arpo28

علي عبد الله صالح.. حكايا الدَّم

كثيراً ما روج الإعلام الرسمي لصالح باعتبارهِ رجلاً "غير دمويّ"، لكنَّ الرجل ذا الخلفية العسكرية خاض عدة حروب داخلية خلال سنوات حكمه المتفاقمة؛ تسبب فيها بمقتل عشرات الآلاف من مواطنيه وخسرت اليمن فيها مليارات الدولارات فضلاً عن الخسارات الأخرى بسبب الفساد وسوء الإدارة وفشل السياسات الحكومية.

يدافع أنصار صالح – الذي يواجه ثورة شعبية عارمة تطالب برحيله – بوصفه رجلٌ غير دموي، مثل هذه البروبجندا التي شاعت خلال السنوات الماضية لم تعُد تجدي الآن، فالرجل ذو الشارب الأسود والشعر الأبيض القصير والوجهٌ المتهدل؛ لم يعد قادراً على خداع شعبه الذي يعاني ما يقرب من ثلثيه من الجهل والأمية، حتى مواطنو الأرياف والقرى النائية والمناطق القبلية ممن لا يكترثون لمتابعة الصحُف ووسائل الإعلام أصبحوا اليوم على دراية تامة بما يقترفه نظام صالح في حق اليمنيين من ظُلم من خلال الاحتجاجات الشعبية التي أصبحت اليوم ثورة تجتاح مختلف المناطق اليمنية بانتماءاتها وتوجهاتها المتنوعة.

لقد لعب صالح خلال 32 سنة من حكمه على أوتار البلد السياسية المعقدة بذكاء، واستطاع من خلال أسلوبٍ جديد لم يتعود عليه اليمنيين في الحُكم ولا في المُمارسة أن يتحكم بالبلد الذي يقطنه 25 مليون شخص، وتمتد مساحته على مدى نصف مليون كيلومتر مربع، وتحفل بنيته الديموغرافية بتباينات كثيرة، لكن أسلوبهُ هذا هو ما أدى إلى الخراب الذي يعيشه اليمنيون الآن بعد ثلث قرن من حُكم الرجل ذو الخلفية العسكرية، حيث البطالة والفقر ونفوذ مراكز قوى ما قبل الدولة، والفساد وغياب الديمقراطية، مع نجاح صالح ومنظومة حُكمه المترابطة على أسس نفعية وانتهازية في ضرب منظومة القيَم والأخلاقيات التي تأسس عليها المجتمع اليمني وكانت ذات فضل فيما اكتسبه هذا الشعب العريق من تاريخ مشرف تراجع إلى أدنى المستويات في الآونة الأخيرة.

كثيراً ما كان الرئيس اليمني يتحدث عن توليه للسلطة في اليمن وهو حاملاً كفنه بيديه، والواقع يؤيد ذلك طبعاً، لكن على قاعدة أن صالح كان يحمل أكفاناً لأعدائه الذين ناوءوه في الحُكم، فأثناء انقلاب الناصريين عليه في 15 أكتوبر 1978 قام صالح عبر أجهزة المُخابرات والداخلية بالانتقام من الانقلابيين حيثُ قُتل العشرات وربما المئات منهم؛ بعضهم في مُحاكمات علنية وآخرين دون أن يعرف عنهم أحد، وآخرون على هيئة اغتيالات مجهولة الفاعلين، بينما تمت ملاحقة مئات السياسيين من المنتمين للحزب الناصري الذي كان يعمل بشكل سري في تلك الحقبة وكذلك أعضاء سريين في اليسار الماركسي المحظور في الشمال اليمني، والزج بهم في السجون وتعذيبهم وربما لقي بعضهم حتفه في المعتقل بسبب التعذيب كما تقول روايات غير أكيده من أُسر بعض المُختفين قسرياً في تلك الفترة.

لكن حرب صالح مع الضباط والعسكريين المسرحين عنوة من الجيش اليمني بعد أحداث أغسطس 68 الشهيرة، والذين كونوا فيما بعد ما تم تسميته ب "الجبهة الوطنية في المناطق الوسطى" التي كانت تحظى بدعم من حكومة الحزب الاشتراكي في جنوب اليمن، امتدت لسنوات قليلة لاحقة من توليه السلطة، وخلال هذه السنوات تعرض عددٌ ممن يُعتقد أنهم ينتمون إلى هذه الجبهة من وجهاء ومشائخ ومواطني المناطق الوسطى لاغتيالات مُفجعة، وعلى الأقل فإنهُ بالإمكان توجيه الاتهام لأحد طرفي النزاع نسبةً لانتماء من تم اغتيالُهم لهذا الطرف أو ذاك، بيد أن هذا لم يتم في ظل ظروف استثنائية من عدم الاستقرار لم تتوقف إلا بعد سنوات من حلول عقد الثمانينات من القرن العشرين.

سنواتٌ قليلة من الهدوء، شهدت اليمن فيه بعض التنمية والاستقرار خلال ما تبقى من سنوات الثمانينات والأيام الأولى من الوحدة اليمنية عام 90 ليعود التوتر للساحة اليمنية مجدداً خلال تأزم الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية خصوصاً بعد رجوع ما يقرب من مليون مغترب يمني في المملكة العربية السعودية ودول الخليج بعد موقف اليمن الذي اعتُبر مؤيداً للعراق في احتلاله للكويت، وقد وصل الصراع لذورته إذ انفجرت الدماء خلال تظاهرات 11 و12 ديسمبر من عام 1992م والتي خرجت بعد قرار الحكومة رفع أسعار السلع وتم مواجهتها بأقصى درجات العنف بتعز التي يقول بعض شهود عيان أنه تم قتل المواطنين عشوائياً بمُضاد الطائرات أو ما يسميه السكان المحليون ب "مُضاد 12-7" بعد حملة نهب واسعة لمؤسسات حكومية وخاصة كان أبطالها من رجال الأمن وشارك فيها بعض المواطنين، ويروي أحدهم أن الدماء غطت أبواب وجدران المحال التجارية إثر عمليات القتل.

وبالتزامن مع هذه الأحداث كان ثمة حملة اغتيالات مُريبة تجري بحق قيادات في الحزب الاشتراكي اليمني الشريك الجنوبي في وحدة الشطرين، وأدت هذه الحملة إلى توتر شديد في العلاقة السياسية بين شريكي الوحدة اليمنية، بالإضافة إلى بعض الإجراءات الحكومية التي فُسرت أنها محاولة لسحب بساط السلطة من الجنوبيين، ودخول "الإخوان المسلمين" كطرف معطل في المعادلة السياسية اليمنية بدعم خفي من سلطة صنعاء تكشف لاحقاً من أجل التنصل من الالتزامات الموقع عليها من قبل صالح مع الجنوبيين في اتفاقية الوحدة بحسب ما أفاد عبد الله الأحمر رئيس مجلس النواب السابق في مذكراته، هذا وغيره أدى بالنتيجة إلى حرب أهلية ضارية في العام 1994 فيما أسماه إعلام صالح بحرب الانفصال والتي قامت بين قوات صالح وحزبه "المؤتمر الشعبي العام" وحلفائه من الإخوان المسلمين والقبائل وأعداء الحزب الاشتراكي في الجنوب من أبناء السلاطين من جهة، وبين الحزب الاشتراكي وقواته العسكرية من جهة أخرى، أدت بالنتيجة إلى هروب قادة الحزب الاشتراكي وسقوط عدن في 7/7/1994 بعد شهرين ونيف من القتال الضاري الذي أكل الأخضر واليابس وخلف عدداً ضخماً من القتلى قدر عدده بما يقرب من 10 آلاف قتيل بالإضافة إلى آلاف الجرحى بين مدني وعسكريّ، والملايين إن لم تكن المليارات من الدولارات التي استنزفت خزينة الدولة، وأدت إلى نكسة اقتصادية وسياسية واجتماعية لا زال اليمن يدفع ثمنها حتى اليوم.

غير أنّ حمام الدم في يمن علي عبد الله صالح لم يتوقف، وبينما أسفر انتصار نظام صنعاء في حربه ضد الجنوب إلى حملة ضخمة من السلب والنهب تعرضت لها عدن من قبل حلفاء الرئيس صالح، وصلت إلى حد سلب متعلقات المنازل الرخيصة والعادية، فإن هذا الانتصار كان فاتحة لأزمة تتضخم يومياً ككرة الثلج وهو ما عرَّف نفسه على هيئة احتجاجات أدت إلى ما يُسمى بالحِراك الجنوبي السلمي المُطالب بانفصال الجنوب عن الشمال، الذي أدى سوء الأداء الحكومي واستشراء الفساد بشكل مهول والمحسوبية وانزواء صالح باتجاه تعيين أقاربه في المناصب العليا والحساسة بالدولة، بالإضافة إلى أداء صالح السياسي الذي يتركز على اختلاق الأزمات وتعزيز التناحرات من أجل السيطرة على الجميع، أدى في النهاية إلى نشوب ما سُمي بحرب صعدة بين القوات الحكومية والمتمردين الشيعة في شمال اليمن من أتباع رجل الدين حسين الحوثي، والتي انتهت في جولتها الأولى بانتصار الحكومة، لتتحول فيما بعد – بحسب بعض المُراقبين – إلى حروب من أجل السمسرة وعقد الصفقات مع أمراء الحرب خلال ست جولات أُخرى تسببت بمقتل ما يقرب من 20 ألف شخص، لا يُعرف فيما إن كان هؤلاء من طرف الدولة أم من طرف الحوثيين أم الاثنين معاً، كما تسببت هذه الحرب بجولتها الأخيرة فقط بخسائر تقدر بـ750 مليون دولار بالإضافة إلى انتهاك السيادة من قبل القوات السعودية التي دخلت في عِراك مع الحوثيين لضرب مواقعهم في الشمال اليمني.

وبالتزامن مع هذا الصراع أيضاً نشب صراعٌ يمنيٌّ آخر في الجنوب، بين الحراك الجنوبي والمتمخض من احتجاجات بدأت خلال العام 2007م للمتقاعدين العسكريين الذين تم تسريحهم من الجيش الذي عمل صالح على تعزيز نفوذ الشماليين فيه على حساب القادة الجنوبيين، بالإضافة إلى آثار الحرب وما ترتب عليها من أضرار، وخلال سنوات من الصراع بين المتظاهرين الجنوبيين المُطالبين بانفصال الشطر الجنوبي من اليمن عن الشمال، وبين الأمن اليمني سقط أكثر من 400 شهيد حتى فبراير المنصرم.

وبالعودة إلى ما يُسمى بثورة الشباب التي بدأت في 11 فبراير الماضي فإن قوات الحرس الخاص التابعة لنجل صالح أحمد، وقوات الأمن المركزي التابعة لابن أخيه يحيى وكذا بعض المؤيدين للرئيس وحزبه "المؤتمر الشعبي"، قد قتلوا عدداً كبيراً من الضحايا من المتظاهرين الذين يزداد عددهم يوماً بعد يوم ليصل الآن إلى ما يزيد عن 130 قتيلاً بالإضافة إلى مئات الجرحى سواءً أكان ذلك عبر الضرب أو الرصاص الحي، وبعض هؤلاء يعانون من عاهات مستديمة كالشلل وفقدان النظر وفقدان الأطراف، وقد كانت أقوى محطات العنف تلك التي تعرض لها المتظاهرون في عدن ما بين 11-22 فبراير، حيث استشهد عدد من الشباب من المتظاهرين، وكذا القنبلة التي رماها مؤيدون لصالح وسط جمع كبير من المعتصمين بتعز في 18 فبراير 2011 والتي أدت لإصابة ما يقرب من 90 شخصاً ومقتل شخص واحد على الأقل، وكذا جرح ومقتل عدد من الأشخاص خلال الاعتداء على الاعتصام السلمي بصنعاء خلال شهري فبراير ومارس اللتان توجتا بمجزرة الجمعة 18 من مارس الماضي حيث أدى اعتداء قناصة يُقال أنهم يعملون لحساب صالح على المُصلين في ساحة التغيير بصنعاء بعد صلاة الجُمعة أدى في مُجملة إلى استشهاد 52 شخصاً، وخلال الأسبوع المنصرم قتلت قوات الأمن المحلية بتعز وعسكريون تابعون للحرس الخاص والأمن المركزي الذين يقودهما نجلي صالح وأخيه محمد، ما بين 20 – 30 شخصاً بحسب إفادة شهود عيان.

لم يعُد أمام صالح الكثير من الوقت لرحيله عن سُدَّة الحُكم، لكن تعنت الرجل السبعيني الملول والمريض، والقمع العنيف الذي تتعرض له مظاهرات المناوئين له والذين يمثل غالبيتهم قوى مُعارضة غير مُمثلة بأحزاب سياسية ومجاميع من الشباب المستقلين، تعملُ بجدية على إنهاء حُكمه الذي شارف على الانهيار، وتسقط ورقة التوت التي لطالما كانت مصدراً للعبث بوعي الناس وللحصول على التأييد باعتبار صالح "مفتاح" الاستقرار في البلد الذي لم يذُق طعم الطمأنينة، أو بوصفه "رجلاً غير دمويّ" وهي التُهمة التي أثبت صالح براءته منها.

زر الذهاب إلى الأعلى