ليس من المبالغة القول بأن أكبر تحدٍ تواجهه اليمن على الإطلاق يكمن في صمود الحكومة اليمنية أمام الضغوط الأميركية المتزايدة والتدخل المباشر وغير المباشر في الشأن اليمني تحت غطاء الحرب على "القاعدة" بعد أن استبدلته استراتيجية أوباما الجديدة بدلاً من الحرب على "الإرهاب".. وذلك ما تقوله حقائق الواقع ومؤشرات المرحلة المقبلة..
الاثنين الماضي أسفرت غارة جوية أميركية "على الأرجح" عن مقتل نائب محافظة مأرب وأمين عام المجلس المحلي "جابر علي الشبواني" وأربعة من مرافقيه بالخطأ، بينما كانت الغارة تستهدف عناصر من "القاعدة"، وهو الأمر الذي سارعت السلطات اليمنية إلى إعلان أسفها لوقوعه فور الحادثة، فيما وجه الرئيس علي عبدالله صالح بتشكيل لجنة تحقيق في الحادثة.
الغموض ما زال يكتنف المشهد، في حين نجحت السلطات اليمنية من نزع فتيل التوتر بعد ثلاثة أيام من أجواء الحرب والمواجهات شهدتها محافظة مأرب بين قبائل عبيدة وقوات الجيش، وافقت على إثرها قبائل آل شبوان وعبيدة على التحكيم القبلي مقابل إشراك عدد من مشائخها في لجنة التحقيق التي كلفها الرئيس صالح.
لكنه حتى وإن نجحت السلطات اليمنية هذه المرة في اتخاذ الموقف المناسب لاحتواء الأزمة بالإسراع فوراً إلى إعلان أسفها لمقتل الشبواني ومرافقيه وتشكيل لجنة تحقيق بأوامر من الرئيس علي عبدالله صالح، إلا أن وقوع الحادثة بهذه الطريقة سوف يترك آثاراً سلبية على أي خطوات قادمة تزمع الحكومة القيام بها في سياق حربها على تنظيم "القاعدة"، كما تمثل الحادثة ذاتها نقطة تحول جديدة في مسار الحرب على "القاعدة" في اليمن من جهة، وتلقي بظلالها على طبيعة العلاقة المستقبلية بين مختلف الأطراف المعنية بهذه الحرب من جهة ثانية.
ومنذ حادثة اغتيال زعيم "القاعدة" السابق "أبي علي الحارثي" العام 2002، مروراً بعمليات القصف الجوي الأخيرة على مراكز وتجمعات التنظيم في أبين وشبوة ومأرب، لم يكترث ساسة البيت الأبيض لأي حسابات يمنية أو عواقب محتملة جراء هذا النوع من الأعمال التي لا تضر عناصر "القاعدة" بقدر ما تسقط هيبة الدولة اليمنية في الحضيض، وتوفر مناخات أكثر تشجيعاً لاتساع نشاط "القاعدة" وزيادة أنصاره والمتعاطفين معه، كما تضيف مساحة جديدة للتنظيم في معركته الإعلامية الموجهة لكسب ودّ القبائل اليمنية وتحريضها ضد السلطات اليمنية ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية نفسها.
اليمنيون يعتقدون أيضاً بأن ست حروب طاحنة شهدتها محافظة صعدة وأهلكت الحرث والنسل، كانت انطلقت شرارتها الأولى ابتداءً من طلب تقدمت به السفارة الأميركية بصنعاء إلى السلطات اليمنية لمنع عناصر "الشباب المؤمن" من ترديد شعار "الموت لأميركا" في المساجد، باعتباره تحريضاً على الولايات المتحدة، قبل أن تشتعل جبال صعدة وحرف سفيان حرباً ضروساً ما كادت لتتوقف لولا أن الرغبة الأميركية كانت حاضرة حين بدأ رُسل "القاعدة" في اليمن يثيرون الرعب داخل الأراضي الأميركية.
وجاءت الحملات الأمنية وعمليات القصف الجوي بصواريخ كروز وطائرات من دون طيار خلال ديسمبر ويناير الماضيين في أبين وأرحب وشبوة، ليذهب معظم ضحاياها من الأطفال والنساء، ثم تعترف الولايات المتحدة بالوقوف وراءها، وفي تلك الأثناء كادت البلاد أن تغوص في مستنقع من الدماء وتدخل نفقاً مظلماً لا يمكن الخروج منه، وأخيراً تأتي حادثة مقتل الشبواني في مأرب الأسبوع الماضي لتفتح على البلاد واحدة من أسوأ المشاكل التي شهدتها اليمن، لولا أن السلطة تعاملت معها بشكل أكثر اتزاناً وعقلانية، وإن كانت القضية لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات.
والغريب أن هذه الضغوط والتدخلات الأميركية في اليمن تأتي في الوقت الذي تحذر العديد من التقارير والدراسات الصادرة عن مراكز البحوث وصناعة القرار في أميركا من أي تدخل أميركي مباشر في اليمن، غير أن الإدارة الأميركية الحالية مستمرة في إعادة إنتاج تلك السياسات المستفزة للشعب اليمني المعروف بتركيبته القبلية والدينية المعقدة.
الأسبوع الماضي، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما عن استراتيجيتها للأمن القومي الأميركي، تشير فيها إلى أن دور الولايات المتحدة سوف يقتصر على دعم الحكومات المحلية لتتحمل المسؤولية في الحرب على "القاعدة"، وترتكز الاستراتيجية الجديدة على أساس أن "ثقل القرن الجديد لا يمكن أن يقع على أكتاف أميركا وحدها"، كما يقول الرئيس أوباما، لكن بالتزامن مع ذلك يكشف مسؤولون أمريكيون عن معلومات جديدة بشأن التدخل الأميركي في اليمن، مؤكدين بأن "الجيش الأمريكي وأجهزة الاستخبارات الأمريكية كثفت جمع المعلومات باستخدام طائرات استطلاع وأقمار صناعية واعتراض الإشارات لتتبع أهداف القاعدة داخل وخارج قواعدهم في اليمن"، بما يعزز من العمليات الأمريكية ضد التنظيم وقادته.
تصريحات المسؤولين الأميركيين أنفسهم تبدو متضاربة بشأن تحديد طبيعة التدخل الأميركي في اليمن، ففي حين يقول مسؤول عسكري أمريكي الأسبوع الماضي لوكالة رويترز "ما زلنا ندعم اليمنيين في تصديهم لهذا التهديد داخل حدودهم"، يذهب مسؤول أميركي آخر إلى الاعتراف بأن هناك "خطا دقيقا" بشكل متزايد يفصل بين لعب دور داعم وأخذ زمام المبادرة.
وفي وقت سابق، يؤكد منسق مكتب مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأمريكية دانيال بنيامين، في ورقة عمل قدمت إلى مؤتمر دولي نفذته مؤسسة كارنيجي بواشنطن مؤخراً، بأن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة لمكافحة الإرهاب والتطرف في اليمن، تعتمد على تدريب قوات الأمن الداخلي والمركزي وقوات مكافحة الإرهاب والمساعدة في الرقابة على الحدود وأمن المطارات ومعرفة الوثائق المزورة، وغيرها.
ويأتي توسيع نشاط الاستخبارات الأميركية وجمع المعلومات في اليمن، في أعقاب أمر سري أصدره في سبتمبر الماضي الجنرال ديفيد بتريوس قائد القيادة الوسطى بالجيش الأمريكي، يسمح بإرسال قوات أمريكية خاصة إلى دول صديقة وعدوة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقرن الإفريقي لجمع المعلومات الاستخبارية وبناء علاقات مع القوى المحلية، وتسمح خطة بتريوس للقوات الأمريكية بأن تنشط في اليمن بعد ثلاثة أشهر من بدء العمل بها، حيث تعمل تلك القوات على تفكيك تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية.
وخلاصة الأمر أنه إذا كانت الولايات المتحدة قد تخلت عن فكرة الحرب الاستباقية، بحسب استراتيجية الأمن القومي الجديدة، فإن البديل يبدو أسوأ في حال استمرت إدارة أوباما في الضغط على الحكومات "الحليفة" حسب وصفها، للقيام نيابة عنها بالدور المطلوب في الحرب على "القاعدة"، الأمر الذي من شأنه أن يخلق حالة من الفوضى والاحتراب الداخلي في هذه البلدان ويعمل على تعطيل مهام الدولة واستهلاك قدراتها وإمكانياتها في حرب معقدة، فشلت الولايات المتحدة نفسها ومعها الحلفاء والناتو في إدارتها من قبل في أفغانستان والعراق وباكستان، فهل يعقل أن تنجح فيها حكومات ضعيفة ومنهكة كاليمن.