عشرون عاماً مضت منذ أن رفرف علم دولة الوحدة اليمنية عالياً في سماء مدينة عدن جنوب اليمن، إيذاناً بميلاد الجمهورية اليمنية كمحصلة مسار لدولتين شطريّتين ظلتا تحكمان جنوب اليمن وشماله لأكثر من ربع قرن بأيديولوجيتين متناقضتين، في ظل ظروف الحرب الباردة التي وسمت المنطقة خلال تلك الفترة وانطفأت مع انهيار جدار برلين، الذي تزامن مع تحقيق اليمنيين لحلمهم القديم بتصحيح مسار تاريخهم السياسي الممزق بين شمال وجنوب.
يوم ارتفع علم دولة الجمهورية اليمنية بكى كثيرون من رموز وقادة النظامين في صنعاء وعدن، ولم يعرف على وجه الدقة سبب بكائهم، ولم يذهب أحد إلى أن ذلك شعور بالفقد للعلمين الشطريين اللذين كانا يعبران عن هوية الدولتين الناشئتين من رحم صراعات عهود النظام الإمامي الملكي المتعصب مذهبياً في الشمال، وعهود النظام الاستعماري البريطاني ذي النزعة الاحتلالية في الجنوب.
يومها رقص اليمنيون وغنوا وأقاموا الاحتفالات، تعبيراً عن نشوتهم بتحقيق الحلم التاريخي الذي طالما راود الحركة الوطنية اليمنية في الشمال والجنوب طوال عقود، وطغت شعارات الوحدة بطريقة عاطفية حجبت كثيراً من الدعوات والأصوات الرامية إلى تكريس قيم العدالة والمصالحة والمشاركة، ونبذ النزعات الاقصائية والاستحواذية التي رافقت ميلاد الوحدة اليمنية، وتتصدى لكل التحديات التي قد تنشأ جراء حركية الدولة الجديدة، لكن تلك الأصوات كانت تواجه بسياط الترهيب والتخويف والإرعاب والتشويه، ووصمها بمعاداة الوحدة، ومحاربة تطلعات الشعب، واقتتل حكام شطري اليمن في إطار دولة الوحدة تكراراً لما كانوا يقومون به عندما كان كل طرف يحكم قطعة جغرافية، الأولى تدعى الجمهورية العربية اليمنية، والثانية تدعى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، المفارقة أن أكثر من حربين كبيرتين جرتا قبل ميلاد دولة الوحدة عام 1990 كانتا تتمان تحت غطاء تحقيق الوحدة اليمنية، أما حرب صيف 1994 فقد جرت تحت شعار تحقيق الانفصال اليمني!!.
أزمة اليمن الموحد
واليوم، يتساءل كثيرون كيف ولماذا بدأت الأزمة التي تواجه الوحدة اليمنية؟ ومن يتحمل المسؤولية فيها؟ وهل دخلت نفقاً مظلماً لا مخرج منه؟ وإلى أي مدى يمكن القوى السياسية والاجتماعية اليمنية في السلطة وخارجها أن تتعاون للوصول إلى برّ الأمان، وهل الدعوات المنادية بالانفصال أو فك الارتباط تحظى بقبول شعبي جارف إن لم يكن إجماعاً في جنوب البلاد؟ وما علاقة المحيط الإقليمي والبعد الدولي في تفاقم هذه الأزمة وتعقيدها؟
أسئلة كثيرة أخرى يمكن أن تنشأ عند الحديث عن الوحدة اليمنية والمأزق الذي تواجهه، التي تشهد حراكاً يتراوح بين النشاط السياسي الاحتجاجي والمعارض الذي تقوده الأحزاب السياسية المعارضة الناشطة على كامل الساحة الجغرافية اليمنية، إلى عمليات عنيفة وحركات مسلحة تشهدها بعض المناطق الجغرافية كالحركة المسلحة الحوثية في شمال اليمن وبالتحديد في محافظتي صعدة وعمران، وعمليات قوى الحراك الجنوبي التي بدأت نشاطها سلمياً وتطور أداء بعض فصائلها إلى عمليات عنيفة وصدامات مسلحة في عدد من محافظات جنوب اليمن مثل محافظة لحج والضالع وأبين. هنا سنتناول فقط جذر أزمة اليمن الموحد، والأسباب التي أدت إلى بروز هذا الحراك السياسي والفكري في أوساط النخبة حول الوحدة اليمنية ومدى صلاحيتها بعد عشرين عاما من قيامها.
العبث باتفاقات الوحدة
يبحث الدكتور محمد عبد الملك المتوكل الأمين المساعد لاتحاد القوى الشعبية في جذر الأزمة بقوله: «دخل الجنوب عام 1990 في وحدة مع الشمال دون تصفية لآثار ومخلفات صراعاته، فكان ذلك إحدى الأدوات التي استخدمتها النخبة الحاكمة في الشمال للتخلص من شراكة الحزب الاشتراكي في الحكم». و أضاف المتوكل: «إذا كان هناك في الشمال من عانى ويعاني في القضايا الحقوقية ما يشبه إلى حد ما، ما حدث في الجنوب إلا أن الاختلاف جليّ وواضح في وضع الجنوب في الجانب السياسي حيث لا تمكن مقارنته بأي جزء في الشمال»، يوضح هذه النقطة بقوله «إن الجنوب كان دولة حين دخل الوحدة، وقد دخلها بكل مؤسساته وثرواتها وهويتها وهمومها، وفي إطار معاهدة دولية ودستور موقع من الطرفين ومستفتى عليه، وقد أقرنت الوحدة بالديمقراطية والتزام المتعاقدين بشروط بناء الدولة المؤسسية الحديثة، الذي نصت عليه وثيقة العهد والاتفاق الموقعة من كل القوى السياسية في السلطة وخارجها».
الاشتراكي يتحمل المسؤولية
في المقابل يرى القيادي (الحزب الحاكم) عضو الأمانة العامة في المؤتمر الشعبي العام أحمد عبد الله الميسري أن المشكلة بدأت قبل قيام الوحدة اليمنية, عندما دخل الحزب الاشتراكي اليمني الوحدة ولم يلملم جراحات الصراعات التي توارثها أبناء الجنوب منذ الاستقلال عام 1967، وما ترتب عليها من قتل وتشريد ووجود كثير من القوى السياسية في الشمال وكثير من القيادات منفية في الخارج وكثير منها تحت الأرض».
وتحدث عن أحداث 13 كانون الثاني 1986 التي قال إنها «قضت على نخبة النخبة من قيادات الحزب الاشتراكي وشرّدت النخبة الباقية، وظلت ثلة قليلة منها، ولهذا دخل الاشتراكي في تحقيق الوحدة اليمنية والاحقاد مازالت هي المهيمنة، بدليل الشروط التي طرحتها قيادة الحزب الاشتراكي ألا يدخلوا العاصمة صنعاء عشية قيام دولة الوحدة إلا بعد نفي قيادة الحزب التي خرجت في 1986 من صنعاء».
وعن القيادات الجنوبية التي احتلت مواقع قيادية بعد حرب صيف 1994 قال «إنها لم تستطع أن تحدث التوازن على الأقل في تحمل الهم العام وتبني قضايا أبناء المحافظات الجنوبية ورفع المظالم، وانتظر أبناء الجنوب طوال الفترة التي جاءت بعد الحرب أن تتحقق كثير من مطالبهم وآمالهم التي حرموا منها ثلاثين عاماً دون جدوى، وأرجأ السبب الرئيس في ذلك إلى سوء أداء الدولة ومؤسساتها، وأكد أن أبناء المحافظات الجنوبية لم يكن لديهم أي توجه للانفصال، وقال: «تعلمنا وتربينا في مدارسنا ونحن نهتف بحياة الأمين العام للجنة المركزية للحزب الاشتراكي الحاكم عبد الفتاح إسماعيل، وهو من أبناء المحافظات الشمالية، ولم نسأل عن هوية محسن الشرجبي عندما كان وزيراً، فثقافة أبناء الجنوب هي في الأصل ثقافة وحدوية لكنها تغيرت كثيراً وبدأت تهتز وتتعرض لانتكاسة في ما بعد للأسف».
وأعرب عن أسفه لطريقة تعامل السلطة والمعارضة على حد سواء مع الحراك الذي قال إنها طريقة تسير في الاتجاه الخطأ، فالسلطة تقوم بمعالجات وقتية وترقيعية، وتعيينات وكيل في الضالع ووزير من أبين لا تحل المشكلة، لكن رفع مظلمة عن أسرة نهب متنفذ كبير أرضيتها يمكن أن تسهم في تخفيف الاحتقان.
تدمير مقومات الدولة
يرى الدكتور عيدروس النقيب (رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي اليمني) أن الحركة الاحتجاجية في جنوب اليمن ما هي إلا رد فعل تراكمي حصل طوال مرحلة ما بعد حرب صيف 1994، ووصل إلى مرحلة من المعاناة والألم نقلته إلى لحظة نوعية هي الحركة الاحتجاجية السلمية التي شهدناها في السابع من تموز 2007، وبقية الأحداث اللاحقة في ما بعد، وقال «هذا الحراك هو عبارة عن رد فعل طبيعي لما تلا تلك الحرب المدمرة التي أتت على الأخضر واليابس وقضت على المشروع السلمي الوحدوي الديمقراطي التصالحي، وأتت بمشروع آخر غير ذلك الذي تم الاتفاق عليه عام 1990». وعن الوحدة قال النقيب: «الوحدة ليست عبارة عن دمج نظامين أو أرضين وإنما هي انتقال نوعي في حياة الناس نحو تحقيق تنمية مستدامة وقدر من العزة والكرامة للإنسان، وتحقيق مزيد من الديمقراطية والحقوق المدنية والحريات، ومزيد من الاستقرار الاقتصادي والمعيشي للناس، فإذا لم تتحقق هذه العناوين فإن الوحدة تظل ذلك الحلم الجميل الذي لا نزال نحلم به حتى وإن كنا قد أعلنا تحققه».
وردًا على سؤاله الذي طرحه على نفسه: لماذا هذا الحراك الآن؟ ما الذي دفع المواطن الجنوبي إلى الخروج في هذا الحراك الشعبي الاحتجاجي؟ يجيب: «كان في الجنوب سياسة تضمن فرص التعليم المتساوي وتنظم سوق العمل، وكان المواطن يحصل على فرصة العلاج المجاني من مستشفيات الدولة من الإسعاف الأولي، مروراً بمنحه الدواء والحقن، وانتهاء إلى السفر للعلاج في الخارج، وكانت أجهزة الأمن والقضاء تتصف بالنزاهة والعدالة والحضور والصرامة والشدة مع المواطنين، وقد يعتقلك الشرطي لو أعطيته سيجارة، لأنه يعتبر ذلك رشوة، أما اليوم فإنه سوف يعتقلك إذا لم تعطه، فأمر طبيعي أن يبحث هذا الإنسان عن الدولة الغائبة، والنظام المفقود من خلال أكثر من سبيل ربما بينها الانغماس في هذا الحراك الاحتجاجي».