ذلك أن التحيز الأوروبي والأمريكي على وجه الخصوص لصالح أثيوبيا أدى إلى تمكين نظام هيلاسلاسى من ضم إقليم أرتيريا في وضع فيدرالي عام1952، ثم إدماجها في الإمبراطورية الأثيوبية عام1925، الأمر الذي تسبب فيما بعد في إشعال حرب دامية استمرت ثلاثين عاما، لم تنته إلا بعد حصول أرتيريا على استقلالها في أفريل1993.

ثانيا: أزمة الاندماج الوطني: تعتبر أزمة الاندماج الوطني سببا رئيسيا للصراعات الداخلية، ذلك أن معظم دول القرن الأفريقي عبارة عن فسيفساء قومية وعرقية وقبلية، تتعارض فيها الانتماءات والولاءات الأولية داخل الدولة الواحدة، وقد أدى هذا الوضع إلى سيادة وهيمنة "الروح القبلية" بدلا من مبدأ "المواطنة" وساعد على ذلك أن كثيرا من تلك الدول تبنت مناهج عقيمة للإدماج الوطني ارتكزت على قيام النظم الحاكمة "المنتمية بالضرورة إلى جماعة قومية أو عرقية" بتجاهل واستبعاد الجماعات القومية والعرقية الأخرى.

وقد بدا هذا التوجه خاصة في أثيوبيا تحت الحكم الإمبراطوري والماركسي، والذي كان مرتكزا على العنصر الأمهري بالكامل، أضف إلى ذلك أن الصومال ذاتها التي تتميز بتجانس قومي ولغوي وديني فريد، لم تفلت من هذه الأزمات، حيث كانت السياسات الحكومية في عصر سياد بري محكومة بالروح القبلية، إذ أنه أسند إلى كافة أفراد قبيلة "المريحان" كافة المراكز السياسية الهامة في البلاد، ثم ضيق دائرة المشاركة السياسية حتى انحسرت في دائرته الخاصة، الأمر الذي أدى إلى شعور الجماعات العرقية الأخرى بانعدام الثقة والعدالة، مما فتح الباب واسعا أمام موجات هائلة من الحروب الأهلية والتي شكلت في بعض الحالات تهديدا حقيقيا أمام بقاء كيان الدولة في حد ذاته.

وسنحاول من خلال هذا المقال أن نتحدث عن الأهمية الإستراتيجية للقرن الأفريقي، التي جعلته منذ عصور من المناطق الأكثر اهتماما من قبل الدول الكبرى، سواء تعلق الأمر بالدول الأوروبية، أو دول جنوب شرق آسيا، وكذا الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول العربية التي تعتبر القرن الإفريقي امتدادا لأمنها المائي، ثم نعرج للحديث عن الصراعات الداخلية، وعن التركيبة الإثنية والعرقية، إضافة إلى التنوع الثقافي والهوية المشتركة التي تربط سكان القرن الأفريقي، بعضهم ببعض.

الأهمية الإستراتيجية
القرن الأفريقي هو ذلك الجزء البارز من الجانب الشمالي الشرقي للقارة الأفريقية، ويحده جغرافيا من الغرب خط وهمي يمتد من خط الحدود السياسية بين كينيا والصومال إلى حدود جيبوتي الغربية؛ ويمتد خلال خليج عدن والمحيط الهندي. فالساحل الصومالي يمتد من منطقة رحيتا الأرتيرية في خليج عدن إلى رأس غور دفوي، ومنها إلى حدود كينيا لمسافة تزيد عن 2500 كلم، في منطقة تمثل طريقا هاما يربط شرق أفريقيا بالخليج العربي وبالقارة الآسيوية من ناحية، وقناة السويس من ناحية أخرى، ويمثل عمقا استراتيجيا للامتداد الجغرافي المتصل دون انقطاع من مصر التي تمثل قناة السويس فيها المدخل الشمالي للبحر الأحمر، وحتى باب المندب في الجنوب مرورا بالسودان وأرتيريا.

وهذا الموقع أتاح لمنطقة القرن الأفريقي سهولة الاتصال والاحتكاك بمناطق العالم المختلفة، أما فيما يختص بتعريف المنطقة وعدد الدول المكونة لها، فقد اختلف المهتمون والمختصون في ذلك. فالجغرافيون يرون أنه يتمثل في نتوء اليابسة الذي يبدأ من إريتريا شمالا وحتى خليج عدن شرقا، ثم ينحدر جنوبا إلى المحيط الهندي، ويشمل أثيوبيا وجيبوتي والصومال حتى إقليم النقد في شمال كينيا.

أما الأنثروبولوجيون فيقصدون بالقرن الأفريقي أساسا، الأراضي التي تسكنها القبائل الصومالية وإن تعددت أوطانهم سواء في الصومال أو جيبوتي، أو أثيوبيا أو كينيا، وهو عند المنظمات الدولية والإقليمية والسياسيين ومراكز الدراسات الدولية، الصومال وأثيوبيا وأرتيريا وجيبوتي، كوحدات سياسية قائمة على الساحل الشرقي للقارة، ومنهم من أضاف السودان وكينيا، لاعتبارات جيوإستراتيجية ولتداخل الحدود والأقليات.

أما الأدبيات الأمريكية فقد وسعت من نطاق المفهوم ليشمل عشر دول، تمتد من أرتيريا شمالا وحتى تنزانيا جنوبا، ليضم أثيوبيا وأرتيريا وكينيا وأوغندا وتنزانيا والصومال والسودان وجيبوتي ورواندا وبورندي.

بل أن هناك من وسع من نطاق المفهوم ليدخل دولا من خارج الإقليم، بحيث يتعدى الحدود الإقليمية للمنطقة، ليضم دولا مثل، اليمن والسعودية.

إن عدم الاتفاق حول تعريف مفهوم منطقة القرن الأفريقي، يؤكد بأن الدلالة السياسية للمنطقة تتعدى الدلالة الجغرافية، نظرا للأهمية التي يحتلها موقعها المتميز والمؤثر على التفاعلات الجارية في منطقة واسعة تحتوي على مساحة كبيرة من الأرض والبحار والممرات، فالمنطقة تشرف على ممرين مائيين في غاية الأهمية، فهي تتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، الذي يعتبر أحد طريقي مرور ناقلات النفط في الخليج والجزيرة العربية إلى الدول الصناعية، مرورا بقناة السويس.

كما تطل على المحيط الهندي الذي تتحرك عبره أساطيل القوى الدولية الكبرى باستمرار، وهم ما أكسب دول المنطقة أهمية كبيرة، كونها تمثل نقاط ارتكاز برية وبحرية على هذه الممرات المهمة في الإستراتيجية العالمية. وأتاح لها الاتصال بجهات العالم الحيوية، باعتبارها تتحكم في طريق الملاحة الدولية شمالا وجنوبا وشرقا، وجعل منها أيضا نقطة وثوب لمن يتحكم فيها، وحلقة من حلقات الأحزمة الإستراتيجية في العالم، وبالتالي فمن يسيطر عليها تكون، الممرات البحرية بين مضيق هرمز وباب المندب تحت تصرفه.

وهذا ما جعلها تتداخل أمنيا وسياسيا واقتصاديا، ليس فقط مع منطقة حوض البحر الأحمر، وإنما ارتبطت وتداخلت أيضا مع مناطق من خارج النطاق الجغرافي لحوض البحر الأحمر، بحكم ارتباط مصالحها مع المنطقة، لاسيما بعد افتتاح قناة السويس سنة 1869، واكتشاف النفط في الجزيرة العربية والخليج، فالبحر الأحمر يربط بين ثلاث قارات، هي آسيا وأفريقيا وأوروبا، فهو بمثابة الرابط بين الدول النامية في آسيا وأفريقيا وبين الدول المتقدمة في الغرب..

وباعتبار منطقة القرن الأفريقي مرتبطة بالبحر الأحمر، وتشكل معه حلقة محورية في التحكم في حركة المواصلات النفطية وحركة المرور البحري والعسكري ما بين البحر المتوسط والبحر الأسود والمحيط الأطلنطي وبين المحيط الهندي والمحيط الهادي، فإنها ترتبط بمنطقة الخليج العربي تلقائيا بحكم التداخل والترابط بين المنطقتين، خاصة وأن صادرات الخليج العربي النفطية تمر عبر مضيق باب المندب الذي تسيطر عليه دول القرن الأفريقي واليمن.

وفي السياق ذاته، اتضح الترابط والتداخل بين هذه المنطقة والصراع العربي الإسرائيلي أثناء حرب أكتوبر1973، عندما قامت اليمن بالتعاون مع القوات المصرية بإغلاق مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية إلى إيلات، والتي على إثرها أصبحت منطقة القرن الأفريقي تحظى بأهمية كبرى من الطرفين وخاصة إسرائيل، كونها أصبحت مرتكزا من المرتكزات الفاعلة في الصراع العربي الإسرائيلي، وميدانا جديدا للتنافس بين القطبين.

من ناحية ثانية يمتلك القرن الأفريقي مقومات إستراتيجية أخرى، غير تلك المرتبطة بالمياه في البحر الأحمر والمحيط الهندي، منها موارد اقتصادية مختلفة، أهمها المياه، فهو يمثل الخزان الرئيسي الذي يزود مصر والسودان بالمياه الصالحة للشرب، ذلك أن نهر النيل يتبع في جزئه الأكبر هذه المنطقة، إذ ترفد أثيوبيا نهر النيل بحوالي85% من مياهه.

ولمكانة هذا المورود الحيوي زاد الاهتمام به على كافة الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث أصبح يشكل محورا مهما في التفاعلات الدولية، واحتل مواقع مهمة في المؤتمرات العالمية والإقليمية، مما يشير إلى أن قضية المياه ستصبح في القريب العاجل إحدى القضايا الساخنة في العلاقات الدولية، والتي من الممكن أن تؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في مناطق كثيرة من العالم، وبخاصة في منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل، لسهولة التأثير على إحداثها من قبل القوى الدولية التي تجد في المنطقة مجالا خصبا لممارسة أنواع التأثير عليها، بحكم تركيبة بلدانها الإثنية والثقافية التي تتسم بالتعددية القومية والدينية واللغوية.

ولذلك فليس غريبا أن تحظى هذه المنطقة باهتمام القوى الدولية المختلفة، وليس غريبا أيضا أن تبرز رؤى وأفكار جديدة تتبناها دوائر وأوساط دولية تجاه دول المنطقة، التي تتعامل مع مفهوم القرن الأفريقي بمفاهيم جديدة متعددة، أهمها توسيع هذا المفهوم ليشمل دولا جديدة لا تنتسب تقليديا إليه.

أهمية القرن الأفريقي
أ/ البلدان العربية: تعد منطقة القرن الأفريقي ذات أهمية بالغة للبلدان العربية وتشكل عمقا إستراتيجيا لها. وترتبط بها على أكثر من مستوى، نتيجة الجوار الجغرافي والتداخل البشري، وعلاقات القربى والتفاعل التاريخي والحضاري. فهذه المنطقة تشكل وقبل كل شيء جزءا مهما من الوطن العربي، لوجود ثلاث دول فيها تنتمي للوطن العربي، وهي السودان وجيبوتي والصومال.

وإجمالا نستطيع القول، بأن عروبة السودان والصومال وجيبوتي، والتحكم في منابع النيل وتأمين الاحتياجات المائية لكل من مصر والسودان والصومال، وأمن البحر الأحمر، تمثل محاور مهمة بالنسبة للوطن العربي في هذه المنطقة، نظرا لارتباطها المباشر بالأمن القومي العربي بشكل عام، وتأثيرها في المصالح الحيوية لبعض الأطراف العربية على وجه الخصوص.

ب/ الإتحاد الأوروبي: يرجع الاهتمام الأوروبي بمنطقة القرن الأفريقي إلى الروابط التاريخية والثقافية، التي تعود إلى الفترة الاستعمارية، فهذه المنطقة خضعت للاستعمار البريطاني والفرنسي والبرتغالي والإيطالي فترة من الزمن، تركت أثرها على مختلف نواحي الحياة في هذه المنطقة، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن ظلت من أهم المناطق الإستراتيجية في القارة الأفريقية بالنسبة للدول الأوروبية، سياسيا واقتصاديا وثقافيا.

فالمنطقة بحكم موقعها الإستراتيجي المشرف على ممرات وخط الملاحة الدولية" باب المندب- قناة السويس" استحوذت على اهتمام كبير من قبل الدول الأوروبية ذات المصالح وصاحبة الأساطيل التجارية المختلفة العابرة لهذا الشريان الحيوي، لاسيما وأن هذا الطريق قد ساهم في الماضي في الطفرة الصناعية والحضارية الحديثة التي شهدتها أوروبا، لذلك تحاول إثبات أحقيتها في هذه المنطقة، لحماية مصالحها، وتأمين طرق المواصلات والممرات الهامة، والحيلولة دون إنفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالتحكم في أوضاع المنطقة. فلفرنسا مثلا تواجد عسكري في المنطقة من خلال قاعدتها في جيبوتي، التي أتاحت لها إمكانية كبيرة لمراقبة المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وتأمين مصالحها ومصالح دول الإتحاد الأوروبي..

ج/ الدول الآسيوية: تحظى منطقة القرن الأفريقي باهتمام واضح من قبل الدول الآسيوية، فإلى جانب إهتمامها بموقعها الجغرافي المشرف على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر الذي تمر عبره معظم صادراتها ووارداتها، احتلت أهمية اقتصادية كبيرة، فهذه الدول تتطلع منذ انتهاء الحرب الباردة إلى إرساء نفوذها وتثبيت مصالحها في المنطقة، عبر مشاريع التنقيب على النفط والثروات الأخرى، لاسيما بعد اكتشاف احتياطات نفطية في بعض دولها مثل السودان.

وكذلك فتح الأسواق أمام منتجاتها المختلفة، خاصة بعد ظهور أفريقيا كسوق رابحة وبالذات للتقنية الآسيوية، خاصة الصين واليابان وإيران.
فالصين واليابان تعملان على اختراق أسواق المنطقة، وتأمين مناطق نفوذ، وتأمين تدفق المواد الخام، وإيران تزيد على ذلك بتدعيم اهتمامها بالجانب الثقافي، باعتبار أن معظم سكانه يدينون بالإسلام، لذلك تحاول توظيف هذا العامل ليكون لها دور بارز في المنطقة.

التركيبة الإثنية لدول القرن الأفريقي
الاختلافات والتعددية الإثنية ظاهرة طبيعية في مختلف الأمم والشعوب، تكاد لا تخلو منها دول العالم، فالتكوين الفسيفسائي سمة أغلبية الشعوب والمجتمعات الحديثة. فكل مجتمع يحتوي على أجناس وجماعات مختلفة تتفاعل فيما بينها في نطاق الوحدة السياسية، فالتعددية لها وجود طبيعي في كل مجتمع إنساني، ويكون وجودها أكثر وضوحا عندما تتسع الدولة.

ومنطقة القرن الأفريقي مثلها مثل باقي دول العالم، يظهر فيها بوضوح التعدد الإثني، فحدود هذه الدول كما هو معروف خطط له من قبل الدول الاستعمارية الأوروبية، دون أية مراعاة لأوضاع الجماعات الإثنية، حيث تداخلت الإثنيات وتعددت بين الدول وداخلها، وعند خروج الاستعمار من المنطقة، فشلت الدول المستقلة في التعامل مع الظاهرة الإثنية، وعدم قدرتها على السيطرة عليها داخل أنظمتها السياسية، وزاد من الظاهرة أن تبنت هذه الدول سياسات فاشلة للاندماج الوطني الواحد، ارتكزت على قيام النظم الحاكمة التي تنتمي في أغلبها إلى جماعات قومية وإثنية، واستبعاد الإثنيات الأخرى في سياساتها المبنية على منطق التعصب المركزي المستند إلى توجيه الاستثمارات الحكومية والإنفاق الحكومي نحو خدمة هذه الجماعات الإثنية دون غيرها من الجماعات الأخرى، مما خلق داخل الدولة الواحدة تناقضا وتصارعا بين الانتماءات الفرعية، ترتب عليها ولاءات ضيقة ومحدودة لا تعترف بالولاء الوطني أو للجماعة الوطنية الشاملة، فالأغلبية المسيطرة عمدت إلى اضطهاد الأقلية أو الأقليات الاثنية الأخرى، وهو ما دفع تلك الأقليات عندما سمحت الفرصة لها إلى استخدام العنف والتمرد على النظام السياسي، الذي واجه الأمر باستخدام القوة المسلحة، الأمر الذي أدى إلى تفجر الصراعات والحروب الأهلية في معظم دول القرن الأفريقي.

ويزداد الأمر سوء عندما تسيطر الأقلية العددية في بعض الدول على السلطة السياسية، وقيامها باستبعاد وحرمان الأغلبية وبعض الأقليات من حقوقها المختلفة، الأمر الذي يدفع بالصراع إلى مستويات أعلى مما هو في الحالات الطبيعية، أي الحالات التي تسيطر فيها الأغلبية على مقاليد السلطة والحياة العامة في الدولة، وهذه الأوضاع الإثنية هي التي تغلب على الخارطة الإثنية لمنطقة القرن الأفريقي.

1- أثيوبيا: وهي دولة تتسم بالتعدد، فموسوعة العالم الثالث ترى أنها تعد متحفا للجماعات الإثنية، فهي تحتوي على أكثر من 70 جماعة من أصول وديانات ولغات مختلفة ومتباينة، والجماعات الأثيوبية تختلف في حجمها وثقافتها ولغتها ولهجاتها وانتشارها الجغرافي، وتختلف أيضا في مكانتها التاريخية، ومن ثم علاقتها بالجماعات الأخرى ووزنها السياسي في الدولة.

ويمكن تناول هذه الجماعات من حيث أهميتها وبنسبتها إلى السكان على النحو التالي:
- الأرومو"الجالا": وهي أكبر إثنية أثيوبية وتشكل حوالي 40% من نسبة السكان، تليها الأمهرا بنسبة 35%، والتجرين 6% والسيدامو 6% والشانكيلا 6% والصوماليون 6% والعفر 4% والكوراج بنسبة 2%.

علاوة على وجود أقليات ضئيلة من حيث العدد مثل: القبائل النيلية على امتداد الحدود مع السودان والبجة في المنطقة الشمالية، ولاجو في وسط الهضبة واليهود الفلاشا.. والجدير بالذكر أن القومية الحاكمة هي الإثنية التجرينية وهي أقلية، حيث سيطرت على السلطة بعد سقوط النظام العسكري في أوائل التسعينات، علما بأن الأمهرا كانت المسيطرة على السلطة خلال فترات سابقة.

2- أرتيريا: كانت أرتيريا بحكم موقعها الجغرافي معبرا لأجناس وشعوب مختلفة، منها السامية والحامية والزنجية، مما نتج عنه مجتمع متعدد القوميات شكل المجتمع الأرتيري الحديث، وهذا باعتراف كل من جبهة التحرير الأرتيرية والجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا، بل إن الجبهة الأخيرة وهي الجبهة الحاكمة، ترى أن المجتمع الأرتيري يتكون من تسع قوميات مختلفة، ومتفاوتة فيما بينها، ورغم أن تجربة النضال الوطني الأرتيري، قد طورت شعورا وطنيا بالإنتماء لدى الشعب الأرتيري، وأسست لديه هوية وطنية " إقليمية" متميزة، إلا أن الأمر لا يخلو من مطالب وانتقادات بقايا الفصائل الأرتيرية الأخرى التي لم تشارك في الحكم، وهذا ما سبب مشاكل وصراعات داخلية. خاصة أن تاريخ القومية الأرتيرية مفعم بالصراع الداخلي القائم على الانقسامات العرقية والطائفية.

وهذا ما اتضح خلال الحرب الأهلية التي نشبت بين الحركات الأرتيرية "جبهة التحرير الأرتيرية والجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا"، فقد كانت العوامل العرقية والطائفية والإقليمية من أسباب نشوب هذا الصراع.
ولذلك فالشعب الأرتيري مثله مثل بقية شعوب المنطقة متعدد القوميات، ويتكون من تسع اثنيات مختلفة، من حيث الحجم والثقافة واللغة والديانة.

3- جيبوتي: تتكون الجماعة الوطنية في جيبوتي من قبيلتين، هما الصوماليون وأغلبهم من قبائل العيسى والعفريون أو الدناكل، إذ يشكل الصوماليون الأغلبية ويتوزعون على أربع قبائل هي العيسى والدارود والأباك والغارايورسي، أما العفريون فيتوزعون على قبيلتين هما الأدوباسرة ولا سايمرة. وتوجد إلى جانب هاتين المجموعتين مجموعات أخرى أهمها المهاجرون من الجزيرة العربية وبخاصة من اليمن، ومن الصعوبة بمكان معرفة العدد الحقيقي لكل مجموعة من المجموعتين الرئيستين، غير أن هناك من يرى أن الصوماليين يشكلون ثلثي السكان في حين يشكل العفريون الثلث الآخر، مع العلم أن الصوماليين في جيبوتي هم امتداد للصوماليين في دولة الصومال، أما العفريون فهم امتداد للأقلية العفرية الموجودة في دولتي أثيوبيا وأرتيريا.

4- الصومال: يشكل الصوماليون وحدة سلالية واحدة مثلها مثل جميع دول القارة الأفريقية، فالصوماليون شعب حامي شرقيا اختلفت آراء العلماء حول أصل تسميتهم. ويمثلون قومية واحدة من أكبر القوميات المتماسكة في أفريقيا، فهم متجانسون إلى حد كبير ومتميزون عمن حولهم، سواء من ناحية اللغة أو الدين أو العادات والتقاليد، إذ تصل نسبة التجانس الإثني إلى حوالي92%.

ورغم وحدة السلالة في الصومال فان ذلك لم يمنع من انقسام الشعب الصومالي إلى عدة قبائل، تتفرع إلى عشائر وبطون يمكن تقسيمها إلى مجموعتين كبيرتين هما الصومال والساب، ويشكل الصوماليون غالبية الشعب الصومالي ويستعار اسمها ليشمل مجموعة الساب، وينقسم الصوماليون إلى أربعة أقسام: الدير والاسحاق والهاوية والدارود، وكلهم من الرعاة المتنقلين، أما الساب فينقسمون إلى الديجل والروحالوين، ويقيمون بين نهري جوبا وشيلي.

ورغم هذا التجانس الحاصل في الصومال إلا أنه يفتقر للوحدة الوطنية بين الطبقات الاجتماعية، مما أدى عبر التاريخ إلى تفكك الدولة الصومالية.

التداخلات الإثنية
سنتعرض هنا للتركيبة الإثنية العابرة للحدود في المنطقة، ومن المعروف أن الاستعمار الغربي عندما وضع خططا للحدود السياسية في المنطقة، عمل على تشتيت وتوزيع الجماعات الإثنية المختلفة في المنطقة بين دولتين وأكثر خدمة لمصالحه المختلفة، فتوزعت الجماعات الإثنية والقبائل المختلفة وعزلت عن مراعيها وأسواقها وأقاربها وأماكن عبادتها، وهو ما أوجد بيئة مناسبة لتوتر العلاقات وتفجر النزاعات بين دول القرن الأفريقي.

ومنطقة القرن الأفريقي تعتبر أنموذجا للتداخل الإثني، القبلي بين الدول، فكل جماعة إثنية أو قبلية، في دولة من دوله لها عشيرة أو جزء من الجماعة في البلدان المجاورة، فالحدود السياسية قسمت القبيلة الواحدة أو الجماعة الإثنية إلى شطرين أو أكثر بين أكثر من دولة وأهم تلك الجماعات العابرة للحدود في منطقة القرن الأفريقي القبائل العفرية والصومالية، فالجماعة العفرية تنتشر في منطقة تلتقي عندها حدود كل من أثيوبيا وأرتيريا وجيبوتي.

وعلى الرغم من كون تلك الجماعة تعيش في رقعة جغرافية متصلة، فإنها لم تتمكن من تأسيس كيان سياسي مستقل بها، والعفر لم يتوزعوا في جيوب داخل أو بين الإثنيات الأخرى مثلهم مثل غيرهم من القوميات، بل انتشروا في منطقة صحراوية تمتد من السواحل الجنوبية لأرتيريا جنوب مصوع إلى السواحل الشمالية لجيبوتي جنوب مدينة طاحورة من جهة الشرق، وحتى الهضبة الأثيوبية من جهة الغرب وتزداد هذه الصحراء اتساعا باتجاه البحر الأحمر مما يجعلها تظهر بشكل مثلث، لذلك كثيرا ما يطلق عليها بالمثلث العفري. وانطلاقا من الوحدة الإثنية والجغرافيا يسعى العفر إلى إقامة كيان سياسي خاص بهم، يقتطع أراضيه من أراضي الدول الثلاث: أثيوبيا وأرتيريا وجيبوتي، وهو الأمر الذي دفعها إلى التعاون والتنسيق فيما بينها للوقوف أمام هذه الطموحات، وهذا المشروع وإجهاضه قبل أن يظهر إلى الواقع.

ورغم هذا التوجه الإستراتيجي بين الدول الثلاث حول المسألة العفرية، إلا أنها وفي أوقات تأزم العلاقات فيما بينها تحيد عن هذا التوجه، وتلجأ الأنظمة السياسية فيها إلى استغلال المسألة العفرية في التأثير والتدخل شؤون بعضها البعض، وخاصة أثيوبيا وأرتيريا.

فأثيوبيا لجأت إلى هذا الخيار أكثر من مرة واتضح ذلك عندما قدمت الدعم والتشجيع للتحركات العفرية في جيبوتي، للوقوف أمام الأهداف الصومالية الرامية لضم جيبوتي إلى كيانها السياسي، خاصة وأن التكوين الإثني في جيبوتي يحتوي على أغلبية صومالية كما ذكرنا سابقا، وهو ما كان يقلق أثيوبيا التي عملت على تكوين وحدات من رجال العصابات من القبائل العفرية لاستخدامهم للتحرك ضد الحكومة الجيبوتية في حال تعرض مصالحها للخطر، وفي الوقت نفسه فإنها كانت تطمع أيضا لضم جيبوتي، على اعتبار أن قسما من سكانها العفر هم امتداد لجزء من سكانها من الأقلية العفرية، علاوة على ارتباط تجارتها الخارجية بميناء جيبوتي.

والأمر نفسه بالنسبة لأرتيريا قبل الاستقلال، فقد لجأت الجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا أثناء نضالها ضد أثيوبيا إلى استغلال المسألة العفرية في التأثير على سير المواجهات مع القوات الأثيوبية، فعملت على تدريب ثوار العفر داخل أثيوبيا وتشجيعهم على مقاومة الحكومة الأثيوبية، ولكن بعد استقلالها عملت على هذه السياسة، فلم يعد من مصلحتها إقامة أي نوع من التعاون مع ثوار العفر ضد أي دولة من دول الجوار، لأن ذلك يؤثر على أمنها واستقرارها.

ورغم هذا التوجه، إلا أنها وأثناء حربها مع أثيوبيا في نهاية التسعينات من القرن الماضي لجأت أرتيريا إلى استغلال المسألة العفرية في التأثير على سير المواجهات مع أثيوبيا من خلال تشجيع العفر في جيبوتي على القيام بأعمال من شأنها تهديد وزعزعة استقرار خط سكة حديد أديس أبابا- جيبوتي.

أيضا تحفل المنطقة بصورة أخرى من صور التداخل الإثني متصلة بالصومال، فالقبائل الصومالية تنتشر في كل من أثيوبيا وجيبوتي وكينيا، فقبيلة الهوية أكبر القبائل لها امتدادات على الحدود الشمالية في كينيا وإقليم الصومال الغربي في أثيوبيا، وقبيلة الدارود أيضا لها امتدادات إلى إقليم الصومال الغربي وكينيا، وقبيلة الإسحاق التي تعتبر من أكبر القبائل في شمال الصومال، ينتشر جزء منها في منطقة هود التي ضمتها بريطانيا إلى أثيوبيا عام 1954- 1955، وأخيرا تنتشر قبيلة الدير في جيبوتي وإقليم الصومال الغربي في أثيوبيا.

ولذلك فإن مشكلة الصومال ومنذ حصوله على الاستقلال، ظلت تنحصر في كيفية الوصول إلى دولة واحدة تضم كل أبناء الصومال، مما أدخلها في مشاكل ومواجهات حدودية مع دول الجوار، وخاصة أثيوبيا. من بينها الصدام العسكري الصومالي الأثيوبي عام 1964، واضطرابات جيبوتي في 1966، علاوة على توتر العلاقة مع كينيا في العام نفسه، ولذلك ستظل مشكلة الجماعة الصومالية ترفد المنطقة بالكثير من عوامل عدم الاستقرار، خاصة بعد تفكك الدولة الصومالية وإعلان شمال الصومال "الصومال البريطاني" وانفصاله عن الجمهورية الصومالية.

الاختلافات الثقافية
تتميز شعوب منطقة القرن الأفريقي بتعددية ثقافية واجتماعية واضحة يصعب معها وصف الجماعات المختلفة المشكلة لهذه المنطقة بأنها جماعات إثنية فقط، وإنما هي بالإضافة إلى ذلك جماعات ثقافية وإقليمية، فالمنطقة تفتقر لتلك الوحدة الثقافية التي تمتعت بها منذ أكثر من 2000 سنة ق.م، واستمرت حتى القرن السادس الميلادي، ثم اضمحلت بعد ذلك بفعل عدة عوامل عرفتها المنطقة.

فالمنطقة وبحكم الظروف الطبيعية والتاريخية والسياسية، التي مرت بها أفرزت ثقافات مختلفة ومتناقضة تراوحت ما بين الثقافة العربية والأنجلوفونية والفرانكفونية والصومالية والأمهرية، فأرتيريا مازالت ومنذ الاستقلال غير قادرة على تحديد هويتها الثقافية وإثيوبيا أيضا عجزت عن تحديد هويتها الثقافية، فهذه الدولة وحتى بداية الخمسينات كانت تقدم نفسها باعتبارها دولة شرق أوسطية، ثم تحولت إلى الاتجاه الأفريقي، أما جيبوتي فإنها تتأرجح بين الهوية العربية والفرانكفونية والصومالية، وبالرغم من هويتها العربية، إلا أن غلبة هويتها الصومالية تجعلها بعيدة ومختلفة عن جيرانها"...".

الصراعات الداخلية في القرن الأفريقي
بعد خروج الاستعمار من القرن الأفريقي ظهرت الدول المستقلة ضعيفة ومحملة بالكثير من الأعباء والمشاكل التي خلفها الاستعمار، فشلت معه في التعامل مع تلك الاختلافات وخلق آلية مناسبة لاستيعاب تلك الاختلافات والتناقضات في إطار الدولة، بل على العكس من ذلك، ساهمت السياسات التي اتبعتها هذه الدول في مرحلة مابعد الاستقلال في تعميق الاختلافات بين الجماعات المختلفة، ولعبت دورا محوريا في الدفع باتجاه الحروب الأهلية، بفعل تكريس النخب الحاكمة لسياسة التميز والتحيز لصالح الجماعة الإثنية، التي تنتمي إليها هذه النخب وحرمان الجماعات الأخرى من حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما ولد شعورا لدى هذه الجماعات بأنها مهمشة ومستبعدة بشكل متعمد من قبل هذه النخب، وهو الأمر الذي دفعها إلى تشكيل جبهات معارضة مسلحة، حاولت تغيير الوضع القائم وتحقيق مصالحها، وتراوحت أهدافها بين التغيير الاجتماعي الشامل وتحقيق العدل والمساواة، والخلاص من الظلم، وإقامة دول جديدة، وبين تحقيق الانفصال عن الدولة الممارسة للاضطهاد.

وهذا المناخ دفع بالصراعات في المنطقة إلى درجات عالية من العنف، خاصة مع رفض الأنظمة الحاكمة للالتزام بتحقيق الوحدة في إطار التنوع والاختلاف، بما ينطوي عليه ذلك من احترام الثقافات والمعتقدات للجماعات المهمشة، مما أوجد حالة من عدم الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي بشكل عام نظرا لتعدد أبعاد ومستويات هذه الصراعات وتعقيدها، فهي ذات طبيعة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ودينية، وأبعاد داخلية وخارجية، وكذلك ذات امتدادات تاريخية، ومن هنا فإن أسباب ومحركات الصراعات في منطقة القرن الأفريقي تتداخل مع هذه الطبيعة المركبة بكل جوانبها.
ويقصد بالصراعات الداخلية تلك التي تنشب داخل الدولة الواحدة بين جماعات عرقية، أو قبلية، أو بين إقليمين أو أكثر داخل الدولة.

وتتعدد أسباب الصراع الداخلي، فقد ينشأ نتيجة المطالبة بالمشاركة في السلطة والثروة، أو نتيجة المطالبة بالانفصال عن الدولة، أو غير ذلك من الأسباب. ويؤدى الصراع الداخلي إلى فقدان حالة الاستقرار السياسي، وربما يصل الأمر إلى انهيار الدولة ككل. وهناك نوع آخر من الصراعات يسمى: الصراعات الدولية، وهي تلك التي تنشب بين دولتين أو أكثر، إما بسبب خلاف حول مناطق حدودية بينهما، أو بسبب وجود موارد طبيعية مشتركة داخل المحيط الجغرافي لكل منهما، أو بسبب تدخل إحداهما في الشؤون الداخلية للطرف الآخر..

ويأخذ الصراع الدولي أشكالاً مختلفة، فقد يكون مجرد توجيه انتقادات وتوتر في العلاقات، أو قد يصل الأمر إلى قيام أحد الأطراف- أو كلاهما- باستخدام القوة المسلحة تجاه الطرف الآخر.
وتنقسم الصراعات الداخلية التي تشهدها منطقة القرن الأفريقي، إلى ثلاثة أنماط وهى الصراعات العرقية، والصراعات القبلية، وصراعات الأقاليم الداخلية.

لقد أصبحت بعد نهاية الحرب الباردة النمط الأكثر شيوعاً داخل القارة الأفريقية بصفة عامة، وداخل منطقة القرن الأفريقي بصفة خاصة، واستنادا إلى معايير مختلفة قدم الباحثون تصنيفات عديدة للصراعات الداخلية توحي جميعها بأنه لا يوجد نمط واحد للصراعات الداخلية: - الصراعات العرقية، - الصراعات القبلية والعشائرية، - وصراعات الأقاليم الداخلية. وهو التصنيف الشائع في القاموس الدولي للتصنيفات والتعريفات بالنظر إلى معيار طبيعة الأطراف المتصارعة، فهي في النمط الأول جماعات عرقية، وفي الثاني قبائل، وفي الثالث أقاليم داخل الدولة.

مع الأخذ في الاعتبار أنه يمكن وضع تصنيفات مختلفة للصراعات الداخلية استنادا إلى معايير أخرى مثل أسباب الصراع أو غيرها، وأن الأخذ بمعيار طبيعة الأطراف المتصارعة هو لأغراض الدراسة التي تركز على استجابة الولايات المتحدة الأمريكية كطرف ثالث لتلك الصراعات. كما أنه لا توجد فواصل حقيقية بين الأنماط الثلاثة سالفة الذكر، وقد توجد جميعها داخل دولة واحدة.

- الصراعات العرقية: شهدت منطقة القرن الأفريقي، خاصة بعد نهاية الحرب الباردة، موجة عارمة من الصراعات العرقية اجتاحت الكثير من دول المنطقة. ورغم تعدد الأسباب التي أدت إلى نشوبها، إلا أنه غالبا ما يتم توظيف البعد العرقي بشكل سياسي، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى المطالبة بحق تقرير المصير، والذي اعتبره المحلل جوناثان فوكس السبب الرئيسي لتصاعد الصراع العرقي وزيادة أعمال العنف. وهناك عدة سياسات واستراتيجيات تتبعها الدول لمواجهة وإدارة الصراع العرقي منها ما هو سلمى ومنها ما هو قسري. ويركز هذا المطلب على دراسة الصراع في أثيوبيا باعتبارها أنموذجا واضحا للصراع العرقي داخل المنطقة.

- الصراعات القبلية والعشائرية: تُعد القبيلة أكثر الأشكال والكيانات الاجتماعية وجوداً في أفريقيا، وهي وحدة اجتماعية واقتصادية وسياسية متماسكة يسودها الولاء الطوعي من جانب الأفراد نحو الجماعة.. ويُقصد بالصراعات القبلية والعشائرية تلك الصراعات التي تنشب بين قبيلتين أو أكثر داخل الدولة، أو التي تنشب بين العشائر والفصائل المختلفة داخل القبيلة الواحدة لأسباب ودوافع مختلفة. ويعتبر الصراع في الصومال من أشهر حالات الصراع القبلي العشائري في منطقة القرن الأفريقي..

وعلى الرغم من تجانس الشعب الصومالي، إلا أنه يعانى من عدة انقسامات على أسس قبلية وعشائرية وتقسيمات أخرى فرعية. وتوجد داخل الصومال ست قبائل رئيسية، وهى: قبيلة الدارود "وتمثل نحو 35 % من إجمالي السكان"، والهاوية "23%"، والإسحاق "23%"، والدير "7%"، والديجل والرحانوين ويمثلان معا نحو 11%. وتنقسم هذه القبائل إلى عشائر، حيث تنقسم قبيلة الإسحاق على سبيل المثال إلى ثماثي عشائر رئيسية هى: هبر أوال، وهبر يونس، وهبر الإديجال، والعرب، وأربعة عشائر لهبر جالو.

وتنقسم العشائر إلى فصائل، وتنقسم الفصائل إلى مجموعات النسب الأساسية، وتنقسم الأخيرة إلى مجموعات دفع الدية. وعلى الرغم من أنه لا توجد منطقة جغرافية محددة لكل قبيلة، إلا أن قبائل الإسحاق والدير تتركز في الشمال، بينما تتركز قبائل الديجل والرحانوين في الجنوب، وتنتشر قبيلة الهاوية حول العاصمة مقديشيو، في حين تنتشر قبيلة الدارود في الجنوب والشمال، واشتغلت القبائل التي سكنت المناطق الجنوبية بالزراعة؛ بينما يشتغل سكان المناطق الشمالية بالرعي.

وقد ساهم الاستعمار في تعميق الفوارق والاختلافات بين القبائل داخل الأقاليم الصومالية المختلفة، خاصة وأنها لم تخضع لمستعمر واحد حيث خضع الإقليم الشمالي والمنطقة التي تقع الآن في شمال كينيا للاستعمار البريطاني، وخضع الجنوب للاستعمار الإيطالي، وسيطرت فرنسا على المنطقة التي تُعرف الآن بجيبوتي، كما قامت إثيوبيا بضم الصومال الغربي "الأوجادين" إليها.

- صراعات الأقاليم الداخلية: يقصد بصراعات الأقاليم تلك الصراعات التي تنشب بين إقليمين مختلفين داخل الدولة الواحدة، وعادة ما توجد الحكومة في أحدهما. وينشأ الصراع لأسباب مختلفة، فقد ينشأ نتيجة مطالبة أحد الإقليمين بالمشاركة في السلطة أو الثروة "أو في كليهما"، أو نتيجة المطالبة بالانفصال عن الدولة، أو حتى نتيجة وجود اختلافات عرقية بين سكان الإقليمين، أو غير ذلك من الأسباب..

زر الذهاب إلى الأعلى