في هذه الدراسة الهامة يجيب الدكتور إسماعيل السهيلي عن تساؤلات هامة حول أسباب تبني بعض القوى كالحزب الإشتراكي والجماعات المسلحة كالحوثي للفيدرالية كشكل للدولة القادمة في اليمن ويوضح بتفصيل مخاطر التحول للفيدرالية متهما دعاة الفيدرالية بتضليل الرأي العام مؤكدا على أن الفيدرالية ستغذي نوازع الصراع المناطقي والتشظي بين المحافظات وكذلك الصراع على الثروات والموارد وتحدث الدكتور السهيلي عن مسئولية أعضاء مؤتمر الحوار الوطني وكذلك القوى التي ساندت الثورة في هذه المرحلة مؤكدا على أن اليمن في مفترق طرق فإلى التفاصيل:
الإشتراكي لماذا يتبنى الفيدرالية
تروج كثيراً من القوى لضرورة تغيير شكل الدولة اليمنية من الدولة الموحدة إلى الدولة الفيدرالية ( الاتحادية) ، وتتعد مآرب تلك القوى في اليمن بين الحزب الاشتراكي الذي يرى أنه في المدى المنظور يستحيل عليه أن يصبح حزباً حاكماً في ظل الدولة الموحدة ، ومن ثم قادته حساباته الحزبية الضيقة للاعتقاد بأن بمقدوره أن يكون حزباً حاكماً في المحافظات الجنوبية لو تم تبديل شكل الدولة اليمنية الموحدة إلى دولة فيدرالية ، وبين بعض فصائل الحراك التي حسمت خيارها بضرورة تحقيق انفصال المحافظات الجنوبية ولكنها تعتقد أنه من الصعب تحقيق ذلك الخيار في الوقت الراهن ومن ثم قادها تقديرها للموقف إلى تبني خيار الفيدرالية كمنزلة بين المنزلتين ( الوحدة والانفصال ) واعتبارها مقدمة تُهيئ وتُنضج الظروف الملائمة للانفصال مستقبلاً ، ومن ثم قررت المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني لتعمل من خلاله لتقيق الفيدرالية.
الفيدرالية تخدم جماعة الحوثي
وفيما يتعلق بالمحافظات الشمالية تبرز جماعة الحوثي التي تمكنت بقوة السلاح تارة وبالتحالفات الخفية تارة أخرى من فرض وجودها وإحكام سيطرتها على مناطق جغرافية في الشمال ، ومع الثورة الشعبية وتغيير النظام الحاكم بدأت الجماعة في البحث عن شرعية تمكنها من الاستمرار في السيطرة على تلك المناطق وتوسيع نفوذها في مناطق أخرى ولقد قادتها تقديراتها للموقف إلى أن من شأن تحويل شكل الدولة اليمنية من دولة موحدة إلى دولة فيدرالية أن يمثل صيغة دستورية مطلوبة لاستمرار سيطرتها وتمهيداً لتعزيزها بأشكال جديدة من الشرعية مستقبلاً .
كذلك تبرز القوى المدنية اللبرالية التي ترى في استمرار الدولة اليمنية الموحدة عائقاً أمام نموذجها الفكري والسياسي الذي تجهد لتطبيقة في اليمن ، ومن ثم فهي تعتقد بتلازم نجاح مشروعها اللبرالي والآخذ بالفيدرالية التي تسمح من الناحية الدستورية بتعدد التشريعات واختلافها من إقليم لآخر.
دعاة الفيدرالية وتضليل الرأي العام
ويلاحظ على هذه القوى المتعددة أنها في غمرة ترويجها للفيدرالية تجهد بشكل مركز على تضليل الرأي العام اليمني فتقدم له فقط الجوانب الايجابية للفيدرالية مع الإصرار على إغفال السياقات والظروف التي جعلتها تنجح في بعض البلدان وتقود في بلدان أخرى إلى الانفصال كما الحال في السودان على سبيل المثال ، وفوق كل هذا فتلك القوى تتعمد الابتعاد عن أي حديث عن حقيقة الفيدرالية وأنها وفقاً لموسوعات وأدبيات العلوم السياسية تناسب عادةً البلد الذي يختلف فيه المواطنون من حيث دياناتهم وأصولهم العرقية ولغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم المشترك ، وأنه في الدولة الفيدرالية يكون هنالك نوعان من الحدود حدود خارجية بين الدولة وغيرها من الدول، وحدود داخلية معترف بها دستورياً بين الأقاليم داخل الدولة، وأنه يوجد لكل إقليم دستور خاص به وحكومة منتخبة من قبل مواطني ذلك الإقليم ومجلس نيابي (برلمان) منتخب، وسلطة قضائية، وحرس وطني ( شرطة) ولا مانع من وجود علم ونشيد "وطني" خاص بالإقليم ، ومن ثم فالفيدرالية في المحصلة تعني تحويل الدولة الموحدة من دولة ذات سيادة واحدة إلى دولة تتقسم فيها السيادة بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم وبموجب ذلك تتشكل أقاليم ذات سيادة داخل الدولة ولا ينقصها سوى السيادة الخارجية ( الاعتراف الدولي) لتصبح دولة مستقلة.
مخاطر التحول للفيدرالية
وعليه فإن تحويل اليمن إلى دولة فيدرالية يستلزم ابتداءً تقسيم الدولة اليمنية الموحدة إلى أقسام يحلوا للبعض تسميتها أقاليم وهذا هو شرط أساسي لا يُمكن بدونه الانتقال إلى الدولة الفيدرالية فالاتحاد الفيدرالي لا يحدث إلا بين أجزاء مقسمة وليس بين كيان موحد .
ونحن نتحدث عن الترويج لتحويل اليمن من دولة موحدة إلى دولة فيدرالية ومخاطر ذلك التحول لا يسعنا تجاهل أن ذلك الترويج قد حقق قدراً من النجاح في تزييف تصورات بعض المواطنين وخاصة في المحافظات الجنوبية، ولاسيما في خداع البسطاء بإيهامهم أن المشاكل المتفاقمة في تلك المحافظات سوف تحل بالفيدرالية، بينما كثير من المحللين السياسيين والاجتماعيين يقولون بخلاف ذلك وأنه من المحتمل بشكل كبير في حالة الأخذ بالفيدرالية أنها سوف تيقظ في تلك المحافظات الإحن والثارات وتستدعي الماضي بصراعاته المناطقية وفصائله المتناحرة، بل إن هنالك من يعتقد أن من شأن الفيدرالية أن تنمي نزعات الهُويات الضيقة التي تختمر عجينتها في بعض المحافظات الجنوبية من قبيل مزاعم " عدن للعدنيين "ودعوى أن لحضرموت هُويتها المستقلة المختلفة عن الهُوية اليمنية وأنها تتمتع بمقومات دولة مستقلة ينبغي السعي إليها ، وكذلك مزاعم الهُوية المستقلة للمهرة وسقطرى ولغتهما الخاصة التي بدأت بعض الجهات الأجنبية في النفخ فيها لتمثل مستقبلاً الذريعة التي سيتم الاتكاء عليها لتقسيم المقسم وتجزئة المجزئ .
الفيدرالية ستغذي نوازع التشظي
إضافة للمخاطر السابقة المترتبة على تحويل اليمن من دولة موحدة إلى دولة فيدرالية من المتوقع أن تتضخم نوازع التشظي تحت تأثير حافز الأثرة المرتكزة على تصور خاطئ قوامه أن من شأن الفيدرالية أن تُمكن المحافظات الجنوبية من تحقيق التنمية والتقدم ومستويات عالية من الرفاهية الاقتصادية لسكانها نظراً لوجود النفط في بعض تلك المحافظات، وفي هذا السياق عادة ما يتجاهل من يروج لهذه الوعود أن النفط يوجد حالياً في محافظتي حضرموت وشبوة ، ومن ثم فإن المتوقع أن يستمر مسلسل الأثرة ويطالب أبناء هاتين المحافظتين بصيغة جديدة للتعامل مع المحافظات التي لا تنتج النفط كالضالع ولحج وعدن والمهرة، ولعل هذه الصيغة سوف تكون الكونفيدرالية، والتي هي مرحلة تالية من تقسيم المقسم وتجزئة المجزئ وفيها يتم التحول إلى وضع الدول المستقلة ذات السيادة الكاملة، مع وجود مجلس للتنسيق بينها لتحقيق نوع من التعاون الاقتصادي أو السياسي أو الأمني .
الفيدرالية واحتمال الصراع بين المحافظات
وفي هذه الحالة المتوقعة يبرز الاحتمال الكبير وهو حصول الصراع مزدوج بين المحافظات المنتجة للنفط وغير المنتجة في إطار المحافظات الجنوبية, وصراع آخر بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم التي تنتج النفط وتسعي للاستئثار بكل أو بمعظم عوائده, وهذا ما حصل بالضبط بين حكومة السودان الفيدرالية وحكومة الجنوب قبل انفصاله, وهو ما يحصل حالياً بين الحكومة العراقية في بغداد وحكومة إقليم كردستان فلقد وضعت قوات الجيش العراقي وقوات البشمركة على مشارف المواجهة المسلحة حتى هذه اللحظة .
الفيدرالية والصراع على الموارد والثروات
وعلى ذات السياق فإن المخاطر المترتبة على تحويل اليمن من دولة موحدة إلى دولة فيدرالية سوف تمتد إلى احتمال حدوث نزاعات حدودية بين الأقاليم التي ستتكون منها الدولة الفيدرالية وذلك بسب الموارد والثروات التي قد توجد في المناطق الحدودية بين الأقاليم والتي سيدعى كل إقليم أحقيته بها.
الفيدرالية وتغذية الصراع المناطقي
كذلك من المحتمل في ظل الشحن المناطقي المتنامي أن يتم في بعض الأقاليم انتهاج سياسات لتهجير أو للتضييق على المواطنين الذين يسميهم بعض أعضاء مؤتمر الحوار " غرباء " أتوا من محافظات أخرى فامتلكوا الأرض والتجارة والزراعة والصناعة وبنو البيوت وتكاثروا في أرض " السكان الأصليين" .
اليمن على مفترق طرق
ختاماً إن اليمن على مفترق طرق وجميع اليمنيين الذين يؤمنون بوحدة اليمن أرضاً وإنساناً دولة ومجتمعاً مطالبون بتجنب السقوط في مستنقع المشاريع الصغيرة وفي فخ الحلول المغرية والساذجة التي تجعل الدولة الفيدرالية هي البديل الوحيد لعلاج مظالم وفساد النظام السابق في مختلف محافظات الجمهورية والجنوبية على وجه أخص.
مسئولية أعضاء الحوار وفريق القضية الجنوبية
وفي تقديري أن أعضاء مؤتمر الحوار الوطني وفريق القضية الجنوبية على وجه الخصوص يتحملون مسئولية كبرى أمام الله ثم أمام الشعب والتاريخ وهذه المسئولية توجب عليهم عدم البت في قضية مصيرية للشعب اليمني الذي ليس بمقدورهم أن يزعموا أنهم مختارين من قبله ، وذلك يحتم عليهم في الوقت الراهن العمل على أن يتجه فريق القضية الجنوبية ومؤتمر الحوار عموماً لمناقشة السبل الكفيلة بتمكين وإلزام الحكومة من رفع المظالم وتلبية الاحتياجات المطلبية للمواطنين في المحافظات الجنوبية قبل أن تُطرح الفيدرالية ، ثم بعد إجراء الانتخابات البرلمانية الحرة والنزيهة ووجود مجلس نواب منتخب من قبل الشعب اليمني يتم مناقشة الخيارات المطروحة بناءً على دراسات علمية يعدها خبراء يمنيون ليقرر نواب الشعب على ضوئها شكل الدولة المناسب، ومنها خيار اللامركزية الإدارية الذي نعتقد أن من شأن الآخذ به أن يُمكن سكان كل محافظة من إدارة شئونها المحلية بصلاحيات إدارية كاملة، وبصورة تقضي على الفساد والمركزية التي كانت سبباً في إعاقة التنمية وتكريس التخلف ليس في المحافظات الجنوبية بل في جميع محافظات اليمن
القوى المساندة للثورة على المحك
أخيراً لا يفوتنا التأكيد على أن القوى والأحزاب السياسية التي قادت الثورة على النظام السابق في موقف لا تحسد عليه, وعليها أن تدرك أن الشعب اليمني لم يخرج في ثورته السلمية من أجل أن تقسم الدولة اليمنية الموحدة إلى أقاليم تنتظم في دولة فيدرالية تغري بمسلسل من التشظي والانفصال, كما ننبه تلك القوى والأحزاب إلى ما يروجه على نطاق واسع أنصار النظام السابق أنه حقق الوحدة اليمنية وأن الثائرين عليه سوف يفرطون بها .
*أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإيمان
ومدير مركز البحوث للدراسات السياسية والإستراتيجية